الرأي

(ميناماتا).. ومين ما مات هنا؟

تحولات
محمد أحمد الفيلابي
مين مات؟ ومين ما مات؟ وكم حايموت قبل تفعيل (ميناماتا)؟
يلقاها من وين.. وللا وين هذا الشعب الـمسكين؟ من (الفجغيبة) والحفر والطين؟ وللا من الشوارع المكدسة بالعربات ومستخدميها (القرفانين)؟ وللا من هذه الحملة اللئيمة على الناس الماشين وشغالين من (العواطلجية والمصلحجية).. وباسم الدين؟ أم من إرهاصات الموت الجماعي مثلما حدث لليابانيين قبل سنين بسبب استخدام الزئبق في التعدين؟ ولا محالة سيظهر بين المعدنين، وفي بيئات التعدين الأهلي ما أطلق عليه اسم (داء ميناماتا)، أو المتلازمة العصبية الناتجة عن تسمم الزئبق الحاد. وأعراضه الترنُّح وخدر الأطراف (اليدين والقدمين)، والضعف العام.
أُكتُشف مرض ميناماتا أول مرة عام 1956 في مدينة (ميناماتا) في محافظة (كوماموتو)اليابانية. والذي تسبب فيه إطلاق ميثيل الزئبق في مياه الصرف الصناعي في مصنع مؤسسة (شيسو) للكيماويات، وقد استمر ذلك الإطلاق لفترة طويلة بدأت 1932، واستمرت حتى 1968. وظهرت الآثار بعد ذلك، ليصل عدد الضحايا المعترف به رسمياً في مارس 2001 نحو 2,265 ضحية، توفي منهم 1,784. وفي 29 مارس 2010، تم التوصل إلى تسوية لتعويض الضحايا المنتظرين. وكان لابد من نظرة مستقبلية، كأن يتجه التفكير العالمي إلى عمل ما يمكن أن يحد من مثل هذه الكوارث. وبالفعل تم توقيع أول معاهدة دولية من قبل أكثر من 140 دولة للحد من انبعاثات الزئبق وانطلاقاته في البيئة في أكتوبر عام 2013، وسميت اتفاقية ميناماتا بشأن الزئبق، وهدفها هو حماية صحة الإنسان والبيئة من الانبعاثات والإطلاقات البشريةالمنشأ للزئبق ومركباته. والسودان من بين الدول التي وقعت على الاتفاقية منذ أكتوبر 2014، ويقبع الآن طلب المصادقة عليها على منضدة المجلس السيادي.
التأم بالأمس شمل أهل الشأن الصحي والبيئي والصناعي لمناقشة استخدام بدائل الزئبق في التعدين.. وهل الأمر يحتاج إلى مؤتمر قومي؟ وفي الأدراج تقبع عشرات الدراسات والمذكرات حول ضرورة وقف استخدم الزئبق والسيانيد في التعدين الأهلي؟ ثم ماذا عن توصيات المؤتمر السابق في 2020؟ ألم تورد شيئاً عن البدائل؟
لست ضد انعقاد المؤتمرات (العلمية) لمناقشة قضايانا الشائكة، بيد أن هذه القضية لا تحتاج سوى قرار (حاسم) بوقف التعامل مع هذه المواد السامة، وآلية (جادة) لمتابعة تنفيذ القرار، وقانون (رادع) لا يفرق بين سيادي وإنسان عادي. وقبل هذا وذاك (إرادة سياسية) تقضي بإقصاء كل من يقف مع مصلحته، أو مصلحة أفراد ضد المصلحة العامة. كما أن الناس تعي ما يجري، فلك أن تتابع الصحف اليومية، ومنصات التواصل الاجتماعي لتجد الحكايات والأحاديث والتقارير عن مخاطر التعدين الأهلي في كل مكان. أو اذهب إلى حيث ذهب الباحثون عن الذهب، فسترى بأم عينك، وتسمع بأم أذنك – إن كان للآذان أمهات، ما يشيب له الرأس. فلماذا المماحكات والمؤتمرات والصرف البذخي، فقط ليقول البعض ما يهمله البعض الآخر عن التنفيذ؟
جلست قبل أيام إلى خبير في مجال الجريمة المنظمة يعمل في إحدى الدوائر الشرطية المناط بها التخطيط العلمي لدرء الجرائم. ويا لهول ما سمعت من الحكاوى، ومن شكاوىإهمال (الناس الفوق) لكل ما يمت بصلة بالتخطيط. أما الجريمة الأخطر بين جرائم المواد المحرّم تداولها واستخدامها والاتجار فيها، فقد حدثني ذلك الخبير عن مادة خطيرة (أخطر بكثير من الزئبق والسيانيد) يتم تداول سبعة كيلوجرامات منها خارج الدوائر الرسمية بين العصابات الدولية في العالم كله، وهي مرصودة تماماً، وقد وجد من هذه المادة أربعة كيلوجرامات ترقد في الحفظ والصون في حاوياتها الرصاصية بأحد أحياء العاصمة (الآمنة جداً) تحت إشراف جنرال بالمعاش، من المؤكد أن هناك خيوطاً (عنكبوتية) تربطه بشبكة عالمية لها أذرعها في المؤسسات ذات الصلة.
أما الزئبق فيعد من المواد التي تتسبب ملامسته فحسب في كثير من المشكلات الصحية، ذلك بجانب استنشاقه وقد ربط الخبير الكيميائي بجامعة الخرطوم إبراهيم محمد أحمد بين تفاقم مثل هذه المشكلات، وبين ارتفاع درجات الحرارة في السودان بشكل غير مسبوق. وفيما تقرر وقف التعامل مع هذه المواد منذ أكتوبر 2019، إلا أن الأمر لم ينفذ رغم قرارمجلس الوزراء السوداني بإيقاف استخدام الزئبق ومادة السيانيد في عمليات التعدين بشكل فوري، وتوجيهه بتعديل الاتفاق مع الشركات العاملة في مجال التعدين، بحيث تُخصص نسبة من عائد أرباحها لتنمية المجتمعات المحلية، فضلاً عن إنشاء صندوق للتنمية في مناطق التعدين.
في قرى نهر النيل تعمل الخلاطات في باحات المنازل، جنباً إلى جنب غسالات الملابس، فما الفرق إن كانت هذه تستخلص الأدران، وتلك تستخلص الذهب من الكرتة؟ والرابح دائماً هو من يقبض ثمن موت البشر المتعاملين إنابة عنه مع الحجر، والخاسر هو الوطن والمستقبل. وبين الخاسر والرابح يضيع الأمان، وعافية الأبدان، وإنسانية الإنسان، ويحل محلها الهوان، ودونك عشرات الآلاف من الشباب يتم الاعتراف الرسمي بهم عمّالاً في هذا القطاع، حد أن يتم التفكير فياستخراج بطاقات هوية لهم.
تعزي وزارة المعادن انتشار نشاط التعدين الأهلي إلى ارتفاع أسعار الذهب عالمياً، وتقول إنه حتى مع دخول الطواحين كعامل مساعد لم تتعدّ نسبة الذهب المستخلص الـ(50%) في الخام. إلا أنه ورغم هذه البدائية وعشوائية الإنتاج فإن كمية الذهب المنتجة لا يستهان بها. وهناك سلسلة طويلة ومعقدة نوعاً ما لعلاقات الإنتاج – التسويق، حيث دخل الوسطاء وتجار الذهب وبعض كبار المسؤولين في الدولة، وجهات خارجية في الحلقة، وأصبحوا يمولون عمليات الإنتاج، منذ العام 2009م، وبينهؤلاء من يقف حجر عثرة ضد المصادقة على اتفاقية (ميناماتا)، حتى لا يتم إنفاذها ومحاكمة المخالفين.
ولك الله يا وطني!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى