الرأي

نحن لا نتذكر لكي ننسى أو نغفر:  أو حول ذاكرة السمك وانخفاض كلفة الخطأ السياسي في بلاد السودان (1)

د. بكري الجاك

منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين تم ابتداع مصطلح الدولة الفاشلة (  The failed or failing State) وتعرف الدولة الفاشلة بأنها الدولة التي يعاني نظامها السياسي والاقتصادي من الضعف إلى درجة أنها لم تعد قادرة على القيام بمهامها الأساسية كدولة ذات سيادة، تعريف آخر للدولة الفاشلة أنها الحيز السياسي والجغرافي الذي تقطعت أوصاله إلى درجة فشل الدولة ككيان ذو سيادة قادر على القيام بمهامه الأولية مثل توفير الأمن وحماية الحدود وتوفير أبسط شروط الحياة للمواطنين وفي الوقت نفسه تفقد الدولة شرعية وجودها الاجتماعي نتيجة لفشلها في القيام بهذه المهام الأساسية.  في مقال له في الدورية العلمية المعروفة “العالم الثالث” (Third World Quarterly ) تحت عنون  خطأ مفهوم الدولة الفاشلة ( The Fallacy of ‘the Failed State’) انتقد شارلس كول  Charles T. Call مفهوم الدولة الفاشلة ووصفه بأنه فضفاض و يمكن أن ينطبق على العديد من الدول التي قد تكون تواجه ظروف استثنائية مؤقتة. و برغم إشكالية ونسبية المصطلح إلا أن السودان لم يفارق ذيل قائمة الدول الفاشلة منذ أن تم تحويل المفهوم إلى حزمة مقاييس كمية ونوعية على ضوئها يتم تقييم الدول وترتيبها. في هذه السطور أنا لست معني بإثبات صحة أو خطأ مفهوم الدولة الفاشلة أو إمكانية تطبيقه ولا حتى بتقديم قائمة بالأسباب التي جعلت من السودان دولة فاشلة فقد كتب عن أسباب الفشل بكل اللغات إضافة إلى أن المواطن السوداني يعايش هذا الفشل وهو ليس بحاجة إلى إطار نظري لتفسير واقعه، ما أود أن أتحدث عنه هنا هو جانب سيسيولوجي يتعلق بحالة أشبه بفقدان الذاكرة الجمعية التي تخفض كلفة الأخطاء السياسية للفاعلين السياسيين، الأمر الذي يوفر الشروط الموضوعية لاستمرار حالة الفشل وترسيخها.

فقد درج المثقفون السودانيون الكتابة والحديث عن الدائرة الشريرة التي يمكن تعريفها في وضعية قيام نظام ديمقراطي ينتهي بانقلاب عسكري، ففي 1955 أول تجربة ديمقراطية انتهت بانقلاب أو بتسليم السلطة إلى الجيش بواسطة القيادة المدنية للدولة ومن ثم أتت ثورة اكتوبر 1964 بديمقراطية عقب فترة انتقالية قصيرة تبعتها انتخابات انتهت بحل حزب سياسي في 1968 (أقصد الحزب الشيوعي) وطرد عضويته من البرلمان ورغم صدور بطلان قرار طرد الحزب الشيوعي من المحكمة الدستورية انتهت التجربة الثانية بانقلاب 25 مايو 1969 الذي أعقبه انقلاب 1971 أو كما قيل انقلاب لتصحيح مسار انقلاب 1969 ثم انتفاضة أبريل في 1985 التي أتت بحكومة انتقالية قصيرة تلتها ديقراطية هشة ثم انقلاب الإسلاميين 30 يونيو 1989 حيث كانت تجربة الإسلاميين عبارة عن محصلة كل الشر السياسي في السودان، شر دام لثلاثين عاما حسوما وهي ليست نبتاً شيطانياً أو صدفة تاريخية بل حصيلة منطقية لكل الخطل الممنهج وبؤس الممارسة السياسية للتجربة السودانية. ومنذ ديسمبر 2018 تولدت لدى السودانيين روح جديدة وإرادة سياسية فذة نتيجة لعوامل عديدة منها ماهو ذو علاقة بأمور المأكل والمشرب ومنها ماهو نهضة ضد القمع والقهر ومنها ما هو نتيجة منطقية لفقدان الدولة لشرعيتها الاجتماعية إذ لم تعد للدولة قيمة أو معنى لدى قطاعات كبيرة من السودانيين وها نحن الآن نتعثر في مسيرة الانتقال مرة أخرى بعد أن أنهينا حكم أسوء الأنظمة الشمولية في تاريخنا وجلنا يخشى العودة إلى إحدى حلقات العسكر الذين ربما يعودون هذه المرة في زي المدنيين وبمؤسسات اقتصادية موازية لجهاز الدولة وتعمل باستقلال عنه وهذا أمر يستحق القراءة والتحليل ربما في مقام آخر.

الأمر المذهل في هذا السرد هو أنه محض سرد لا يجرم أو يحاسب أخلاقيا أو معرفيا لا أفراد ولا كيانات سياسية كانت وراء كل هذا التاريخ المحتشد بالفشل والخيبة، فالجنرال عبود لم يقم بانقلاب بالمعنى الحرفي للانقلاب بل دعي لاستلام السلطلة بواسطة رئيس وزراء يمثل حزب سياسي عريق وحل الحزب الشيوعي في البرلمان تم بواسطة توافق حزبين كبيرين هم الامة و الاتحادي وانقلاب 1969 قام به تحالف من الضباط الأحرار شمل يساريين ماركسيين وقوميين عرب وبإيعاز وتخطيط من الحزب الشيوعي وأول حكومة لمايو كان فيها الراحل فاروق أبو عيسى وزيرا كما كان فيها جوزيف قرنق وزيرا وغنى لها وردي أسطورة الغناء السوداني “في حكايتنا مايو” ورغم هذا يأتي من يقول لك “تهمة لا أنكرها” وانقلاب 1971 قام به الحزب الشيوعي ومازال هنالك من فاقدي الذاكرة الذين يسمونه بالثورة التصحيحية وانتهى بمذابح دموية كانت بمثابة تقنين وتطبيع لممارسة العنف في الحياة السياسية السودانية. وبعدها تحولت مايو إلى الغرب ذو التوجه الرأسمالي في لعبة الحرب الباردة وأصبح منصور خالد (أحد اعظم المفكرين السودانيين) عرابا لهذه الحقبة المايوية بصحبة آخرين من الرجال والنساء منهم من قضى نحبه و منهم البعض الذين ما زالوا يؤثرون في حياتنا كصناع رأي من دبلوماسيين مخضرمين وكتاب وسياسيين.

يتبع…

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى