الرأي

نحتاج إلى ثورة ثقافية

حسن أحمد الحسن

الثورة التي فجرها الشعب السوداني بكل أطيافه الشعبية رجالاً ونساءً وشباباً، أحزاباً ومنظمات وفئات والتي انحازت إليها القوات المسلحة التي كان لانحيازها دوره الكبير في تقليل الخسائر أيا كانت ملاحظات البعض حول ملابسات ذلك الانحياز وتداعياته التي أفضت إلى شراكة بين العسكريين والمدنيين لن تكتمل إلا بثورة ثقافية شاملة تجعل من الوعي الذي كان أحد سمات الثورة ثقافة سلوكية في الممارسة السياسية والإدارية اليومية، وهو مالايزال ينقص هذه الثورة العظيمة وينتقص من تأثيرها وفعلها في التغيير ويعرضها لهزات بسبب اختلاف وتباين المفاهيم حول الأدوار والواجبات.

الحالة السياسية السودانية حالة فريدة ومعقدة فالسودان هو البلد الوحيد الذي لايزال يعاني من تعقيدات تركيبته السكانية والثقافية والسياسية رغم سعيه الحثيث ومحاولاته لتحويل ذلك التباين إلى وحدة حقيقية وتحول الوطن إلى مرآة يرى فيها الجميع أنفسهم، وقد فرت ثورة ديسمبر المجيدة فرصة تاريخية ونادرة للشعب السوداني ليعبر إلى واقع جديد يتجاوز من خلاله كل هذه التباينات لبناء تجربة جديدة في القارة تجمع بين السودانيين في دولة تقوم على أساس الحقوق المتساوية بين المواطنين تحت ميزان العدالة والديمقراطية وحقوق الانسان.

ولتحقيق ذلك الهدف لابد من أن تفهم كافة مكونات المجتمع السياسية والاجتماعية والعسكرية دورها ومهامها على قاعدة من الفهم المشترك والثقافة الديمقراطية المشتركة لتتكامل الأدوار جميعا لتحقيق النهضة والبناء وترسيخ الشكل والمضمون الديمقراطي لهوية السودان وعقيدته السياسية .

لكن لابد من الإقرار بأن هناك معوقات وعقبات أساسية تعاني منها الحالة السودانية الراهنة تتمثل في الآتي :

أنه منذ الاستقلال في عام 56 من جملة 66 عام حكمت الأنظمة الشمولية العسكرية 52 عاما وحكمت الأنظمة الديمقراطية بكل أحزابها وتحالفاتها والفترات الانتقالية 14 عاماً فقط متقطعة ومتباعدة أي أنها لم تكمل ثلاث دورات انتخابية مجتمعة خلال أكثر من نصف قرن .

أن الثقافة الشمولية بفعل استدامة الأنظمة الديكتاتورية لعبت دورا كبيرا في تشويه النظام الديمقراطي والفاعلين الديمقراطيين بطريقة ممنهجة ومتراكمة أثرت على الوعي العام لكثير من الأجيال المتعاقبة ونرى التأثيرات السالبة لذلك حاليا في التداول اليومي من خلال شيطنة الأحزاب السياسية وقادتها عبر وسائل التواصل كتأثير مباشر لتلك الثقافة السائدة.

لعب النظام السابق دورا أساسيا في ضرب وتفتيت القوى السياسية التي تهدده بنهجها الديمقراطي من خلال التركيز الاعلامي والسياسي المضاد ومن خلال ما أسماه التخطيط الاجتماعي لإعادة تشكيل الخارطة الاجتماعية لخدمة أهدافه السياسية وقد شكلت الحرب والإبادة في دارفور مظهرا واضحا لتلك السياسات بغية ضرب نفوذ القوى المناهضة له  كماعمل على إحياء النعرات العنصرية وتعزيز الجهوية والقبلية بشكل سلبي من خلال سياساته لإضعاف المجتمع بوهم بناء قوته .

أنتجت هذه السياسة أيضا ثقافة عسكرة المجتمع من خلال بناء تنظيمات عسكرية وأمنية موازية وترسيخ العقيدة العسكرية الشمولية وربطها بمؤسسات ومصالح وشركات في مواجهة مدنية المجتمع والدولة وترسيخ قناعة أن مصالح هذه المجموعات الطيفلية الشمولية مرتبطة ببقاء النظام الشمولي والدفاع عنه .

على الجانب الآخر نشطت الجماعات والحركات المسلحة التي استفادت بدورها من رعاية دوائر سياسية ومخابراتية إقليمية ودولية تتعارض مصالحها مع مصالح النظام الشمولي في مراحل مختلفة ومع تغير الأوضاع السياسية أصبحت عبئا سياسيا وأمنيا على البلاد وعلى الثورة نفسها برغم مايجمعهما من أهداف عامة لكن أصبحت ثقافة العسكرة هي التي تحكم سلوكها رغم شعارات السلام أكثر مما تحكمه ثقافة الديمقراطية والثورة نفسها، وبدا هذا واضحا من خلال المساومات التي شهدتها طاولات الحوار وما أفضت إليه من اتفاقات وهو مايضع هذه الحركات في تحدي أمام مصداقيتها في سعيها نحو المدنية والإندماج في المجتمع .

أما المؤسسة العسكرية التي انحازت للشعب وثورته وفق تقديراتها السياسية والوطنية أصبحت تجد صعوبة حقيقية في التخلي عن مكاسبها التي ورثتها في ظل النظام الشمولي تحت لافتات مختلفة لأن عقيدتها الشمولية لاتزال هي التي تحكم سلوكها وتبقى قضية تغيير هذه الثقافة الشمولية رهينة بتغيير العقيدة الشمولية التي سيطرت ولاتزال على القوات المسلحة لأكثر من نصف قرن وهذا أهم التحديات التي تواجه الثورة.

إلى جانب القوات المسلحة أفرزت الحالة السودانية التي أنتجها النظام السابق جيوشا موازية أخرى أصبحت تشكل واقعا أمنيا واقتصاديا مسيطرا لابد من معادلة ما لتكون جزءا أصيلا من القوات المسلحة وفق عقيدة جديدة في ظل نظام ديمقراطي دستوري تضع حدا فاصلا بين دور الجندية في ظل نظام ديمقراطي ودورها في ظل الشمولية.

أما الحركات المسلحة فيحمد لتلك التي استجابت للحوار من أجل السلام رغم أنها مطالبة من منطلق الشفافية بتوضيح حجم قواتها وأماكنهم لا الإحجام عن ذلك أيا كان السبب إخفاء لضعفها أو إبقاءا لشوكتها .

ويظل التحدي ماثلا في بقاء حركتي الحلو وعبد الواحد اللذان يتكسبان من بقاءهما خارج دائرة السلام أكثرمن وجودهما ضمن منظومة الشعب السوداني وثورته حفاظا على مصالحهما السياسية والاقتصادية ونفوذهما المعنوي في كنتونات ومعسكرات يحرصان على بقاءها لبقاء نفوذهما كل حسب قدراته الشعبوية.

تحديات كثيرة تواجهها هذه الثورة تقتضي قدرا من الوحدة والتماسك وأن يدرك الجميع أدوارهم إن كانوا صادقين في بناء نظام ديمقراطي لن يكون سهلا ولن يكون طريقه سالكا في ظل غياب ثقافة ديمقراطية للمدنيين وعقيدة ديمقراطية للعسكريين وفي ظل تآمر مستمر لا يهمد ليل نهار من أعداء الثورة وعناصر النظام المباد في الداخل والخارج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى