الرأي

نحن ودرس الديمقراطية في أميركا

(1)
إذا كانت هوليود قد برعت في مشاهد الخيال العلمي السينمائية فقد برعت واشنطن دي سي في تقديم مشاهد الواقع في الممارسة الديمقراطية ذات الشفافية العالية وحرية التعبير التي تعبر أحيانا حاجز القانون ليتيح هذا العبور بدوره حراكا جدليا ديمقراطيا مباشرا في تجريب وتطبيق كل مواد القانون والدستور واختبارها على سطح الأحداث كما تختبر أجهزة تنبيه الحريق وتصاعد الدخان في الأبنية .
ما حدث في السادس من يناير من اقتحام لبعض مناصري الرئيس ترمب من الرعاع كما أسماهم بايدن في خطابه والذين تبرأ منهم ومن فعلهم الرئيس ترمب نفسه نتيجة ضغوط أخلاقية من بعض أعوانه وهو يتجمل من هول الوحشية التي سجلتها كاميرات المراقبة في مشهد هوليودي فريد أثار ذهول الأميركيين والعالم تمت قراءته على طريقتين الأولى من منظور شمولي كما عكسته بعض وسائل الإعلام العربية التي تحاول أن تسوق فوضى الممارسة الديمقراطية وتجاوزاتها في محاولة لتلميع الأنظمة الشمولية القابضة وإبراز قدرتها على حفظ الأمن والنظام عن طريق القمع أما الثانية قراءة أخرى من منظور ديمقراطي تبرز قدرة النظام الديمقراطي وهيبته التي تجعل الجميع سواسية أمام القانون لا ميزة أو حصانة لرئيس حتى لوكان رئيس الولايات المتحدة أمام المساءلة والمحاسبة وفق الدستور والقانون تصل إلى درجة العزل بقوة مجلس النواب التي هي قوة الناخب الأميركي .
(2)
لقد قدمت الممارسة الديمقراطية الأميركية في كابيتول هيل بكل تجلياتها واختلافاتها سواء الممارسة السياسية من قبل الحزبين الديمقراطي والجمهوري أو الدور الذي لعبه الإعلام الحر أو حتى من قبل التزام المؤسسة العسكرية والأمنية الأميركية بحماية التظام الديمقراطي ومؤسساته والوقوف بمهنية أمام رغبات الرئيس ترمب غير المشروعة في عرقلة نتائج الانتخابات وعدم إعلانها بشتى الوسائل قدمت دروسا في كيفية الحفاظ على الديمقراطية كخيار حضاري وقيم ومثل حضارية جعلت من أميركا سيدة العالم وأكبر قوة اقتصادية وعسكرية يخشى بأسها .
وما درس المؤسسة العسكرية والأمنية الأميركية إزاء هذه الأزمة وما تم من مساءلات واستقالات نتيجة بعض التقصير أو التواطؤ من بعض أفرادها الذين تهاونوا بسبب تداخل المسؤوليات عن قصد أو تواطؤ إلا برهانا على أن عقيدة المؤسسة العسكرية الديمقراطية ومهنيتها كانت أكبر عاصم لها باعتبارها سياجا حاميا للديمقراطية مهما كان حجم التناقضات الداخلية بين أطراف العملية السياسية .
(3)
الديمقراطية حين تصبح قيمة وسلوكا ثقافيا وحضاريا تشكل حائط صد أمام كل درجات السطحية والطموحات غير المشروعة من جميع الفاعلين السياسيين الذين تغويهم السلطة خارج نطاق الالتزام بالقانون والدستور وقد رأينا كيف أن وسائل الإعلام الأميركية الكبرى ووسائل التواصل قد مارست سلطتها في حماية القيم الإنسانية والديمقراطية من خلال وقف التحريض والتعبئة السلبية التي كان مصدرها الرئيس بحرمان ترمب من استغلال منصات الإعلام الحر للتحريض حفاظا على أمن وسلامة المجتمع رغم تحفاظات البعض الذين لم يفرقوا بين ممارسة الحرية لحماية الديمقراطية واستغلال الإعلام لهدمها مثلما حدث في السودان في عام 89 حين لعب إعلام الاخوان والتيار الإسلامي دورا كبيرا في تشويه الديمقراطية الثالثة تمهيدا لانقلابهم الذي أطاحه الشعب بثورته بعد ثلاثة عقود من المعاناة.
(4)
ورغم الوضع المختلط في السودان بين شركاء الحكم الانتقالي الذي أنتجته الوثيقة الدستورية التي للأسف لم يتم الالتزام ببنودها إلا أن المقارنة بين وضعية احترام المؤسسات الدستورية في أميركا ومؤسسات الانتقال في السودان تبدو بعيدة جدا رغم أنها تظل مثالا لتبين الخطى والسبل للديمقراطية التي يمارسها العالم الحر والتي نتمناها لبلادنا وهو ما يقتضي تواضع القوى المدنية والعسكرية المتحالفة على اتباع هذه الأسس والشروط والقيم لننتج نظاما ديمقراطيا يكون المستفيد الأول منه المؤسسة العسكرية والأمنية قبل غيرها من المؤسسات الأخرى إن هي تمسكت بعقيدة ديمقراطية راسخة وآمنت بها ووعيت دورها وواجباتها وحدود اختصاصاتها وإن وعت القوى السياسية والأحزاب ضرورة شروط توفرها على النضج السياسي لإدارة الأزمات وبرامج التطور وتحمل المسؤوليات كما تحمل الكونغرس الأميركي مسؤولياته وأقر قيم الخيار الديمقراطي دون كبير على القانون سواء كان رئيسا أو مؤسسة عسكرية أو مدنية وإن كانت بحجم مؤسسات الولايات المتحدة الأميركية. أما من يروجون لفشل الديمقراطية عبر برامج التوك شو في بعض البلاد التي يحكمها الرئيس القائد فالسؤال هو هل تملك المجالس النيابية الصورية في هذه البلدان أن توجه فقط صوت لوم للرئيس ناهيك أن تعزله؟
(5)
وأخيرا على هامش هذا الدرس الديمقراطي الأميركي المستفاد يحق لنا أن نتساءل كمواطنين أليس من العيب تعمد إرجاء تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي الذي يفترض أن يكون ممثلا للشعب وحاميا للثورة ولحقوقه الدستورية وحتى يتعلم أعضاؤه المختارين من غيرهم في العالم الحر كيف يمارسون حرية الدفاع عن خياراتهم الديمقراطية وكيف يصنعون خياراتهم في السلم والحرب وكيف يكيفون سياساتهم الخارجية والداخلية كمشرعين تمهيدا لبناء مجلس ديمقراطي متكامل وكامل الشرعية عبر انتخابات حرة ونزيهة أسوة بغيرنا في العالم الحر إلى متى يظل هذا الغياب المصنوع إذا كان فعلا شركاء الفترة الانتقالية يؤمنون بالديمقراطية كممارسة ومؤسسات وثقافة وسلوك حيث ليس من عذر وحيث لا صحة لصلاة باستدامة التيمم عبر رخصة المجلسين في حضرة وجود الماء .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى