الرأي

مِنْ أَيْنَ جَاءَوا؟!

 

الإثنين
بالخميس 20 يناير 2021م أصدر رئيس مجلس الوزراء قراراً أنشأ بموجبه «الآليَّة الوطنيَّة لحقوق الإنسان»، وألغى «المجلس الاستشاري لحقوق الانسان لسنة 1994م»، وقضى بأيلولة جميع أصوله وممتلكاته إلى «الآليَّة». لكن ينبغي عدم الخلط، من جهة، بين هاتين المؤسَّستين، الملغاة والجَّديدة، وبين «المفوَّضيَّة الوطنيَّة لحقوق الانسان لسنة 2004م»، و«المفوَّضيَّة القوميَّة لحقوق الإنسان لسنة 2009م» التي حـلت محلهـا، من جهـة أخـرى. فالأخيرتان ظلتا تتمتَّعان، في كلتي نسختيهمـا، بقدر كبير من الاستقلاليَّة، بينما «الآليَّة الوطنيَّة» و«المجلس الاستشاري» كلاهما مؤسَّسة حكوميَّة. والواقع أن «المجلس الاستشاري» أنشئ على نموذج «المجلس الاستشاري المغربي» الذي أسَّسه الملك الحسن الثَّاني، عام 1990م، لحماية حقوق الإنسان، والنُّهوض بها، ولو شكليَّاً، تحت ضغط المطالبات الشَّعبيَّة والدَّوليَّة. غير أنه شهد تطوُّراً هائلاً، حيث تمَّ تعديل قانونه في 2001م، وفي 2011م، فتحوَّل إلى «المجلس الوطني لحقوق الإنسان»، الذي يتمتَّع باستقلاليَّة أكبر، وصلاحيَّات أوسع، على صعيد حماية حقوق الإنسان، وتعزيز قيم الدِّيموقراطيَّة، بالاتِّساق مع «مبادئ باريس لسنة 1993م». أمَّا «المجلس الاستشاري السُّوداني» فقد بقي على حاله، حكوميَّاً، وبصلاحيَّات محدودة.
من جهتها، ونتيجة لنفس عوامل الضَّغط الشَّعبي والدَّولي، فإن «المفوَّضيَّة الوطنيَّة لحقوق الانسان لسنة 2004م» قد تكوَّنت، في البداية، ثمَّ ألغيت، وتكوَّنت بدلاً عنها «المفوَّضيَّة القوميَّة لحقوق الإنسان لسنة 2009م»، باستقلال كامل، وصلاحيَّات واسعة، وفق مبادئ باريس. لقد كان وراء ذلك التَّكوين، في الحالين، دافع السَّلام والإصلاح الدِّيموقراطي اللذين كانت تنتظرهما شعوب السُّودان كله، حيث «نيفاشا» إمَّا كانت على مشـارف التَّوقـيع، أو أنها وُقِّعـت، وتبقَّى قطف ثمارها، ولكن .. هيهات!
وهكذا، فإن رأينا، على هذا الأساس، هو ضرورة إيلاء الأولويَّة لتفعيل «المفوَّضيَّة» ذات «الاستقلاليَّة»، من حيث «التَّكوين» ومن حيث «الأداء». أمَّا انشاء «الآليَّة الوطنيَّة لحقوق الإنسان»، بديلاً عن «المجلس الاستشاري»، فعمل لا نرى أيَّة جدوى من ورائه لقضيَّة «حقوق الإنسان»، من زاوية نظر المجتمع المدني، رغم النَّص على أن من أهم مهام «الآليَّة» إشراك مكوِّنات هذا المجتمع في نشاطها، بعقد المشاورات والاجتماعات العامَّة، وورش العمل، مع مراعاة تمثيل المرأة، والشَّباب، وذوي الاحتياجات الخاصَّة، والنَّازحين واللاجئين .. الخ. فالأخذ والرَّدُّ، على أيَّة حال، مع المجتمع الدَّولي حول مدى التزام «الحكومة» بمعايير حقوق الإنسان، هو، في نهاية المطاف، عملٌ أقرب لـ «السُّلطة» منه للمجتمع المدني؛ وليس أدلُّ على ذلك من أن قرار تكوين «الآليَّة» نفسه يقصر مهمَّتها الأساسيَّة، صراحة، كما قد رأينا، على مساعدة الحكومة في إعداد تقارير السُّودان الدَّوريَّة عن حقوق الإنسان! هذا، فضلاً عن كون هذه «الآليَّة» جهازاً تابعاً غير مستقل، ليس، فقط، بطبيعة مهامِّها، وإنَّما بحكم تكوينها نفسه، برئاسة وزير العدل، وعضويَّة ممثِّلي تسع وزارات، ومجلسين قوميَّين، وجهازين مركزيَّين.

الثُّلاثاء
بالسَّبت 23 يناير 2021م، وفي صقيع تدنَّت برودته إلى 50 تحت الصِّفر، تدافع عشرات الآلاف من المواطنين الرُّوس إلى شوارع المدن الكبيرة، كموسكو، وسانت بيتربورج، وياكوتسك، وغيرها، في واحدة من أعنف جولات الاحتجاج الرَّاتبة، منذ سنوات، ضدَّ حكومة بوتين، بل ضدَّ نظامه، حيث صاحبتها اشتباكات لم تتوان الشُّرطة خلالها في استخدام العنف المفرط!
ظلت هذه الاحتجاجات تنطلق، منذ العام 2009م، استجابة لدعوات المحامي، والسِّياسي، والنَّاشط الشَّاب أليكسي أناتولييفيتش نافالني، الذي لا يتجاوز عمره 44 ربيعاً، ومع ذلك يُّعتبر زعيم المعارضة الأكثر فاعليَّة، واﻷكبر تأثيراً على الجَّماهير. وقد اكتسب نافالني شهرته، ونفوذه، من مستوى تنظيمه المتقن لهذا النَّوع من المظاهرات، مستخدماً أسلوبه الشَّعبوي المميَّز الذي ينشر به خطبه الجَّذابة في وسائط التَّواصل الإليكترونيَّة، خصوصاً مدوَّنته الشَّهيرة. وقد انطلقت المظاهرات الأخيرة في عقابيل اعتقاله، قبلها بأسبوع، بمطار شيرميتوفا بموسكو، لدى عودته من برلين، حيث ظلَّ يستشفي زهاء الخمسة أشهر، إثر الاشتباه بمحاولة جرت لاغتياله! وقد سبق اعتقاله هو اعتقال بعض أنشط معاونيه.
قبل ذلك بسنوات كانت محكمة جنائيَّة قد قضت بسجن نافالني لثمانية أعوام، مع وقف التَّنفيذ، إثر اتِّهامه بالاحتيال والاختلاس! واتُخذت تلك الأحكام التي وصفها نافالني بأنها «سياسيَّة!» ذريعة لمنعه من التَّرشُّح للانتخابات الرئاسيَّة الروسية عام 2018م!
وقد تقاطعت مع وقائع التَّظاهرة الأخيرة أجندات تعانف روسي ـ أمريكي، على خلفيَّة نشر الدِّبلوماسيِّين الأمريكيِّين بموسكو، قبل يوم منها، خارطة بمواقع انطلاقها، مِمَّا فسَّره الرُّوس بأنه «تدخُّلات غير مشروعة»، بينما فسَّره الأمريكان بأنه «ترتيب دبلوماسي روتيني لضمان سلامة المواطنين الأمريكيِّين»!
اللافت أن بعض المصادر نحت بخلفيَّات المظاهرة نحو تسبيبها بما يُعرف بـ «قصر بوتين السِّرِّي»! فقد نشرت منظمة غير حكومية يديرها نافالني نفسه، باسم «المركز الرُّوسي لمكافحة الفساد»، تقريراً على أوسع نطاق، مِمَّا أجَّج غضب الشَّارع على الأوليغاركيَّة الحاكمة؛ حيث كشف التَّقرير عن أن هذا «القصر السِّرِّي» قائم في منتجع على البحر الأسود، وتبلغ قيمته حوالي مليار ونصف المليار دولار، وقد تكفَّلت بتمويله شركات نفط، ورجال أعمال مقرَّبين من بوتين! كما تضمَّن التَّقرير فيديو بتفاصيل القصر، ومستنداته المالية، حيث تولى نافالني التَّعليق بنفسه على المشاهد، فأوضح ملكيَّة الأمن الفيدرالي الرُّوسي لمساحة 70 كم مربع من الأرض المحيطة بالقصر، كما أوضح أنه محاط بـأسوار منيعة، وميناء خاص، وكنيسة خاصَّة، وكازينو خاص، وقوات أمن خاصَّة، ومنطقة حظر طيران خاصَّة، ونقطة تفتيش حدوديَّة خاصَّة، وملعب هوكي جليدي خاص، ونظام تصاريح دخول وخروج خاصَّة، فضلاً عن حقل كروم لصناعة النبيذ تحت الأرض؛ وباختصار وصف نافالني القصر بأنه «دولة منفصلة يديرها القيصر شخصيَّاً»!
وترجِّح المصادر المستقلة أن قاعدة نافالني الشَّعبيَّة الآخذة في التَّضخُّم والاتِّساع، في الوقت الرَّاهن، ستلعب دوراً كبيراً لصالحه في الانتخابات البرلمانيَّة خلال سبتمبر القادم.

الأربعاء
في الدَّوحة تداول حميدتي مع تميم، أمير قطر، «القضايا الإقليميَّة والعلاقات بين البلدين»؛ ثم ما لبث أن تباحث مع المدير التَّنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي: بأيَّة صفة في الحالَيْن؟! الله ورسوله أعلم! أمَّا قمر الدِّين، وزير الخارجيَّة المكلف، فقد اكتفى بـ «مرافقة» حميدتي إلى الدَّوحة، دون أن يفصح عن دوره خلال الزِّيارة! وفي العاصمة الأنغولية لواندا شارك إبراهيم جابر في «قمة البحيرات العظمى» التي تداولت حول الوضع السياسي في جمهوريَّة افريقيا الوسطى؛ ما علاقته؟! لا أحد يدري! وفي جوهانسبيرج ناقش التَّعايشي مع راماسفوزا، رئيس جمهوريَّة جنوب أفريقيا، «مشكلة سد النَّهضة»، ثمَّ ما كاد يعود إلى الخرطوم، حتَّى شدَّ الرِّحال إلى نيروبي، على الخطوط «الأثيوبيَّة»، ليحدِّث القادة الكينيِّين عن مشكلة «أثيوبيا» الحدوديَّة مع السُّودان! وفي الرِّياض بحث محمد الفكي مع وزير الخارجيَّة السُّعودي، «مستقبل العلاقات بين البلدين»! ثمَّ رأَسَ، فور عودته، اجتماعاً بولاية غرب دارفور، في حضور الوالي نفسه، لمعالجة أحداث الجِّنينة، ما شغله حتَّى لو كان الوالي غائباً؟! ربُّك يعلم! دَعْ إعلانه الفوري، والخطر جدَّاً، بالقبول الجُّزافي لمطلب إقالة الوالي، واصفاً إيَّاه بالمشروعيَّة! أمَّا في الخرطوم فقد بحث تاور مع نائب مدير الشُّرطة فتح الصَّالات، وأماكن التَّجمُّعات العامَّة: ما شأنه؟! لا أحد يعلم! ثمَّ عمد إلى توجيه والي البحر الأحمر بوضع خطة لتحقيق التَّوافق المجتمعي: ما دخله؟! لا إجابة! أمَّا السَّادة التنفيذيُّون، من وزراء وسفراء، فشأنهم، مهما علت مقاماتهم، شأن صغار السِّكرتيرين والإداريِّين، ما ينفكُّون يتراكضون بمطار الخرطوم، وداعاً لمَن يسافر، واستقبالاً لمَن يعود! وأمَّا حمدوك، رئيس السُّلطة التَّنفيذيَّة الفعليَّة المعنيَّة بكلِّ هذه الشَّواغل، فصـامت ينظر، مغلوباً، في ما يبدو، على أمره!
لا تحتاج الثَّورة لحكومة جديدة، بقدر ما تحتاج، ابتداءً، لوضع منسوبيها في «علبهم»، وتعليمهم، قبل أن يؤدُّوا القسم، ما الفرق بين «التَّنفيذ» و«التَّشريف»! لكن كيف يمكن ذلك، إذا كان من بوَّأتهم الثَّورة مكانة عليَّة فيها، كإبراهيم الشَّيخ، يعتبر أن من «حقِّ» البرهان «التَّهديد»، ويسمِّيه «جرساً»، بأنه، حالَ تأخُّر تشكيل الحكومة الجَّديدة، سيقدم على تشكيلها بنفسه! علماً بأنه لن يستطيع أن ينفِّذ تهديده هذا، إلا بانقلاب عسكري .. فتأمَّل!

الخميس
قد يبدو أن ما قدح، ابتداءً، شرارة النِّزاع النَّاشب بنهر النِّيل، منذ حين، والذي تمظهر، مؤخَّراً، في الاعتداء الآثم على فعاليَّة قوى الثَّورة بشندي، أو «الفِعل الإجرامي المُبطن بأهداف سياسيَّة»، حسبما وصفته أمانة حُكومة الولاية، هو صراع شخصي حول ثلاثة دكاكين في المدينة نزعتها لجنة إزالة التَّمكين من أحد التِّجار! لكن الحقيقة هي أن التَّاجر المعني هو أحد النَّافذين في قبيلة الجَّعليِّين، مِمَّن يمثِّلون، في الوقت نفسه، بعض رموز النِّظام البائد، المستفيدين منه، المنتمين إلى مختلف التَّكوينات الحزبيَّة التي ظلت متحالفة معه، والذين كانوا يشكِّلون جزءاً أساسيَّاً من القوى الاجتماعيَّة الدَّاعمة له حتَّى سقوطه، فإذا بشرارة تلك الدَّكاكين تشعل، نفرة واحدة، فتيلة الضَّغينة الطبقيَّة المكتومة، على الثَّورة، وعلى قواها الأساسيَّة، وعلى حكومتها الانتقاليَّة! غير أنَّ هؤلاء، حتَّى بعد أن رأوا الأجهزة الأمنيَّة تتقاعس عن التَّصدِّي لتهديدهم للثَّورة، لم يجدوا سبيلاً للتَّكتُل «السِّياسي»، وسط المخاطر «القانونيَّة» المحدقة في معركة مكشوفة بطبيعتها، سوى «التَّخفِّي» وراء القناع «القبلي»، فلجأوا لتكوين ما أضحى يُعرف بـ «مجلس شورى قبيلة الجَّعليِّين»، وبوَّأوا «صاحب» الدَّكاكين الثَّلاثة رئاسته، عامدين، برغم النَّفي المتكرِّر والمغالطات السَّاذجة، إلى النَّفخ في صور العصبيَّة القديمة لـ «الإدارة الأهليَّة»، بعد مضيِّ نصف قرن على إلغاء قانونها، عام 1970م، بقرار من زمرة المايويِّين، المسنودين، في لهوجة انقلابهم، ببعض الشِّيوعيِّين السَّابقين، مِمَّن توهَّموا، بمنأى عن الماركسيَّة التي كانوا يدَّعونها، أن القوانين، واللوائح، والإجراءات كفيلة بالقضاء، ضربة لازب، على مؤسَّسة البنية الفوقيَّة هذه superstructure، فضلاً عن التَّعديلات التي أدخلها الإسلامويُّون عليها، خلال العقود الثَّلاثة الماضية، لضمان تكريسها في خدمة نظامهم!
وإذن فقد زُلزلت الثَّورة المضادَّة زلزالها، وأخرجت، من خبوب القبليَّة، والإدارة الأهليَّة، أثقالها، فإذا بالشَّرارة التي انقدحت، مظهريَّاً، من واقعة الدَّكاكين، تندلع ألسنة من اللهب، لتستهدف الثَّورة بأسرها، وحكومتها الانتقاليَّة نفسها! أمَّا المطالبة التي ارتفعت بإقالة الوالية د. آمنة مكي، فهي محض غطاء خارجي cover story، وإن كانت تمثِّل «العصفور» الإضافي الذي يمكن «اصطياده»، هو الآخر، بذات الحجر الواحد (!) وذلك من حيث أن الوالية «امرأة»، بالأساس، فالمطالبة بإقالتها تعكس نوعيَّة الثَّقافة المتخلفة التي تصدر عنها هذه القوى المضادَّة للثَّورة، مِمَّا عبَّر عنه، صراحة، «رئيس مجلس شورى الجَّعليِّين»، بقـوله، وهـو يشـنِّق عمامـته: «يمكن لها أن تكون وزيـرة للصـَّحَّة، أو التَّعليـم، أمَّا حاكمـة .. فلا»!
واستطراداً، فإن النَّاطقين باسم هذه القوى لم يُخفوا بذاءة سخريَّتهم من «قطار عطبرة»، أحد الأيقونات الكبرى للثَّورة المجيدة التي استشهد، وأصيب، وفُقد، من أجلها، الآلاف، قائلين: «يمكننا أن نسيِّر مثله، وأكثر»! أمَّا بشأن «التَّفاوض» مع هذه القوى، فواضح أن السَّادة أفنديَّة وزارة الحكم الاتِّحادي الذين انتدبوا لهذا الغرض، قد انبطحوا أمامها تماماً، إذ كشف أحد رموزها أن هؤلاء الأفنديَّة قد «اتَّفقوا» معهم على إزاحة «الوالية» ضمن التَّعديلات القادمة، و .. هذا أوَّل الوهن؟!

الجُّمعة
بعد أن قضى أبو جعفر المنصور على الثَّورة التي كانت قد انفجرت ضده، التفت لمن دارت حولهم شائعات المشاركة فيها، أو التَّأييد لها، وإنْ زوراً وبهتاناً، وعلى رأسهم الإمام أبو حنيفة، أوَّل الأئمَّة الأربعة، بل الإمام الأعظم، الذي قال عنه الشَّافعي: «الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة». هكذا طلبه المنصور، فحُمِلَ إليه في بغداد. وفي مجلسه، هناك، أراد أن يختبر ولاءه، وطاعته له، فدعاه لتولي قضاء الكوفة؛ فردَّ أبو حنيفة: «ولكنِّي لا أصلح»! فاحتدَّ المنصور وقال له: «كذبت»! فما كان من أبي حنيفة إلا أن كبَّله، فوراً، بهدوء، وبنفس منطقه، مستخدماً مهارته المشهودة في الحُجَّة، والقياس، والإقناع، حيث قال له، بكلِّ شجاعة: «إذن فها أمير المؤمنين نفسه قد حكم بأني لا أصلح»! ثم أضاف قائلاًّ: «إن كنت، كما حكمتم، كاذبًا، فتلك حجَّة دامغة على أني لا أصلح، أمَّا إن كنت، على العكس، صادقًا، فقد أخبرتكم، أصلاً، بأني لا أصلح»!
إزاء قوَّة ذلك المنطق استشاط المنصور غضباً، وأقسم ليجبرنَّ الإمام على تولي المنصب! لكنَّ أبا حنيفة الذي كان مدركاً لعواقب القبول بذلك العرض على من كان مثله، عالماً ربَّانيَّاً، وليس من علماء السُّؤ الذين يتهافتون على المناصب تهافت الذُّباب، أصرَّ على الرَّفض، متمسِّكاً بعدم الحياد عن موقفه. فما كان من المنصور الذي أخذته العِزَّة بالإثم، على عادة المستبدِّين، إلا أن خيَّره بين القبول أو السِّجن، فأصرَّ على الرفض، فأمر به المنصور، فجُلد، ثم حُمل، مكبَّلاً، إلى سجن بغداد الغارق في الظلمة والعطن، حيث ظلَّ يعاني الأمرَّين، في كلِّ لحظات نهاره وليله، تضييقاً، وتشديداً، بل وتهديداً بالقتل، وهو الشَّيخ المشرف على السَّبعين، حتَّى وَهَنَ منه الجَّسد، لا الرُّوح التي بقيت في أشدِّ قوَّتها، وسموِّها، لا تتراجع، ولا تلين.
على أن ذلك لم يكن ليدوم طويلاً، في تلك الظروف، فتوفي الإمام العظيم، عليه رحمة الله ورضوانه، سجيناً في قيود المنصور الحديديَّة، لا لذنب، سوى أنه أدار ظهره للدُّنيا، ومناصبها، ومكاسبها، واستمرَّ ثابتاً على موقفه، حتَّى آخر نفس، لا يتزحزح، قط، لقاء أيِّ إغواء بالمساومة التي قد يراها غيره غاية في السُّهولة!

السَّبت
واهمٌ من يتصوَّر سهولة مسار الثَّورة، وسلاسة قيادها، ويُسر أمورها كافَّة، فلا يُتوقع أن تنشب في مفاصلها آفات، أو تعيق مسارها عقبات، أو تعترض طريقها مشكلات! لقد ظهر، منذ أوَّل شأنها، تيار يرى أن القيادة قد استقرت لأجسام يمثلها هو، وشخوص بعينها لا يمكن تغييرها! تزاحموا بالمناكب، وقاتلوا بالإظفر والنَّاب، وملأوا بضجيجهم كلَّ المنابر، وشغلوا جميع المِنصَّات، واحتلوا صفحات الصُّحف، وأجهزة الإعلام، ومواقع التَّواصُل، لكن، لأن أحداً لم يكن قد صادف معظمهم عبر مسالك النِّضال اليومي، طوال عشرات السِّنين، أو حتَّى سمع بهم مجرَّد سمع، فقد حقَّ للسُّـؤال الحائـر أن ينطرح: من أيـن، إذن، جاءوا؟!
كثيرون حاولوا الإجابة، وذهبوا في ذلك مذاهب شتَّى. على أن أبرز إفادة، في تقديري، هي التي صدرت، قبل أيَّام، عن «تجمُّع المهنيِّين»، عبر قناة «سودان بكرة»، وانصبَّت، بشكل مباشر، على معالجة السُّؤال، منطقيَّاً، من خلال الانقسام المأساوي الذي وقع داخل التَّجمُّع، وتشقَّق قدداً مختلفات، لعلَّ أخطرها الاجتماع الذي جرى، من خلف ظهر الجَّميع، بمنزل رجل الأعمال أنيس حجار، لـ «التَّفاوض» مع ممثلي «المجلس العسكري/ اللجنة الأمنيَّة»، حتَّى بعد مضي أكثر من شهر على جريمة القرن: فضِّ الاعتصام، وعلى مليونيَّة القرن: الثَّلاثين من يونيو 2019م! لقد تمخَّض ذانك «الاجتماع» و«التَّفاوض» عن الاتِّفاق الكارثة على اقتسام السُّلطة بين المدنيِّين والعسكريِّين، والذي اعتُبر، في أعدل تكـييف له، «جـريمة» قائمة بذاتها!
في ذلك الاتِّجاه تبلور التَّيَّار النَّكد الذي سعى لاحتكار إرادة «المهنيِّين»، بل «تجمُّع الحريَّة والتَّغيير» بأسره، لفرض مآل الثَّورة النهائي، بتسوية تامَّة مع بعض مراكز القوى داخل النِّظام «البائد»! ولأجل ذلك الغرض استخدمت هذه القوى مختلف الأساليب، بما في ذلك «التَّزوير»، كما في نقل «إرادة» البياطرة، على سبيل المثال، بأنهم موافقون على «التَّفاوض» لاقتسام السُّلطة مع «اللجنة الأمنيَّة»! بالنَّتيجة وقع ارتباك داخل «تجمُّع المهنيِّين»: هل يستمر التَّيَّار الثَّوري فيه، أم يَخرُج منه، وربَّما من الحريَّة والتَّغيير ذاتها! ولئن أمكن فهم نقد الثَّوريِّين بعدم التَّوفيق في اختيار الخيار الثَّاني، حيث خيار «التَّجميد» ربَّما كان أوفق، فلن يمكن فهم «التَّشكيك» في دوافع المغادرة! قد يكون من «الخطأ» التَّطرُّف في الحدب على الثَّورة إلى حدِّ القطيعة وبين حيث ظهرت أصوات تبدي الحرص على وحدة القوى الثَّوريَّة، وتحذِّر من أساليب «السواقة بالخلا»، مثلما ظهرت أصوات تدعو إلى الخروج من «تجمُّع المهنيِّين»، وتركه لمن اختطفوا القيادة! كذلك ثمَّة من ظلَّ عملهم الأساسي، حتَّى بعد زهاء العام ونصف العام تقريباً من تكوين السُّلطة الانتقاليَّة، هو تعطيل تكوين النِّقابات الدِّيموقراطيَّة الشَّرعيَّة. البعض يرمي باللائمة، في هذه الوضعيَّة غير المبرَّرة، على «المهنيِّين» أنفسهم، كونهم يخشون أن ترث هذه النَّقابات «نفوذهم» في الثَّورة (!) مع أن كلاً من الكيانين مستقل في أداء دوره، أو هكذا يُفترض، وأن على «التَّجمُّع» الاعتراف بضرورة تكوين هذه النَّقابات.
حتَّى «لجان المقاومة» التي هي مناط الرجاء في تصحيح الحراك، وموئل الأمل في استعدال المسيرة، فإن «التَّجمُّع» يدفع بها، عمليَّاً، خارج دائرة الفاعليَّة، بتركيز دورها في «الأحياء السَّكنيَّة»، تاركة له القيام بالدَّور «السِّياسي العام»! ويلحق بهذا، من دون شك، رفض قوى الحرية والتغيير زيادة مقاعد هذه اللجان في المجلس التَّشريعي الانتقالي المنتظر! لكننا نرى، من ناحية، أن على «التَّجمُّع» أن يتواضع (!) فتحويل «لجان المقاومة» إلى مجرَّد «وحدات خدميَّة» هو عمل تخريبي لا يمتُّ للثَّوريَّة بأدنى صلة؛ أمَّا من ناحية أخرى فإن على هذه اللجان نفسها ألا تستكين لما يُراد لها، بل أن تعي أنها تفتقر، حاليَّاً، وبصورة واضحة، للوعي السِّياسي المطلوب، وأنها لن تستطيع اكتساب هذا الوعي بغير اندماجها في كيان «التَّجمُّع»، ونشاطه الواسع، بقدر ما يُفترض أن تعزِّز فيه الرُّوح الثَّوريَّة؛ لكن ذلك لن يكون ما لم تكفَّ، من جهتها، عن المراوحة ما بين تنظيم صفوف الخبز والوقود، وإشعال الإطارات في الشَّوارع، ويكفَّ «التَّجمُّع»، من جهته، عن توهُّم أنه، بحالته الرَّاهنة، الممثِّل المنفرد للثُّوَّار، والضَّامن الوحيد لانتصار الثَّورة!

الأحد
قرَّر سكَّان قرية نمساويَّة تغيير اسمها من «فَكينغ» إلى «فَغينغ»، اعتبارا من الأوَّل من يناير 2021م، وذلك بسبب المدلول الفاضح للفظة الإنجليزيَّة! ترى كم لدينا من القرى التي تحمل أسماء فاضحة .. حتَّى بالعربيَّة؟!

***

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى