الرأي

لكن الجنينة لا بواكي لها!

قرأت واستمعت لشهادات مُروعة من ناجين وناجيات من محرقة معسكر “كريندق” بمدينة الجنينة في ولاية غرب دارفور، شهادات تنخلع لها القلوب وينشطر من هولها الحجر، ممارسات مُنحطة يستحي من الإتيان بمثلها إبليس الرجيم في أكثر الأماكن قذارة وظلاماً!
وكنت قد شاهدت قبلها صور النساء والأطفال والعجزة وهم يركضون بصعوبة أمام الرصاص المنهمر ناحية المعسكر والحرائق المشتعلة به، شاهدت الصور والعار يُكللني من رأسي إلى أُخمص قدمي، والأكثر فجيعة الذي يقطع نياط القلب، إنهم كانوا يخرجون من بيوت الخيش والقش إلى اللا شيء، كانوا يركضون خوفاً على حياتهم التي لم يتبقَ لهم سواها، فليس لديهم أي شيء من زخرف الدنيا يخافون عليه بعد أن فقدوا كل شيء وأي شيء في حرب الإبادة الجماعية التي شنها عليهم المأفون المعزول، فصار الخيش ولحاء الأشجار ترفاً يحسدهم عليه أحفاد المأفون!
كما استمعت لتسجيل صوتي لرجل وامرأة يناشدون فيه القتلة ويستحلفونم بالله بأن يكفوا عنهم أذاهم، أنقياء طيبون ومسالمون، لا يعلمون بأنهم يناشدون منبتين لا خلق لهم ولا أخلاق، لم يعيشوا حياة حتى يقيمون وزناً لها، تدربوا وتربوا تحت كنف نظام إجرامي مافيوزي تستنكف من جرائمه المافيا، نظام قال قائله اللئيم الذي يتنسم معنا نسائم الحرية حراً طليقاً، إن ثمن إنسان دارفور طلقة سعرها “7” جنيهات، لا تعلم المرأة الطيبة والرجل الأطيب الذي يقف بجوارها أنهم يخاطبون ثلة من البنادق المؤجرة من عديمي الشرف الذين لا يُسْتحلفون بالشرفِ، لم تكن المراة الطيبة تعلم ــ وهي تستحلفهم بالله ــ أنها أمام كائنات إنقاذية بلا عقل أو قلب، وإنها في مواجهة أصنام لا تملك طُهر الأصنام!
إن القبلية التي زرعها النظام العقائدي المجرم البائد في إطار سياسة فرق تسد التي حكم بها البلاد لثلاثة عقود، إضافة إلى العنصرية الممنهجة التي استخدمها ضد أهل الهامش والسخرية منهم والحط من أقدارهم والتعامل معهم كما يتعامل عامل الحديقة مع حيوانات القفص، ما لم يتم اجتثاثها وكل الممارسات الإجرامية البائدة وتفكيكها من جذورها، ونزع السلاح ووضعه تحت يد الدولة، وقبله تأسيس جهاز الأمن الداخلي، ما لم نفعل ذلك، فلا ثورة صنعنا ولا تغييراً حققنا، وسنلحق دماراً واسعاً بحاضر ومستقبل هذا البلاد، إذ لا يمكن تأسيس دولة الحرية والسلام والعدالة والمواطنة المتساوية على نموذج دولة القتل والفساد والإبادة الجماعية، وبأدواتها!
إن القلب يدمي والعين تدمع أمام كل هذه الفظائع والمآسي التي تحدث أمامنا، بينما أغلبنا ــ وأقصد قوى الثورة ــ لا نأبه لهذه الجرائم، وربما لم يسمع بها البعض، فمدى سماعهم بالموجة القصيرة، كما أنهم مشغولون في السرادق الهوائية الإسفيرية التي ينصبونها كلما سقط قتيل أو جرح جريح في الخرطوم، ينظمون المراثي الباردة ويسكبون فيها دموعهم الكيبوردية الكذوبة، ولكن الجنينة لا بواكي لها!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى