الرأي

من التودد إلى العنف: المحددات الـ11 الحاكمة لسلوك الإخوان في أزمات الإقليم

د. عمار علي حسن
من الطبيعي، أو الواقعي، أن يؤدي النزوع السياسي الظاهر لدى الجماعات والتنظيمات الدينية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، إلى طرح مسألة “التكيف” أو “التطبع”، ولو نسبياً أو مرحلياً، على جدول أعمالها، متفاوتة في هذا بين التي تنشغل بعرض نفسها، خطاباً وكياناً، على المجتمع لتنال رضاه، لاسيما في مواسم الانتخابات، بمختلف مستوياتها، وهذه التي تخاصم الناس وتعاديهم وتسعى إلى إخضاعهم لها وتغيير أفكارهم ومسارهم عنوة، رافضة التقدم على خريطة المجتمع عبر تسويات وتدابير سلمية، تمثل الانتخابات الخطوة الأهم فيها، بل تنظر إلى الديمقراطية في عمومها، على أنها “عملية كفرية”، لا يجب عليها خوضها، ولا حتى التفكير فيها.
مشروع سياسي:
بدا واضحاً منذ البيان التأسيسي لجماعة الإخوان أنها صاحبة مشروع سياسي، يطلب السلطة، حتى ولو سوَّق لها مؤسسها حسن البنا في البداية على أنها تمثل مسلكاً دينياً أو دعوياً. فالبنا نفسه لم يلبث، بعد 5 سنوات من انطلاق جماعته في عام 1928، أن خاض غمار السياسة، وطلب من أتباعه الذين بايعوه أن يخوضوه معه، فخرج بعضهم، أما من بقي فقد فهم أنه ينتمي إلى مشروع سياسي يتوسل بالدين، أو يتخذ من الإسلام أيديولوجية له.
وكان من الواقعي بالنسبة للإخوان وهم يطرحون أنفسهم على الناس، أن يفكروا في السياق الذي يحيط بهم، والمشبع بأفكار مغايرة وأحزاب وجماعات وتجمعات منافسة، وهو سياق قادر على مناكفتهم ومنازعتهم، بل والصدام معهم، أحياناً، وله من ركائز القوة المادية والمعنوية ما يجب على الإخوان أن يقدروه حق قدره، ويدرسوا إمكانياته، وكيفية التعامل معه، وتقويضه، شيئاً فشيئاً.
والمشروع السياسي لجماعة الإخوان جعلها معنية باستمالة الناس، بالتودد وهي في مرحلة “الصبر” ثم المواجهة السافرة إن بلغت مرحلة “التمكن”، فلكن ظروف هؤلاء الناس والقواعد التي تحكم علاقاتهم بالسلطة السياسية القائمة، وحجم المنتمين منهم للجماعة والمنتسبين لها والمتعاطفين معها يختلفون من مكان إلى آخر. كما تختلف النظم الحاكمة التي على الإخوان التعامل معها، وكذلك مستوى تجذر التصور الإسلامي في أذهان القاعدة الاجتماعية العريضة، أو في المجال العام.
ومثل هذا الوضع جعل “المركز” في الجماعة، متمثلاً في مرشدها ومكتب إرشادها ومجلس شورتها في مصر، يتفهم ما يمر به “المحيط”، بعد أن باتت للجماعة فروع في أكثر من 80 دولة حول العالم، سواء تحمل اسم جماعة الإخوان نفسه، أو تحت مسميات حزبية أو جمعيات دينية أو مراكز فكرية، وذلك في إطار “التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين”، الذي بدأ تشكيله في عام 1958.
ومن أجل هذا، تركت “الجماعة الأم” لفروعها هامشاً، يتسع ويضيق، تتحرك فيه بشكل ذاتي، معتمدة على قواها المحلية، وقراءتها للسياق السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي يحيط بها، والتعامل معه بما يحقق مصلحتها، التي تصب بخاتمة المطاف في المجرى العام للجماعة برمتها. ولم يعنِ هذا أن الفرع يكون منبت الصلة بالأصل طوال الوقت، إنما يكون للأول اليد الطولى في اتخاذ القرار، حتى لو جس نبض المرشد العام وأعضاء مكتب الإرشاد ومجلس الشورى، أو وضعهم في الصورة.
سلوك الإخوان:
بناءً على ما سبق، نجد اختلافاً في مواقف الإخوان من دولة إلى أخرى، سواء في التعامل مع السلطة السياسية، ومع النظام السياسي، أو المجتمع بشكل عام، بحيث تبقى الجماعة في كل مكان قادرة على توظيف الفرص المتاحة أمامها، والتي تفرض عليها سلوكاً متعدداً في إطار سعيها إلى “التكيف المرحلي” و”تعزيز القوة”. ويتوزع هذا السلوك على حالات أو عناصر هي ما يلي:
1-إبداء مرونة حيال الاحتواء: فالجماعة ليس لديها مانع في مرحلة الاستضعاف أن تقبل إشارات السلطة السياسية أو خطواتها الراغبة في احتواء الإخوان، وتعتبر هذا فرصة للحصول على سنوات من الرضا والأمان، الذي يمكنها من التقدم، ولو قليلاً نحو أهدافها الكبرى.
2-التفاهم مع السلطة في محطات ومواقف سياسية مهمة: فحين تشتد أزمة ما ويكون الناس على أبواب الغضب أو ينفجرون غضباً بالفعل، تتفاهم السلطة السياسية مع الإخوان، كي يبتعدوا أو يساهموا في التهدئة. وقد حدث هذا في الحالة المصرية كثيراً، حتى في الأيام الأولى لثورة 25 يناير 2011، وتجدد مراراً على مستوى أدنى في الانتخابات البرلمانية، حيث كان مرشحو الجماعة ينسقون مع مرشحي الحزب الحاكم في توزيع الدوائر. ورأينا صيغة التهدئة أيضاً في الحراك الجزائري الأخير، حيث طُلب من الإخوان عدم التصعيد، والمساهمة في إجراءات امتصاص غضب الشارع.
3-قابلية التوظيف سياسياً: هنا تتعدى حدود العلاقة مع السلطة السياسية مرحلة الاحتواء أو التفاهم والتهدئة إلى استخدام إمكانيات الإخوان في تحقيق توازنات سياسية معينة، مثلما رأينا استخدام الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، لهم في ضرب اليسار، واستعمال مبارك لهم كتحذير للغرب، باعتبار الإخوان وحلفائهم من الجماعات السياسية الإٍسلامية هي الجاهزة لملء أي فراغ ينجم عن رحيله أو تصدع نظام حكمه، مما قد يهدد مصالح الولايات المتحدة وأوروبا في الشرق الأوسط.
4-الرضا بالهامش المتاح: فالإخوان يُظهرون قدراً كبيراً من التواضع السياسي، حتى لا يثيرون حفيظة السلطة الحاكمة، ويبدون رضاهم عن الحيز الضيق المتاح لهم للتحرك، ويوهمون خصومهم بأنهم لا يغادرونه، وأنهم مخلصون لشعارهم “مشاركة لا مغالبة” أو “نريد أن نُحكم بالإسلام، لا أن نَحكم بالإسلام”، وهي شعارات ثبت زيفها، حين وجد الإخوان الطريق إلى السلطة مفتوحاً في مصر عقب ثورة 25 يناير، فغالبوا وتغلبوا، واستأثروا بكل شيء، حتى تم إسقاطهم في 30 يونيو 2013.
5-التعاون المرحلي مع القوى السياسية المعارضة: هذا تكتيك مهم تتبعه جماعة الإخوان، وترفع فيه شعارها الراسخ “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”، وأحياناً يتخذ الإخوان من المعارضين رداءً يلتفون فيه، أو جداراً يختبئون خلفه، ليحصدوا أي منافع تتساقط منه وهو ينافس السلطة السياسية أو يتحداها. وهذه التجربة حضرت بقوة في الحالات المصرية والمغربية والأردنية، وفي تونس عقب رحيل ابن علي مباشرة.
6-استغلال المتوافر من الحريات العامة: على الرغم من أن جوهر المشروع السياسي الإخواني مفعم بتحفظات على حرية التفكير والتعبير والتدبير لكل طرف غير الجماعة، بما في ذلك الجماعات السياسية الإسلامية الأخرى، فإن الإخوان استفادوا، من دون شك، من أي حيز انتزع فيه المجتمع بعض حرياته المطلوبة، أو تركتها له السلطة. وجاءت هذه الاستفادة في نشر “الخطاب الإخواني” عبر مطبوعات من صحف ومجلات وكتب أو من خلال المنابر ودروس المساجد.
7-استغلال ما يفرضه الدستور وتقره القوانين من حقوق للمواطنين: إذ أن أعضاء جماعة الإخوان في أي بلد هم مواطنون، تستظل حقوقهم، كغيرهم، بمظلة دستورية وقانونية، والتي مهما بلغ حد انتهاكها، أو اختراقها والخروج عليها، فما يتبقى منها فاعل يفيد المواطنين. وقبل أن تُسن قوانين تواجه الإرهاب في بعض الدول، كان الإخوان يستفيدون من هذه المظلة، واستمر من لم يرتكب عنفاً من الجماعة مستظلاً بها، حتى بعد سن قانون الإرهاب. وفي العديد من الحالات العربية والإسلامية، تستفيد الجماعة، عبر جيش من المحامين الموالين لها، من الدساتير والقوانين في الدفاع عن وجودها، وحماية مكتسبات أفرادها.
8-الاستفادة من الضغوط الخارجية التي تطالب بالإصلاح السياسي والانتقال إلى الديمقراطية: فهذه الضغوط يمارسها الغرب على أغلب الدول العربية، وبالتالي تتنازل بعض نظم الحكم عن شموليتها بعض الشيء، ويكون في هذا التنازل ما يفيد الإخوان، شأنهم شأن مختلف الأحزاب والحركات الدينية والمدنية. وينخرط الإخوان وسط هذه الحالة في الدعاوى التي تطلب الإصلاح والتحرر، ليس إيماناً جازماً بالحرية، وكل ما تعنيه في المجال الاجتماعي والديني والثقافي، إنما حرية سياسية مرحلية، تبدو مجرد إجراء يساعد الجماعة على تحسين شروط وجودها، ويقربها بعض الشيء من أهدافها.
9-استغلال الأزمات السياسية الداخلية: فعيون الإخوان تكون يقظة حيال أي أزمة تلوح في الأفق، تضغط على أعصاب السلطة السياسية، وهنا تستغل الجماعة قدرتها على الحشد، وتوظف ما راكمته من رأسمال سياسي، في التفاوض مع السلطة السياسية القائمة، بغية جني أي مكاسب. وقد رأينا هذا أكثر من مرة في الحالة المصرية، وبلغ ذروته في أيام اندلاع ثورة يناير 2011، ورأيناه أيام الحراك الجزائري، وفي الثورة التونسية، بل رأيناه عقب احتلال الأمريكان للعراق، وبدء ظهور حركة مقاومة مسلحة ضدهم.
10-توظيف القدرات الاقتصادية في توسيع دوائر المتعاطفين مع الجماعة من أجل منافعهم: فقد لعبت هذه القدرات دوراً متناقضاً في حياة الإخوان، فهم بقدر ما وظفوها في التجنيد والحشد، سواء للانتخابات أو التظاهرات، فإنهم أنصتوا إلى من يدعونهم إلى مراعاة ثروتهم التي تضخمت، فيبدون مرونة أكبر، ويقدمون تنازلات، ويتساوقون مع القاعدة التي تقول: “رأس المال جبان”، وتدريجياً غلب منطق الشركة على جزء كبير من تصورات الجماعة ومسلكها.
11-الاستفادة من تشبع المجال العام بخطاب ديني، رسمي وغير رسمي، مسيس: هذا الخطاب الديني ينزع إلى التسييس في أغلب الأحيان، سواء حين يعود إلى الماضي، متحدثاً عن “دولة” و”خلافة” أو يقفز إلى المستقبل متحدثاً عن عودتهما.
تجارب مختلفة:
تلك العناصر الـ11 هي التي تحكم طريقة تعامل جماعة الإخوان المسلمين مع الأزمات التي تعرضت لها، سواء كان هذا في السنوات الأخيرة أو قبلها بكثير، وهي التي تحدد ما إذا كانت الجماعة قابلة للاحتواء والاستيعاب أو حتى الاندماج المؤقت في العملية السياسية الجارية والرضا بالتسويات السلمية للخلاف، أو أن تتمرد وتنزلق إلى العنف، وهذا ما كشفت عنه العديد من التجارب العربية المختلفة.
ووفق هذه العناصر، تدرج الإخوان بين “المسايرة” و”المغايرة”، فمن توافق مع الملكية وطمأنتها إلى حد كبير في المغرب، إلى تبني خطاب تحريضي وانزلاق إلى العنف الرمزي واللفظي والمادي في مصر. وبين هاتين الحالتين اللتين تمثلان طرفاً الخيط أو الخط، قبل الإخوان في الجزائر بالاستيعاب تحت مظلة الدولة، مستفيدين في هذا من خبرتهم المريرة مع “العشرية الدموية” التي استمرت طوال العقد الأخير من القرن العشرين. كما رضي الإخوان في الأردن بالمساحة التي حددتها الدولة لهم، وإن سعوا إلى توسيعها وتعميقها، فيكون هذا وفق حسابات دقيقة من دون مغامرة أو مقامرة.
أما تجربة حركة النهضة الإخوانية في تونس، فقد شملت كل هذا، فمن ضعف واستكانة، إلى حضور وانتعاش فور رحيل ابن علي، ثم حديث عن مشاركة وتوافق مع سلطة مؤقتة، إلى إقدام وصعود وتمكن واستئثار، ثم مواجهة تحديات كبرى بعد الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو الماضي، فعودة مرة أخرى إلى التودد، وحديث عن قبول الحوار والتفاوض.
*المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى