استنارة

مارتن لوثر وتأسيس الضمير الحديث

هاشم صالح*

منذ بداية دعوته وكتاباته، راح لوثر ينحرف عن التفسيرات العاديّة الشائعة في عصره عن المسيحيّة، وكانت تأويلاته وأقاويله آنذاك مطبوعة دائماً بالطابع النقدي- الاحتجاجي. لوثر هو أكبر صرخة احتجاج في القرن السادس عشر، وربما في العصور الحديثة كلّها. إنّها صرخة مدوّية لا يزال صداها يرنّ في الآذان حتّى اللحظة. إنّها صرخة الحقّ والحقيقة ضدّ الطغيان الكهنوتي البابوي. وقد راح بسرعة يبلور لاهوتاً جديداً يحرّر الروح، وينفصل بشكل واضح عن اللاهوت التقليدي القديم. وراح بعضهم يتحدّث عن لاهوت “ويتنبرغ” مقابل لاهوت “روما”. ومعلوم أنّه كان يدرس علم اللاهوت في جامعة هذه المدينة. فيما بعد ستصبح جنيف الكالفنية البروتستانتية هي المضاد لروما الكاثوليكية. وكان لاهوته يتطابق مع أول أطروحة من أطروحاته الشهيرة التي علّقها على باب كنيسة ويتنبرغ، والتي تقول: توبوا، توبوا، توبوا طيلة حياتكم كلها ! فنحن مذنبون مهما حاولنا أو فعلنا، نحن مذنبون باستمرار. ولكن الله غفورٌ رحيم على الرغم من كل شيء… وهذا هو معنى “الإنقاذ عن طريق الإيمان وحده”. ومعلوم أنّ كل اكتشافه اللاهوتي التحريري يكمن هنا. فالله سيغفر لنا ذنوبنا وخطايانا إذا ما أخلصنا النوايا ولم نتقصّد الشر تقصداً؛ فهو يعلم أنّنا بشر ناقصون بطبيعتنا، وبالتالي مذنبون كلما تنفسنا…

وفي ذات الوقت راح لوثر ينتقد حالة الكنيسة الكاثوليكيّة في عصره وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية وتجاوزاتها التعسفية. ونقد العقائد التقليدية السائدة كان يتماشى مع نقد تصرفات الكنيسة ورجال الدين؛ فهما مساران متلازمان بشكل وثيق. وكان ينتقد بشدّة الجهل الفاضح لرجال الدين الذين يولون الأهمّيّة الكبرى للعقائد السكولاستيكية المتأخّرة، وليس للكتاب المقدس: أي للإنجيل. هكذا أصبح التفسير والتعليق، أو حتّى تعليق التعليق وحشو الحشو، أهمّ من النص المؤسِّس ذاته. وأصبح كلام البشر أهمّ من كلام الله. يقول بالحرف الواحد: “إنّ على رجال الدين أن يثقِّفوا الشعب، أن يعلِّموه الإنجيل، وأن يساعدوا الفقراء والمحتاجين، وأن يبتهلوا في صلواتهم للضعفاء والمهزومين، وأن يبدوا الحبّ والتعاطف مع جميع الناس. ولكن ليس هذا ما يفعلونه الآن. على العكس، إنّهم ينهبون أرزاق الآخرين، ويتنافسون على الأملاك الزمنيّة للكنيسة دون أن يهتمّوا بالروحانيّات. وهكذا يفسدون الناس بدلاً من أن ينقذوهم أو يهدوهم إلى الطريق الصحيح”.[1] ومعلوم أنّ لوثر صُدِم كثيراً بسبب الحياة الغنيّة المترفة، بل والفاحشة، التي كان يتمتّع بها كبار رجال الدين في عصره. يقول أيضاً: “كلما كبرت مقاماتهم في سلَّم المراتب كلما زادت ثرواتهم. إنهم لا يشبعون أبداً من أرزاق هذه الدنيا وأموالها. أبداً لا يقولون: كفانا ما وصلنا إليه من نعيم. هذا في حين أنّ الفقراء كانوا هم الأحق بهذه الثروات والنعم، والمصاريف الباهظة والحياة المترفة”.[2]…

لا يمكن فهم كلام لوثر (أو لاهوته الديني الجديد)، إن لم نربطه بحياته الشخصيّة، أو بتجاربه الذاتيّة الأكثر حميميّة. وما هي أهمّ تجربة؟ إنّها كما قلنا أكثر من مرة: شعوره الدائم بالخطيئة والذنب. وكان يعتقد أنّ هذا الشعور النبيل القاسي يلاحق الإنسان – أو ينبغي أن يلاحقه- من المهد إلى اللحد. وبالتالي فما على الإنسان إلا أن يندم باستمرار، ويتوب باستمرار لكي يغفر له الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. كان ضميره مرهفاً وحسّاساً إلى أقصى الحدود. هذا أقل ما يمكن أن يقال. ولم يكن يشبع من الندم والتوبة ومحاسبة الذات على الرغم من أنّه لم يرتكب أي ذنب! وهنا تكمن المشكلة بالضبط. هنا تكمن عظمة مارتن لوثر، قائد الإصلاح الديني في أوروبا ومؤسّس البروتستانتية. لنتّفق على الأمور هنا: من الطبيعي أن تشعر بتأنيب الضمير إذا ما ارتكبتَ ذنباً ما، ولكن إذا كنتَ لم ترتكب أيّ ذنب، فلماذا تشعر بذلك؟ ولماذا تقرّع نفسك؟ هنا تكمن العقدة النفسيّة الخطيرة التي عانى منها مارتن لوثر، والتي كادت تودي به لولا أنّ الله فتح على قلبه في آخر لحظة… إذا لم نفهم هذه النقطة الحاسمة، إذا لم نأخذها بعين الاعتبار، فإنّنا لن نفهم شيئاً من شيء: أقصد بأنّنا لن نفهم لاهوت لوثر، ولا ثورته الكبرى التي هزَّت أعماق الوعي الأوروبي. نعم، لقد أسَّس لوثر الضمير (أي تبكيت الضمير، أو محاسبة الضمير) كحجر الزاوية في بنائه الروحي أو الفكري الشامخ. ويمكن القول، بمعنى من المعاني، بأنّ بنيان الحضارة الأوروبية – أو على الأقل الألمانية – قام على قاعدة هذا الضمير الجديد المرهف الذي أسّسه مارتن لوثر.[3] وهكذا أصبح ضمير الإنسان هو وحده الذي يراقبه ويحاسبه وليس أي شيء آخر: لا الشرطي، ولا الأب، ولا السلطة، ولا المجتمع… وحده ضميرك ينبغي أن يكون الشرطي الذي يقف خلفك أو فوق رأسك لكي يردعك عن ارتكاب الخطأ، أو الجريمة، أو العدوان، أو الإخلال بالواجب. وإذا ما أصبح الإنسان يتصرَّف بشكل صحيحٍ لا خوفاً من مراقبة المجتمع له، وإنّما خوفاً من مراقبة ضميره له، فإنّ المجتمع سوف يصلح لا محالة. هنا تكمن القيمة الأساسيّة الأولى التي أسَّسها مارتن لوثر، والتي نهضت عليها حضارة بأسرها: هي حضارة العمل، والشعور بالواجب، وتحمُّل المسؤولية، ومحاسبة الذات، وهي السمات التي تتميّز بها الحضارة البروتستانتيّة للشمال الأوروبي. اذهبوا إلى تلك البلاد لكي تروا بأنفسكم، بأمّ أعينكم. اذهبوا إلى ألمانيا أو هولندا أو السويد أو النرويج، إلخ. لكي تروا تهذيب الناس في الحياة اليوميّة، واحترامهم للقانون والنظام، وصدقهم في التعامل. كل الحضارة الحديثة نهضت على هذه الفكرة التي بلورها راهب مغمور كان لا يزال يتخبَّط في عذاباته الداخليّة، ومحنته الذاتية. لتوضيح ذلك بشكل محسوس سوف أروي القصّة التالية: في إحدى المرات أتيح لي أن أقضي أسبوعاً كاملاً في ألمانيا. فنصحوني بأن أشتري بطاقة أسبوعية من أجل استخدام كل وسائل النقل، لأنّها أرخص من شراء بطاقة فردية في كل مرّة وهذا ما فعلت. وتوقّعت بعدئذ أنّي سوف أعرضها على سائق “الباص”، أو سوف أمرّرها في الآلات الإلكترونية كلما استخدمت “الميترو” للذهاب إلى مكان ما. ولكنّي فوجئت بأنّ ذلك غير مطلوب على الإطلاق. ولذلك بقيت هذه البطاقة في جيبي لم تخرج منه مرة واحدة، حتى عدت إلى باريس ! ولم يطلبها أحد منّي طيلة إقامتي هناك. فتعجّبت وقلت بيني وبين نفسي: لماذا يثقون بالناس إلى مثل هذا الحدّ؟ وما العمل إذا ما استغلَّ الناس هذه النقطة – أي غياب أيّة مراقبة على بطاقات النقل- وراحوا يتجوّلون مجاناً كما يشاؤون ويشتهون؟ ! في الواقع، إنّهم يستطيعون أن يفعلوا ذلك بكل سهولة، أي يستطيعون الغشّ إذا ما أرادوا. ولكن نسيتم شيئاً واحدا لا يخطر على البال: هو أنّ ضميرهم يراقبهم ويحاسبهم ويقضّ مضجعهم إذا ما خالفوه؛ بمعنى أنّ وراء كلّ ألماني أو بروتستانتي يوجد مارتن لوثر. عندئذ فهمت لماذا تقدم الأوروبيون –خصوصاً بلدان الشمال الأوروبي- وتخلَّف غيرهم. فأنتَ هناك تُعتبَر مواطناً بالمعنى الحقيقي للكلمة: بمعنى أنّك شخص محترم، مسؤول، لك كافة الحقوق، وعليك كل الواجبات. ولست بحاجة إلى أيّ نوع آخر غير وازع ضميرك لكي تقوم بواجبك فتشتري بطاقة “الميترو” أو “الباص” قبل أن تستخدم هذا أو ذاك. عندما تصل أمّة بمواطنيها إلى مثل هذه الدرجة من النضج والمسؤوليّة، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون… فأصغر مواطن قد يصبح مسؤولاً عن الدولة مثله في ذلك مثل رئيس الدولة! لا أحد يخدش مقعد “الباص” مجرّد خدش ولا أحد يوسخ المرافق العامة أو يحاول تخريبها، باعتبار أنّها ليست ملكيّته الخاصة. أبداً لا، على هذا النحو تتقدّم الأمم وتترسَّخ الحضارات. وفي إحدى المرّات، كنت في سويسرا فرأيت الجرائد متكدّسة فوق بعضها البعض بدون بائع. ورأيت الناس يمرّون، فيشترون الجريدة ويضعون الثمن في الآلة دون أن يكون هناك أحد يراقبهم أو يطلب منهم ذلك. ولكن مستحيل أن يأخذ السويسري الجريدة دون أن يدفع ثمنها. وكان بإمكانه أن يفعل ذلك بكلّ سهولة ولكنّه لا يستطيع. فضميره يحاسبه! وفي إحدى المرات كنت في ميونيخ وأردت قطع الشارع بعد أن نظرت إلى كلتا جهتيه، ولم أر أية سيارة قادمة حتى ولو من بعيد. وهكذا لم أعبأ بالإشارة الحمراء وقطعت الشارع حتى منتصفه. ثمّ فجأة أحسست بأنّ أنظار الناس كلّها متركزة عليّ بنوع من اللوم والتأفّف، فخجلت من نفسي وعدت إلى مكان الوقوف وانتظرت الإشارة الخضراء وقطعت معهم. كم شعرت بالخجل من نفسي آنذاك. لم أتجرّأ على النظر في وجوههم خوفاً من رؤية اللوم والعتاب في نظراتهم، ثم خوفاً من قولهم هذا عربي متخلّف من بلدان العالم الثالث، لا يعرف معنى القانون ولا النظام. ضربت هذه الأمثلة البسيطة لكي أثبت أنّ محاسبة الضمير التي أسَّسها مارتن لوثر لاهوتياً قبل أربعمائة سنة تحوّلت فيما بعد إلى قاعدة أخلاقيّة لشعوب بأسرها، وترجمت على كافة الأصعدة والمستويات: من اجتماعية، وسياسية، وحتى اقتصادية. فاستقامة السلوك ظاهرة نلاحظها بشدة في دول الشمال البروتستانتيّة. هذا لا يعني بالطبع، أنّنا لا نجدها في الدول الأخرى المتحضّرة. ولكنّها ظاهرة تلفت الانتباه في تلك البلدان بشكل خاص. بصراحة في فرنسا نقطع الشارع حتى ولو كانت الإشارة حمراء شرط ألاّ تكون هناك سيّارة قادمة بسرعة من هذه الجهة أو تلك. هكذا نجد أنّ التصحيح اللاهوتي سبق التصحيح الدنيويّ أو السياسيّ، لأنّ الدين يعلو على الدنيا وليس العكس. الدين هو الذروة العليا التي تعلو ولا يُعْلَى عليها. وإذا ما صلح صلح كلّ شيء، ولكن إذا ما فسد فسد كل شيء. لهذا السبب، أقول إنّ الإصلاح الدينيّ يشكّل حاجة ماسة بالنسبة إلى العالم العربي والإسلامي ككلّ. فإذا ما حصل سوف تخفّ عاداتنا السيّئة: كالغش وسرقة المال العام والإخلال بالواجب وعدم الالتزام بالمواعيد إلخ… مهما يكن من أمر، فإنّ هذا الرجل المهووس بضميره –أو بإرضاء ضميره- هو الذي أسَّس القاعدة الأخلاقية لشعوب بأسرها. لا يمكن لأيّة حضارة أن تنشأ على الكذب مثلاً، أو على الخداع، أو الزيف، أو الغش، أو الوصوليّة والانتهازيّة… لم نسمع في التاريخ كلّه بأنّ حضارة ما قامت على أساس آخر غير الصدق والحقيقة ومكارم الأخلاق. بعدئذ؛ أي بعد أن تُنسى هذه القيمة، ترتخي الحضارات أو تفسد وتموت…

يتساءل دانييل أوليفييه، أحد محبّي لوثر في جهة الكاثوليك، قائلاً: “هل يمكن تصوّر القرون الأخيرة بدون الأمم البروتستانتية؟ أقصد ألمانيا، وبريطانيا، والولايات المتحدة. (وكان يمكن أن يضيف سويسرا، وهولندا، والدانمارك، والسويد…). لا يمكننا أن نتخيّل العالم الحديث الذي نعيش فيه بدون المفكّرين المتحدِّرين من أصل بروتستانتي: كجان جاك روسو، وإيمانويل كانط، وهيغل، ونيتشه، وحتى ماركس…”.[4] كلّهم أحفاد لوثر حتى ولو كان بعضهم غير مؤمنين أو متديّنين. كلّهم على هديه ساروا، سواء أشعروا بذلك أم لم يشعروا. صحيح أنّهم عَلْمَنوا الأخلاق بسبب تغيّر العصور، ولكنّ الصرامة الأخلاقية بقيت هي ذاتها، وكذلك تأنيب الضمير. يكفي أن نقرأ صفحة واحدة من “اعترافات” جان جاك روسو لكي نتأكّد من أنّ لوثر لم يمت! وكذلك الأمر فيما يخصّ كانط. فمن يستطيع أن يزايد عليه أخلاقياً، وهو اللوثريّ، التقيّ، الورع؟ روسو كان كالفينيّاً ولكن كله إصلاح ديني. كلّ حياة كانط، تلميذ روسو من الناحية الأخلاقيّة، كانت تُعْتبَر مثلاً على الاستقامة الشخصيّة السلوكيّة والصدق المطلق مع الذات والآخرين. وقد وصل الأمر ببعضهم إلى حدّ اعتبار فلسفته كلّها بمثابة العلمنة للإصلاح اللوثري… لكن أتمنى على القارئ أن يتوقّف هنا، ولو للحظة، عند تلك الصفحات الرائعة التي كتبها جان جاك روسو عن قصة “ماريون”، تلك الخادمة التي اتّهمها بسرقة “وشاح” بسيط، كان هو الذي سرقه في الواقع.[5] لقد ظلّ طيلة حياته يندم على فعلته تلك، ويطلب منها الصفح والغفران… هؤلاء هم الذين أسَّسوا الحداثة الأوروبيّة في أفضل ما أعطته للعالم وما أنتجته. هؤلاء هم الذين يبقون إذا زال الآخرون، وهم الذين تُسطَّر أسماؤهم على صفحات التاريخ بأحرفٍ من نور. إنّهم كالمنارات المشعّة بالنسبة إلينا، نحن الذين نتخبط في الدياجير والظلمات: ظلمات الكذب، والتزييف، واختلاط القيم عاليها بسافلها. إنّهم الشاهدون الأساسيّون على الحقيقة: يئنّون تحت وطأتها، يسهرون عليها.

لكن لنعد مرة أخرى إلى مارتن لوثر. إنّ تأسيس الضمير يمكن أن يُفهَم بمعنى آخر أيضاً، فلوثر أسّس الضمير الشخصي عندما طالب بعلاقة حيّة ومباشرة بين الإنسان وربه. في السابق كان المسيحي ينبغي أن يمرّ من خلال وساطة رجال الدين. انظر دور البابوات والكرادلة والمطارنة وبقيّة رجال الدين. وأمّا الآن – أي بعد لوثر وإصلاحه الديني الكبير – فلم يعد بحاجة إلى ذلك، بل إنّه إذا لم يشعر بالحاجة الشخصيّة، وأكاد أقول بالحاجة الحارقة إلى الإيمان، فلا نفع لإيمانه ولا ضرورة له. الإيمان ينبغي أن ينبع من الذات، من الداخل، لكي يصبح مقبولاً عند الله. الإيمان ينبغي أن يكون حرّاً، غير مفروض من قبل الامتثاليّات الاجتماعيّة، أو الخوف من القيل والقال. هذا هو الإيمان الحقيقي. لقد انتقد لوثر بشدّة الإيمان التقليدي الشائع المتمثّل فقط في أداء طقوس خارجيّة فرغت من معناها أو روحها. فكان الإنسان المسيحي يقوم بها بشكل آلي لكي يعذر نفسه كما يقال، أو لكي يقول عنه المجتمع بأنّه شخص مؤمن، أو لكي ينال منفعة ما، أو لأنّه يخشى الله وكأنّ الله شرطي أو جلاّد، إلخ… وفي هذه النقطة بالذات يلتقي لوثر مع ايراسم أمير عصر النهضة؛ فكلاهما كان يريد تطهير المسيحيّة من القشور المتحنطة والرواسب المتراكمة عبر القرون. كلاهما كان يريد القفز فوق التراث الكنسي بغية الاتّصال بالإنجيل وكلام الله مباشرة. وهذا ما يحاول أن يفعله المسلم القرآني حاليا. ولذلك، دخلا في صراع مع رجال الدين الذين يرهقون الشعب بالطقوس والشعائر والعبادات التي لا نهاية لها، لكي يسيطروا عليه بشكل أفضل، وهي طقوس قد تؤدّي إلى استلاب روح المؤمن، بل وعماية قلبه، إذا ما زادت عن حدها، وفُرِضت على الإنسان بشكل قسري أو إجباري.(انظروا التديّن السائد في بعض بلداننا المحافظة: تكاد تشعر بالاختناق! علاوة على ذلك، فهو تديّن منافق في أحيان كثيرة. وفي كلّ الأحوال، فهو يشلّ الطاقة الإبداعيّة والإنسانيّة للشعوب المسلمة). هذا التديُّن القروسطي المزعج القائم على الخوف والإكراه هو الذي أدانه مارتن لوثر وحاول تنظيف المسيحيّة منه. بهذا المعنى، فقد كان مدمِّراً كبيراً ككلّ الثوّار الحقيقيّين في التاريخ. لا يمكن أن تكون ثوريّاً دون أن تكون مدمّراً للتراكمات. فلكي تعمِّر، ينبغي أن تدمِّر، ولكي تنظّف ينبغي أن تكنّس. وقد كنَّس لوثر الكثير من الطقوس الشكلانيّة الفارغة والعبادات المتكلِّسة. وحطَّم الكثير من الأصنام. لنستمع إليه، وهو يدين التديُّن الانحطاطي الظاهري الذي كان سائداً في عصره، وفي كلّ العصور:

“إنّ التقليديّين يقولون بأنّه ينبغي أن نطبّق الشريعة بشكل خارجي ودون أي إحساس داخلي أو عاطفي. ولكنّهم لا يبيّنون لنا كيف يمكن تطبيق الشريعة، ويتركون المؤمنين فريسة للحيرة والتناقض المستحيل. فالمؤمنون لا يستطيعون تطبيق الشريعة إلاّ إذا كانوا مدفوعين إلى ذلك بعاطفة داخليّة ومحبّة حقيقيّة. يزعم فقهاؤنا بأنّ الذنوب ناتجة عن عدم تأدية الفرائض الدينيّة. ولا يهمّهم إطلاقاً الدعوة إلى إصلاح الضمير أو الوعي. إنّهم يكتفون فقط بتأدية الفرائض بشكل سطحي أو خارجي بحت، وبعدئذ يسمحون لأنفسهم بارتكاب كل الموبقات والشهوات…”.[6] وهذا يشبه الاعتقاد السائد عندنا بأنّه يكفي أن تحجّ إلى مكّة المكرّمة في آخر عمرك لكي تنغسل عنك كل الذنوب! وبالتالي فالفرائض قد تؤدّي إلى ارتكاب المزيد من الذنوب لا إلى التقليل منها. وذلك لأنّ المتديّن السطحي المنافق يصبح أكثر جرأة على ارتكاب الموبقات بعد أن وضع الله- أستغفر الله- في جيبته! ألم يؤدّ الفرائض والنوافل؟ ألا يحقّ له أن يفعل ما يشاء بعدئذ؟! ثمّ يقول لوثر في الأطروحة الرابعة والثمانين من أطروحاته التي زلزلت أوروبا وعرش البابويّة: “إنّ الشريعة الوحيدة الجيدة هي محبّة الله التي يبثها فينا الروح القدس”.[7]هذا يعني أنّ الأهمّيّة هي للقلب، هي للمشاعر والأحاسيس الداخلية، لا للطقوس والشكلانيّات الفارغة. لقد جفَّ الإيمان وتحجّر في العصور الوسطى السكولائيّة، عصور التكرار والاجترار، عصور التواكل والكسل والفساد. وعندئذ ظهر لوثر لكي يحرّر الإيمان من براثن الطقوس والامتثاليّات الاجتماعيّة. عندئذ ظهر لكي يجعل الإيمان شيئا شخصيّاً، ساخناً، حارّاً. إنّه عبارة عن تواصل مباشر مع المطلق، وليس بحاجة لأيّة شكلانيّة جامدة أو وساطة كهنوتيّة بابويّة. وأخيراً، فإنّ التديّن الحقيقي هو محبّة الله والبشر، ومساعدة الفقراء المحتاجين، والإحساس بآلام المعذّبين المشرّدين على الطرقات والدروب. إنّه التعامل بصدق وأمانة مع الآخرين. لكنّ الدكتور لوثر لا يتوقّف في تشخيصه للوضع عند هذا الحد، بل يعتبر التديّن السائد في عصره نوعاً من الوثنيّة! ثم يزداد عنفاً بشكل تدريجي، حتى تصل سهامه إلى روما البابويّة:

“لقد عادت روما اليوم إلى حالة الوثنيّة! نعم لقد انتهى الدين على الرغم من كل الشكليّات والطقوس والمظاهر الخادعة. وروما تجرّ العالم كله معها إلى الماخور أو السقوط الكامل. وهناك سمحوا لأنفسهم بارتكاب كل الملذّات الحسّيّة والجسديّة. وربّما كانت روما الحاليّة أكثر فساداً أخلاقيّاً من روما الوثنيّة الرومانيّة. وعلى أيّ حال، فهي بحاجة اليوم إلى الحواريّين والمبشّرين أكثر ممّا كانت روما السابقة بحاجة إليهم في بداية ظهور السيد المسيح والمسيحية. فإذا ما تأمّلت في تصرّفات كبار رجال الكنيسة وجدت جميع الرذائل التي تحدث عنها القديس بولس متجسّدة في شخصهم. ولا يهمّ إذا ما كانت هذه الرذائل تحتمي بالسماء؛ فالله منها براء. وقد بلغ الانحراف حدّاً لا مثيل له. فلكي تُعْتَبر أتقى المسيحيين يكفي أن تراعي رجال الكنيسة الأشدّاء وتجاملهم وتقبّل أياديهم. إنّ المسؤولين الكبار عن قيادة شؤون هذا النظام والتقى المزعوم للكنيسة هم أكثر الناس وثنيّة وفساداً”.[8]

عندما كان لوثر يخطب ويلقي مواعظه الدينيّة، ألم يكن أحد يلاحظ بأنّه يهاجم الكنيسة الكاثوليكيّة بمجملها؟ ألم يكن هو شخصيّاً واعياً بذلك، حتى قبل أن تندلع المعركة بينه وبين روما بعدة سنوات؟ منذ البداية كان واضحاً، أنّه يحمل أفكاراً خطيرة، بل وتهدّد النظام القائم بمجمله. من هنا ثوريّته الراديكاليّة أو نزعته الانقلابيّة على نظام الفساد والشرّ. كان واضحاً أنّ صوته يشكّل نشازاً ضمن الجوقة الامتثاليّة لرجال الدين. ولذلك قال له أستاذه الروحي “ستوبيتز”: من فمك أسمع صوت الحقيقة، صوت المسيح!.

[1]- انظر كتاب هيلموت ديوالد عن “لوثر”، منشورات سوي، باريس، 1985، ص 77

– Hellmut Diwald: Luther, Seuil, Paris 1985, P. 77

[2]- المصدر السابق، ص 77. لو طبقنا نظرية لوثر على الحالة الإسلامية الراهنة، لوجدنا العجب العجاب. فأحد رجال الدين المشهورين على الفضائيات الكبرى ملياردير أو على الأقل يمتلك الملايين كما يقال أو يشاع. كما أنّه يسكن أفخم الفيلات التي تشبه القصور. ومع ذلك يبجلونه ويعظمونه، وكأنّه قدّيس أو ولي من أولياء الله الصالحين! وهذا يتناقض مع جوهر القرآن وسيرة النبي الكريم الذي عاش فقيراً ومات فقيراً، لا يملك شيئا تقريباً. جاء في الذكر الحكيم: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (التوبة، 34)

[3]- من المعلوم أنّ لوثر عندما مثل أمام الإمبراطور شارلكان وطالبوه بالتراجع عن مواقفه والتنكّر لكتبه، عندما حشروه في الزاوية، قال عبارته الشهيرة:

“إنّ ضميري أسير كلام الله. لا أستطيع أن أتراجع عن الحق ولا أريد أن أتراجع. ذلك أنّه ليس مضمونا ولا مشرّفاً أن يخون الإنسان ضميره. ليكن الله لي عوناً وسندا”

عندما تلفظ لوثر بهذه الكلمات أمام المجلس الأعلى للمسيحيّة الأوروبية كلّها، وبحضرة كلّ أمراء ألمانيا ووجهاء الدولة في مشهد مهيب ومخيف كان يعرف أنّها قد تقتله. وأصلاً قال فيما بعد في لحظة رومانطيقيّة رائعة: ليتهم قتلوني!

كان يعرف أنّ الإصرار على موقفه ورفض طلب الامبراطور شارلكان يعني إباحة دمه. فالإمبراطور لا يناقش، وهو الذي قال بالفعل بعد سنوات وسنوات نادماً متحسرا: ليتني قتلته. أكبر خطأ في حياتي، أنّي لم أقتل هذا الرجل قبل أن يستفحل أمره. ولكن هل كان يدرك أنّ دعوته ستأخذ كلّ هذه الأبعاد وتشقّ المسيحية كلّها إلى نصفين؟ كانوا يعتقدون أنّه مجرد راهب مجنون، سوف يموت في أرضه ولا يبقى له أثر. “لا نبي في قومه” كما يقال. ومعلوم أنّ شارلكان كان كاثوليكيّا بابويّا متعصبا في المطلق. ما أقصده من كلّ هذه الدراسة هو التالي: هناك عبارات نادرة في التاريخ تؤسّس الضمير وتصنع الحضارات. من بينها عبارة لوثر هذه. ولكن ألا تذكّركم بعبارة أخرى، قالها النبي العربي في موقف مشابه عندما حاصره القرشيّون من كلّ جانب؟ هم أيضاً حشروه في الزاوية. وعندئذ، قال لعمّه أبي طالب تلك العبارة الخالدة: “يا عمّ والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه”.

هذه العبارة أيضاً، صنعت التاريخ وأسّست الحضارات. فالرجال العظام يفضّلون أن يقتلوا على أن يخونوا ضميرهم. وعندما يوضعون على حد السكّين، فإنّهم يرفضون التراجع. إنّهم مستعدّون كلّ الاستعداد للتضحية بأنفسهم من أجل القضية. وهذا ما فعله سقراط سابقاً، ينبغي ألاّ ننسى ذلك. لهذا السبب أجد تشابهاً كبيراً بين نبيّ الألمان ونبيّ العرب. كلاهما ما أسّس فحسب ديناً جديدا وتحدّى جبابرة العصر، وإنّما أسّس أيضا لغة جديدة، وأمّة جديدة. ومعلوم أنّ لوثر هو الذي وحّد اللهجات وأسّس اللغة الألمانية الحديثة عن طريق ترجمته الشهيرة للكتاب المقدس. كما أنّه نفخ الروح في الأمّة الألمانية وأشعرها بكيانها وهويّتها. وماذا فعل النبي محمّد؟ هل كان العرب شيئا قبله؟ هل كانت لهم مكانة على مسرح التاريخ؟ ألم يوحّدهم عقائديّا قبل أن يوحّدهم سياسيّا ويدفع بهم إلى فتح العالم؟ وهل كانت هذه الفتوحات ستنجح لولا هذا القرآن الرباني الذي أذهل الناس وجعلهم يدخلون في دين الله أفواجا؟ محمّد أيضا قبل لوثر نفخ الروح في الأمّة العربيّة. والقرآن هو الذي أسّس اللغة العربيّة وأعطاها طابعا كونيّا وخلّدها إلى الأبد. أقول ذلك دون أيّ تعصّب عنصري ضدّ الأقوام الإسلامية الأخرى من فارسية وتركية وباكستانية إلخ؛ فهي شعوب كبيرة تستحقّ كلّ احترام. وأصلاً النبيّ الأكرم ينهانا عن ذلك: لا فضل لعربي على أعجمي إلّا بالتقوى.

[4]- الأب دانييل أوليفييه هو عالم لاهوت فرنسي معاصر وأحد كبار المختصّين بلوثر والدراسات اللوثرية. انظر كتابه: إيمان لوثر، باريس، 1978، ص، 21 (الهامش).

– (Daniel Olivier: La Foi de Luther, Paris, 1978. P. 21 (la référence de bas de page.

وهذه نقطة تحسب للأب دانييل أوليفييه؛ فليس من السهل على كاثوليكي أن يمدح لوثر وبخاصة إذا كان رجل دين! فمعظم الكاثوليكيّين يشتمون لوثر أو قل كانوا يشتمونه ويقذفونه بأبشع النعوت. ربّما كان ذلك قد توقف الآن إلى حدّ كبير، لأنّ أوروبا المتحضّرة تجاوزت مرحلة العصبيّات اللاهوتيّة والحزازات المذهبية. ولكن ما قالوه عنه خلال ثلاثة أو أربعة قرون يشيب الرأس، وهو يشبه ما حاكوه من تهم باطلة عن نبينا الأكرم طيلة العصور الوسطى، بل وحتى الآن! أقول ذلك على الرغم من أنّ عقلاءهم أصبحوا ينصفون النبي محمد ويعرفون مدى عبقريته الدينيّة وعظمته الأخلاقية. والبعض يعتبرونه أهمّ شخص ظهر في التاريخ، أو واحداً من أربعة أو خمسة بالإضافة إلى موسى بن عمران، وعيسى بن مريم، وبوذا، وسقراط، وكنفشيوس.. وأنا شخصياً أضيف إليهم: مارتن لوثر.

[5]- انظر “الاعترافات” لجان جاك روسو، الجزء الأول من الأعمال الكاملة، الصفحات 151-153 منشورات سوي، 1967، حيث يروي قصته مع الخادمة “ماريون”، وكيف أنّه ظل ملاحقاً بالذنب بسببها طيلة أربعين سنة، على الرغم من أنّ “الحادثة” بسيطة و تكاد لا تذكر، وعلى الرغم من أنّه ارتكب هذا الإثم وعمره لا يتجاوز الثالثة عشرة! إنّها صفحات خالدة سطّرها روسو تحت وطأة ضميره القلق المعذَّب. بهذا المعنى فهو أكبر بروتستانتي بعد مارتن لوثر. ويمكن أن نضيف إليه كانط بطبيعة الحال.

– Jean-Jacques Rousseau: Œuvres complètes, 1, Seuil, 1967, pp. 151-153

[6]- انظر كتاب هيلموت ديوالد السابق الذكر، ص 83

[7]- المصدر السابق، ص 85

[8]- المصدر السابق، ص 84

*نقلا عن مؤمنين بلا حدود

*مفكر وكاتب ومترجم سوري

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى