تحقيقات

ندرة غاز الطهي ووفرة الغاز المسيل للدموع

الديمقراطي – أم زين آدم

لا تخفي ربة المنزل مريم محمد أحمد، قلقها إزاء شح وندرة غاز الطهي الحالية، فمنذ أكثر من شهر تقبع أسطوانة الغاز خاصتها في ركن قصي بطرف وكيل الغاز بضاحية الأزهري جنوبي العاصمة الخرطوم.

لـ(مريم) مثيلات في كل أركان العاصمة وفي الولايات، كان أملهن ممدوداً أن تنجلي الأزمة بحلول شهر رمضان، بيد أنها تفاقمت، وأغلق وكلاء الغاز أبواب محال البيع للمستهلك مع وعد بالاتصال عبر الهاتف لمعرفة ما إذا توفر الغاز أم لا.

ومع شكوى ربات المنازل من غياب غاز الطهي شبه الكامل قبيل وخلال الأسبوع الأول من رمضان، يشكو الثوار في المواكب من كثرة الغاز المسيل للدموع.

مشاهد المعاناة

على مدار الأيام الماضية، تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي صوراً وفيديوهات لصف طويل من أسطوانات الغاز بمنطقة السواقي الجنوبية بكسلا شرقي البلاد، ووصف الصف تهكماً بأنه أطول صف أسطوانات في العالم.

أزمة الغاز الحالية رفعت سعر جوال الفحم النباتي إلى (13) ألف جنيه للنوع الممتاز، وحوالي (9) آلاف لصنف أقل جودة، بارتفاع حوالي (30%) من سعره قبل شهر، أي في بداية الأزمة الحالية.

تحتاج الأسرة المتوسطة في الخرطوم يومياً -بحسب التقديرات- إلى فحم بأكثر من ألف جنيه لأغراض الطهي وإعداد الشاي والقهوة، حيث يصل الاستهلاك الشهري إلى نحو (35) ألف جنيه حال لم تفز بأسطوانة غاز. ووصل سعر الأسطوانة في السوق السوداء ما بين (11) ألفاً إلى (15) ألفاً للأسطوانة زنة (12.5) كيلو جرام، هذا للمحظوظين، فالسوق السوداء تعاني من الشح أيضاً. وهذه الأسعار تبدو خيالية مقارنة مع الأسعار مطلع العام، حيث كان سعر الأسطوانة (800) جنيه.

أول قفزة في أسعار غاز الطهي حدثت في الثامن من فبراير الماضي، حينما أعلن مدير إدارة النقل والبترول بولاية الخرطوم، الطيب خالد، زيادة سعر بيع أسطوانة الغاز للمستهلك، لتصبح بسعر (1200) جنيه بنسبة زيادة (50%). وفي 20 فبراير رفعت وزارة الطاقة والنفط السعر إلى (3200) جنيه للأسطوانة، بنسبة زيادة (167%)، قبل أن تتراجع بعدها بساعات. ثم ها هو السعر الرسمي الآن يرتفع في صمت ليهتك حاجز الـ (3000) جنيه، وتجعله الندرة نعمة مفقودة، فالمطروح هو أضعافه في السوق السوداء.

البيئة في خطر

أما في الولايات، فالغاز تزداد ندرته، ويتوفر الفحم بصورة أكبر. ففي حين كان سعر جوال الفحم نحو (10) آلاف جنيه في الخرطوم مع بداية الأزمة الشهر الماضي، كان سعره (5) آلاف فقط في الدمازين حاضرة ولاية النيل الأزرق.

وأوضح محلل الشؤون الاقتصادية عبد الوهاب جمعة أنه حين تظهر أزمة الغاز في الخرطوم، فإن أزمة ندرة وشح أكثر استفحالاً تكون قد سبقتها في الولايات، خاصة مناطق الريف التي لن تنتظر وعود الحكومة بانفراج الأزمة قريباً، ويلجأ الناس مباشرة للاحتطاب من الغابات، والتي تعاني أصلاً من نوبات الجفاف ومشاكل الرعي والزراعة غير المخططة، إذ تشهد قطعاً جائراً للأشجار من أجل حرق الفحم، مما يهدد الحياة الطبيعية.

ويرى جمعة أنه حال تم إحصاء الأشجار التي تمت إزالتها والمساحة التي تمت تعريتها ستكون الأرقام صادمة، والنتائج كارثية، مما يهدد جهوداً مضنية بذلت طوال الفترة الماضية لمخاطبة الأهالي بضرورة الامتناع عن الاحتطاب والتوسع في استخدام غاز الطهي.

تأتي هذه المخاطر البيئية على خلفية شح الأمطار هذا العام، إذ عانت (14) من أصل (18) ولاية في البلاد من موجات جفاف وفقما جاء في نشرة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، مما يشير للمخاطر العظيمة على الغطاء النباتي السوداني بسبب الزحف الصحراوي الذي يشكل الاحتطاب الجائر أحد أسبابه الرئيسية.

أسباب الندرة

الأعطال وأعمال الصيانة وعدم توفر النقد الأجنبي كلها أسباب أدت لظهور ندرة وشح الغاز بين الفينة والأخرى، وخلال السنوات الأخيرة ظلت أزمة غاز الطهي حاضرة باستمرار.

وأوضحت مديرة شركة مصفاة الخرطوم، الشهيرة بمصفاة الجيلي، منيرة محمود، في تصريحات صحفية أن سبب الشح الحالي يعود إلى عطل في وحدة التكسير في المصفاة الأولى والرئيسية، والمصفاة عبارة عن مصفاتين أولى وثانية.

وسبق أن تعرضت مصفاة الخرطوم لعطل بسبب تسرب للبترول العام الماضي، أما العطل الأخير في مارس المنصرم فلم يتم تداركه إلا في الثاني من أبريل.

وكشف د. عصام محمد أحمد مدير المنشآت النفطية بالوزارة لـ (الديمقراطي) والذي تم إعفاؤه من منصبه الاثنين، أن العطل حدث في الوحدة الرئيسية للمصفاة، الأمر الذي أوجب إيقاف المصفاة بشكل كامل، “فالمصفاة تعمل تحت ضغط عالٍ ودرجات حرارة عالية جداً، والصيانة تتطلب إيقاف المصفاة بصورة كاملة لثلاثة أيام على أقل تقدير حتى تحصل برودة كاملة وتتسنى بالتالي معالجة العطل مهما كان بسيطاً”، وفقما قال.

وذكر المدير السابق للمنشآت النفطية أن العطل الأخير تمت معالجته في الأسبوع الأول من الشهر الجاري، وعزا استمرار أزمة الغاز لمشاكل في التوزيع، وقال إن إنتاج الغاز الآن يسير بصورة مرضية تصل إلى ألف طن من الغاز يومياً.

مشاكل التوزيع

لتفادي الوقوع في أحابيل أزمة الغاز والانتظار الطويل في الصفوف، لجأت كثير من الأسر إلى اقتناء أكثر من أسطوانة غاز من مختلف الشركات، وهناك (12) شركة عاملة في مجال توزيع غاز الطهي. أكثر من أسطوانة للأسرة واحدة من وجوه الأزمة وفقاً لاقتصاديين، إذ تتكدس الأسطوانات لدى المقتدرين وتنعدم لدى الأسر المعدمة.

وهناك مشكلة أخرى في التوزيع وهي التهريب، فقد أوضح المهندس أيمن أبوالجوخ من منصبه كرئيس للجنة العليا لطوارئ الوقود في مايو 2020م، أن الاستهلاك اليومي للغاز يقدر بنحو (1500) طن، وذلك بناء على الكميات التي يتم توزيعها يومياً، لكنه ذهب إلى أن الكمية الموزعة ليست مؤشراً حقيقياً لحجم الاستهلاك، لجهة أن كميات كبيرة يتم تهريبها عبر الحدود، مما يجعل الطلب للغاز متزايداً ويؤدي إلى حدوث الفجوات.

الحكومة الانتقالية التي أطاح بها انقلاب 25 أكتوبر الماضي أبقت على دعم معقول لغاز الطهي، وأوكلت مهمة توزيعه للجان الخدمات بالأحياء السكنية، كبديل لوكلاء الغاز لمحاربة السمسرة والسوق السوداء والتهريب وتحاشي زيادة سعر الأسطوانة للمستهلك دون مبرر موضوعي. إلا أن سلطة الانقلاب أعادت مهمة توزيع الغاز للوكلاء، وهدد والي الخرطوم الذي نصبته سلطة الانقلاب بسحب الرخص منهم بسبب عدم التزامهم، وفقما قال.

حقائق حول إمدادات الغاز

إمداد الغاز يتم عن طريق الإنتاج المحلي عبر شركة مصفاة الخرطوم، ومقرها الجيلي شمال الخرطوم، وهي الشركة الوحيدة المعنية بالمنتجات النفطية في السودان، مملوكة بالمناصفة بين الحكومة السودانية وشركة البترول الوطنية الصينية.

تنتج مصفاة الجيلي ما بين (750) و(1000) طن من الغاز يومياً، مما يعني أن المصفاة توفر ما بين (50%) إلى (66%) من الاستهلاك المحلي (البالغ 1500 طن يومياً)، ولسد عجز احتياجات الاستهلاك تلجأ الحكومة لاستيراد الغاز من الخارج حسب الحاجة، فتستورد إما (4) بواخر حمولة (5) آلاف طن، أو باخرتين حمولة (12) ألف طن، لتغطية العجز في الشهر الواحد.

وأفاد المحلل الاقتصادي جمعة بأن الحكومة إن أرادت سد العجز بسبب تعطل المصفاة، فستواجه بقلة الاحتياطي من النقد الأجنبي، فهي تشتري بالدفع الفوري لا الدفع الآجل، وفي هذه الحالة ستشتري بسعر أعلى، بجانب أن هناك حالة من الشد والجذب بين وزارتي الطاقة والمالية، وهي حالة تعود لقائمة أولويات الصرف لدى المالية، إذ إن استيراد الغاز ليس في مقدمتها.

وفرة الغاز المسيل للدموع

في حين يعاني المواطن بين فينة وأخرى من ندرة الغاز، فلا تكاد تنفرج أزمة حتى تمسك بتلابيبه أخرى، ويعيش الثوار في المواكب المتكررة وفرة في استخدام الغاز المسيل للدموع.

وشكا وزير المالية الحالي، جبريل إبراهيم، من أن كلفة الغاز المسيل للدموع لتفريق وضرب المحتجين المطالبين  بالحكم  المدني بلغت (70) ألف دولار في اليوم، مما يعني أن توفير النقد الأجنبي للغاز المسيل للدموع مقدم لدى السلطة الانقلابية على  توفير غاز الطهي للمنازل، والذي يشكل سلعة حيوية لا غنى عنها، وبغيابها تتفاقم معاناة المواطن السوداني، وتتأثر البيئة سلباً بما يهدد الغابات ويزيد من مخاطر الجفاف والتصحر، أعدى أعداء الحياة في السودان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى