الرأي

كَنْدَاكَةٌ تُوَدِّعُ طَاغِيَة!

الاثنين
النَّظريَّات المفسِّرة لظاهرة «الدَّولة» تُجمع على عناصرها الثَّلاثة: الشَّعب، والإقليم، والسُّلطة. أمَّا في ما يتَّصل بكونها «جهازاً وظيفيَّاً» يمثِّل «ضرورة المُلك» بالمصطلح الخلدوني، أو «طبقيَّة القمع» حسب ماركس، أو «مشروعيَّة العنف» وفق ماكس فيبر، فقد أخذت تتراجع، مع تطوّر العلم، الأفكار الأسطوريَّة عنها كآلة محايدة. فمنذ وقوع الانقسام التَّاريخي حول وسائل الإنتاج، بين قلة مستغِلة وأغلبية مستغَلة، بدأ يتلاشى التَّقدير العفوي لملَكات «الامتياز الشَّخصيِّ» التي تؤهِّل لتسيير المجتمع. تلك كانت اللحظة التي احتاجت فيها «السُّلطة» لأن تتأسَّس على قيمة بخلاف هذا «الامتياز»، فلم يتبقَّ، حسب بوردو، «سوى حلَّين لتفسير قدرات الحاكم، فإما تأليهه، للموازنة بين سلطته وشخصيَّته، وإما وضع هذه السُّلطة في مكانها الصَّحيح خارج شخصـيَّته».
هكذا ظهرت «الدَّولة». فلئن كان المتخصِّصون يعقلون «السُّلطة»، في إطار النَّظريَّة القانونيَّة لـ «الدَّولة»، فغير المتخصِّصين ما تزال لديهم شكوكهم حولها، إذ ليس فيهم من يستطيع أن يؤكِّد أنه رأى «السُّلطة» بعينه، أو يستطيع أن يؤكِّد أنها غير موجودة! يدعم هذا تصوُّر “الدَّولة”، بتعبير بوردو نفسه، كمحض «عقلنة للتَّفسير السِّحري للسُّلطة»، حيث نطلب من بناء عقـلانيٍّ ما كان ينتظـره النَّاس من الخـرافة والميثيولوجـيا!
لقد جرى التَّنظير كثيراً لتبدو هذه الآليَّة منتصبة فوق الجَّميع، متجاوزة التَّفويض العفوي، كإدارةٍ مدعومةٍ بفصائل مسلحةٍ تصون «النِّظام العام». لكن التَّاريخ فضح، منذ أزمان، أن «النِّظام العام» نفسه ليس سوى جماع قواعد تؤبِّد «سلطة» الأقليَّة التي تزعم أن حماية الفصائل المسلحة لها حماية لـ «الصَّالح العام»، بينما الحقيقة أن «الصَّالح» الذي تمثِّله هو «صالحها الخاص»، وأن «الدَّولة» «.. عذر للذين .. يتذرَّعون بحظوتها، بينما مصالحهـم هـي التي تمـلي القـرارات التي تُنسـب إليها»!
هكذا فالدَّلالة الحقيقيَّة لمصطلح «الدَّولة» هي أنها أداة «تسلُّط» الأقليَّة التي تدَّعي تمثيل المجتمع كلِّه، بينما هو منقسم إلى طبقات تصطرع حول «الثَّروة»، في إطار «البنية التَّحتيَّةinfrastructure» للمجتمع، وحول «السُّلطة»، في إطار “بنيته الفوقيَّةsuperstructure». وإذن «الدَّولة» المسيطَر عليها، مِمَّن يُفترض أنهم خدَّامها، هي محض ستار لمشروع «تسلُّطي»، حيث، بعبارة بوردو «الوهم يولد الأسطورة، والدَّولة التي صُوِّرت كعامل تطهير للسُّلطة من الضَّعف الإنساني، أضحت أداة لتبريره»!
قد يلخِّص هذا الطَّرح المقتضب أبرز جوانب سردية «الدَّولة» في الفكر التَّقدُّمي الغربي، حيث من المهم فهمها كثانويَّة فى علاقتها بـ «المجتمع»، فليست هي التي تحدِّده، وإنَّما يحدَّدها هو بحراكاته. ويرى غرامشي أن المفهوم الماركسي حول «نهاية الدَّولة» لا يعني أنها «منتهية» بذاتها، إلا إذا جرى تصوُّرها كـأداة يُشترط لنشوئها واختفائها نشوء واختفاء «المجتمع» ذاته، أو «الدَّولة الموسَّعة»، بشقَّيها المدني والسِّياسي، وفق كريم أبو حلاوة في مقالته حول «إعادة الاعتبار لمفهوم المجتمع المدني».

الثُّلاثاء
في الثَّالث عشر من أغسطس الجَّاري مرَّت الذِّكرى الرَّابعة لرحيل فاطمة أحمد إبراهيم، زهرة اليسار السُّوداني، ونخلة حراكاته النسائيَّة، حيث توفِّيت بالعاصمة البريطانيَّة، عن خمس وثمانين عاماً، من فوق نضال جسور لم تلن لها فيه عزيمة، أو تفتر همَّة. فمنذ خواتيم أربعينات القرن الماضي، ومطالع خمسيناته، ظلت فاطمة تقود مسيرة نبيلة لأجل قضايا العدالة الاجتماعيَّة، وحقوق المرأة بالأخص، قاست خلالها كلَّ صنوف المعاناة مع الأنظمة الشُّموليَّة، كما ومع المرض العضال، داخل الوطن، وأثناء الاغتراب المرِّ في المنافي البعيدة.
يجدر التَّنويه بأن هذه الذِّكرى الرَّابعة صادفت صدور دراسة جديدة أنجزها صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، ووحدة حكومة السُّودان لمكافحة العنف ضدَّ المرأة، والتي تعدُّ أوَّل تقييم للعنف القائم على النَّوع الاجتماعي في السُّودان، حيث ظلت تلك، أيضاً، على رأس أولويَّات الاتِّحاد النِّسائي، وفاطمة شخصيَّاً، حيث تكاد حيثيَّات الدِّراسة الأمميَّة تتطابق مع حيثيَّات الاتِّحاد، وآراء فاطمة. فرغم أن أكثر ما أثار قلق الدِّراسة، وما ظلَّ يثير قلق الاتِّحاد، وفاطمة، هو العنف المنزلي والجِّنسي، ضدَّ الزَّوجات والأخوات، من قبَل الأزواج والإخوة، وزواج الطِّفلات، والزَّواج بالإكراه، والعنف الموجَّه ضدَّ اللاجئات، والنَّازحات، والمشرَّدات، وذوات الإعاقة، والأطفال في مدارس تعليم القرآن، والعاملات في القطاع غير الرَّسمي، بالإضافة إلى تقييد وصول النِّساء إلى الموارد الماليَّة، مقارنة بالرِّجال، وتقييد حركة النساء عموماً، إلا أن الجَّانبين لاحظا أن المجتمعات المحليَّة لا تنظر لتشويه الأعضاء التَّناسليَّة «الختان»، مثلاً، كشاغل رئيس؛ بعكس الاهتمامات «النُّخبويَّة» لبعض منظَّمات المجتمع المدني النِّسويَّة الأخرى!

الأربعاء
ما كادت تفوح رائحة التَّجاوزات الكريهة في التَّعيينات الأخيرة بالخارجيَّة، حتَّى تحرَّكت رئاسة الوزراء، حسب ما جاء بحائطها على الفيس بوك، حيث كلف دولة الرَّئيس حمدوك وزيرة الخارجيَّة بالدَّعوة لاجتماع له مع الجِّهات ذات الصِّلة بتلك التَّجاوزات، للوقوف على مدى خروقات العدالة. ثمَّ أعقب ذلك صدور قراره بتكوين لجنة، برئاسة صدِّيق امبدى، وعضويَّة محجوب محمَّد صالح، وبلقيس بدري، وآخرين، لتصحيح تلك الإجراءات المعيبة.
كان ذلك من أفضل ما طالعت من أخبار، الأسبوع الماضي، ولو واظبت الحكومة على هذا المنهج فستتدعَّم مبادئ الشَّفافية، والعدالة، في دولة القانون، وسودان الثَّورة.

الخميس
أجواء قاتمة تخيِّم على أفغانستان هذه الأيَّام، أجواء الوعد بالعودة إلى سياسات القمع، والقهر، والإذلال، سياسات التفاسير الخاطئة للقرآن، والرُّؤى المتخلفة للإسلام، والقراءة الخاطئة للتَّاريخ، سياسات سفك الدِّماء، ودقِّ الأعناق، والرَّجم، والقطع من خلاف، وتعليق جثث المعارضين على أعمدة الكهرباء في الشَّوارع، سياسات تزويج الطِّفلات لإحصانهنَّ، وطرد النِّساء من مواقع العمل، ومن مقاعد الدِّراسة، وإعادة تكديسهنَّ في الجَّوالات السَّوداء، وفي محابس البيوت، سياسات كسر أقلام الشُّعراء والكُتَّاب، وبتر أصابع الموسيقيِّين والمثَّالين، وتدمير القطع الأثريَّة، وجحد الحريَّات والحقوق، وإرغام غير المسلمين على هجر الوطن، أو دفع الجِّزية عن يدٍ وهم صاغرون!
وعلى حين راح مقاتلو طالبان يهلِّلون، الأسبوع الماضي، في مطار قندهار، حول مروحيَّات «بلاك هوك» أمريكيَّة «غنموها»، ضمن ما غنموا مِمَّا كانت واشنطن قد زوَّدت به القوَّات الأفغانيَّة التي أشاد بها بايدن، قبل شهر فقط، باعتبارها «مجهَّزة جيِّداً»، وقف جايك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرَّئيس الأمريكي جو بايدن، يعترف، في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض، بأن طالبان كانت بسبيلها، في تلك اللحظات، لاستكمال سيطرتها على البلاد، وأنها، في الأثناء، قد استولت، على سلاح وعتاد الجَّيش الأفغاني، الأمريكي في الأصل، وأن واشنطن ليس لديها ما يحملها على الاعتقاد بأن طالبان ستعيده إليها!
ما لم يقله سوليفان هو كيف سهَّل الأمريكان، وهم يحتلون البلاد، تحقيق طالبان مثل هذا الانتصار السَّلس! بل كيف واظبت واشنطن، أصلاً، تحت رئاسة بايدن الذي صُنِّف، في استفتاء جرى مؤخَّرا، باعتباره الأسوأ من بين الثَّلاثة الذين أشرفوا على أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة، على مواصلة إرسال شحنات هذا السِّلاح والعتاد إلى أفغانستان، حتَّى في الأيَّام الأخيرة لحكم حليفهم الرَّئيس الهارب أشرف غني، بينما لم يكن بعيداً عن «علمهم الاستخباري» خطر استيلاء طالبان «قريباً» على هذا السِّلاح والعتاد، وسط موجات من فرار آلاف المستشارين العسكريِّين والمدنيِّين، مع انهيار الحكومة المدعومة من واشنطن، ودخول طالبان العاصمة كابول، مطلع الأسبوع الماضي، بعد عشرين سنة من الاحتلال الأمريكي الذي كلف دافعي الضَّرائب تريليونات الدُّولارات، وآلاف الأرواح!
أمَّا في مستوى الرأي العام الأمريكي، وبرغم اتِّفاق الدِّيموقراطيِّين والجُّمهوريِّين، كما كشفت الاستطلاعات، على ضرورة الخروج من أفغانستان، إلا أن نسبة التَّأييد لبايدن شهدت، مؤخَّراً، تراجعاً ملحوظاً، مقارنة بأدنى مستوى تمَّ تسجيله، ضمن استطلاعات الرأي الأسبوعيَّة منذ توليه في يناير الماضي!
واستطراداً، ما مِن أحد، من المنتمين للمنطقة الإسلاميَّة، مِمَّن راحوا يهلِّلون ويكبِّرون، خصوصاً عبر الوسائط الأسفيريَّة، لما يسمُّونه «عودة الإسلام» إلى أفغانستان، يبدو مستعدَّاً لمجرَّد إدراج هذا البلد ضمن خياراته «السِّياحيَّة»، دَعْ «الخضوع» لمثل هذه السِّياسات والعقوبات التي يعبِّر عن ابتهاجه بعودتها!
لم تتنصَّل أمريكا وحدها، سياسيَّاً، من المسؤوليَّة عن عودة طالبان إلى السُّلطة في أفغانستان. فرغم أن السُّعوديَّة، إحدى أقوى دولتين إسلاميَّتين في المنطقة مع إيران، اتَّخذت موقفاً «سياسيَّاً» ينأى عن شبهة دعم طالبان، داعية إيَّاها إلى «الحفاظ على الأرواح والممتلكات»، والعمل على «استقرار الأوضاع»، فما تزال تتردَّد أصداء الإبانة الأكثر صراحة في التَّعبير عن الموقف «الفكري» للمملكة من هذه القضيَّة، والذي كان الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات السُّعوديَّة السَّابق، قد عبَّر عنه في تصريحات أدلى بها للفضائيَّة الرَّسميَّة، وأعاد تداولها، مؤخَّراً، مغرِّدون بموقع «تويتر»، حيث أنكر أيَّة علاقة لطالبان بالفكر «الوهَّابي»، قائلاً: «أبغى أبدي ملاحظة عن أفغانستان تفوت على كثير من النَّاس، وهي ما يقال عن أن الطالبان نتاج للفكر «الوهَّابي» .. أحب أذكر أنهم ينتمون إلى المدرسة «الدِّيوبنديَّة» النَّابعة من المذهب الحنفي في القارَّة الهنديَّة، فعليكم أن تطَّلعوا على معلومات عن هذه الفئة من «الدِّيوبنديَّة» لتعرفوا من أين يأتون، هم ليسوا نتاجاً لتعاليم الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهاب الله يرحمه .. رأيت في كتاب لوزير خارجيَّة بريطانيا السَّابق جاك سترو قوله إن الطالبان نتاج للمدرسة الوهابيَّة، مِمَّا يدلُّك على عدم المعرفة في أعلى مستويات المراكز الدَّوليَّة»!
أمَّا المجتمع الدَّولي فقد عبَّر أنطونيو غوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة، عن موقفه من عودة طالبان، بقوله، خلال اجتماع طارئ لمجلس الأمن، الأسبوع الماضي، إن على المجتمع الدَّولي «توحيد صفوفه للقضاء على التَّهديد الإرهابي في أفغانستان بعد سيطرة طالبان على كابول»، مشدِّداً على «أهميَّة ضمان عدم استخدام نظام طالبان، مجدَّداً، كملاذ آمن للجَّماعات الإرهابيَّة»!

الجُّمعة
الأصل فيمن يدَّعي حقَّاً على آخر أن يحرِّك الاجراءات القانونيَّة لاقتضائه، ولا يطالَب الآخر بالمبادءة بتحريك مثل هذه الاجراءات لدحض هذا الادِّعاء. غير أن سكوت الآخر، خاصَّةً إذا تمَّ الادِّعاء بالنَّشر الصَّحفي، قد يفسَّر بأنه يؤكِّده، جرياً على قاعدة أن «السُّكوت في موضع الحاجة للكلام .. كلام»!
وفي صحيفة «الانتباهة» الصَّادرة بتاريخ 14 أغسطس 2021م، أوردت الصَّحفيَّة هاجر سليمان خبراً مفاده أن الملياردير فضل محمد خير الذي بدأ حياته كضابط صفٍّ في الاستخبارات العسكريَّة، ثمَّ كأحد كوادر الجَّناح العسكري لحزب الجَّبهة الاسلاميَّة القوميَّة، ثمَّ أضحى يمتلك 70% من أسهم بنك الخرطوم، بالإضافة إلى المصنع الماليزي للحديد، ومصنع التَّعليب بكريمة، طالب الحكومة الانتقاليَّة بتسليمه جامعة الخرطوم، وما حولها، بالإضافة لكليَّات الطِّب، والصَّيدلة، بحجَّة أنه اشتراها، جميعاً، من والي الخرطوم الأسبق عبدالرحمن الخضر، وبالعدم إعادة ما دفعه فيها بسعر الصَّرف الحالي!
وتأكيداً للخبر نشرت الصحيفة أن مسؤولين بالجَّامعة أفادوا بأن «خزينة الجَّامعة لم تنل جنيهاً واحداً من الأموال التي دفعها فضل، وإنَّما توزَّعت كلها بين جيوب نافذين في الحكومة السَّابقة!»، وأن «العديد من أساتذة الجَّامعة وقدامى خرِّيجيها طالبوا بفتح ملف فساد الوالي الخضر، وتقديمه للمحاكمة العادلة، هو وكلَّ الضَّالعين في بيع الجَّامعة لحسابهم الخاص، واستعادة أراضيها، وميادينها، ومتنزهاتها»!
والآن .. سواء صحَّت أم لم تصحُّ تبعيَّة هذه الممتلكات لولاية الخرطوم، فالسُّؤال هو: هل يطول «سكوت» الخضر، وكلِّ من قُذف بهذا الادِّعاء في وجوههم؟! أمَّا وصف الخبر بأنه قديم، فلا يصلح، مِن باب أولى، تبريراً له!

السَّبت
كنداكة اسمها نازك عثمان، لم اتشرَّف، بعد، بمعرفتها شخصيَّاً، وجدت لها ببعض المواقع، في الثَّالث عشر من أغسطس الجَّاري، قطعة أدبيَّة غاية في الصِّدق، تودِّع بها الطاغية إلى لاهاي، تقول له:
«إذهب إلي لاهاي سريعاً، ولا تتردَّد، إذهب بفرح، ولا تدع الفرصة تفوتك! لن يتمَّ ترويع أسرتك، ولا اقتياد بعض افرادها، بالضَّرب المبرِّح، والالفاظ النَّابية، والتَّهديد بالسِّلاح، لا .. ستنقل في سلام بطائرة خاصَّة، وستراعَى كلُّ حقوقك كإنسان.
إذهب إلى لاهاي، وعندما تصلها لن يتمَّ وضعك في زنزانة قذرة، ضيِّقة، مظلمة، ارضيَّتها مكسَّرة، مبتلة بالمياه، وبلا تهوية.
ستوضع هناك في غرفة احتجاز نظيفة، ملحق بها حمَّام، وفيها سرير مريح، وتلفزيون، ومكتب، وجهاز كمبيوتر تدوِّن فيه كلَّ ما يتعلق بقضيتك.
لن يتم ضربك، لا باليد، ولا بخرطوش حديقة، ولا بآلة حادَّة، ولا بأيِّ سلاح آخر، كما كان ازلامك يفعلون مع المعتقلات السِّياسيَّات والمعتقلين السِّياسيِّين. ولن يتم شتمك بالفاظ تخدش الحياء، ولا إهانتك، أثناء التَّحقيق معك، وسبُّ أسرتك، وأهلك حتى جدَّك العاشر، بأقذر لغة في التَّاريخ عرفتها قواميس التَّحقيق، والإزراء بالبشر.
إذهب. لن يتمَّ اغتصابك، لا بٱلة حادَّة، ولا عن طريق مهووس فرَّخته الدَّولة المتأسلمة، واصطنعت له وظيفة (اخصائي اغتصاب)، كما ولن يتم إخصاؤك!
هيَّا. إسرع. لا تخف. لن يتمَّ تعذيبك. لن تقتلع أظافرك، أو يُصعق جسمك بالكهرباء، أو تطفأ عليه أعقاب السِّجاير، أو تُضرب، صباح مساء، بالسياط والخراطيش.
لن تُفقأ عيناك، أو تُبتر أصابعك، أو أيٌّ من اطرافك، ولن يقوم أحد بضربك بقبضتيه علي أذنيك حتى تفقد السَّمع، أو علي جانبي عنقك حتي تفقد الوعي، أو بدق مسمار خمس بوصة في أمِّ رأسك!
لن يتمَّ غمرك بالمياة الباردة في ليالي الشِّتاء حتَّى تكاد تغرق، أو تجويعك، أو تعطيشك، أو اجبارك علي أداء حركات بدنيَّة شاقَّة تهتك عضلات جسدك، أو منعك من النَّوم بتسليط مصباح كهربائي كشَّاف على وجهك لا ينطفيء، ولن يمنعك أحد من الذِّهاب إلى الحمَّام لقضاء حاجتك، أو للاستحمام، في أيِّ وقت تشاء، وليس لدقائق معدودات وأنت محروس ببنادق الكلاشنكوف، وباب الحمام مفتوح على مصراعيه، أمام حرَّاس غلاظ أشدَّاء، يحدِّقون فيك، ويستعجلونك الانتهاء مِمَّا تفعل. لن يمنعك أحد من أداء صلاتك، بل سيخصَّص لك مكان أشبه بالصومعة للعبادة! ولن تمنع عنك الرِّعاية الصِّحيَّة، ولا الدَّواء، ولا الرِّياضة.
سيتمُّ تقديم كلِّ ما يمكن أن يحافظ علي كرامتك كإنسان، وتُوفَّر لك كلُ شروط المحاكمة العادلة. نعم، ستكون المحاكمة عادلة، لا إيجازيَّة، ولا ظالمة، ولن يتمَّ قتلك ودفن جسدك في مكان مجهول بالصَّحراء، أو رميه في العراء كي تنهشه الكواسر، أو ربطه بالحجارة الأسمنتيَّة، وإغراقه في النِّيل!
لن يسمِّموك، أو يفبركوا لك حادث طائرة، أو سيَّارة! كما لن يشنقوك، أو يرموك بالرُّصاص، أو يتركوك تهلك تحت التَّعذيب، فكُف، أنت وبقيَّة قطيع الذِّئاب من ورائك، عن هذا العواء اللئيم، وهذا الصِّراخ والجَّزع الهلوع، واذهب، دون ضجيج، إلى لاهاي. لكن قبل أن تضع قدمك علي سلم الطَّائرة المجَّانيَّة في رحلة الذِّهاب بلا عودة، التفت إلى الوراء، لبرهة، والقِ نظرة سريعة على وطن رعاك، وعلَّمك، وصانك، لكنك، يوم نثر النُّجوم على كتفيك، وصيَّرك ضابطاً لكي تصونه، لم تصنه، بل خنته، فاشكر الله كثيراً لأنك لم يتمَّ تمزيقك إلى قطع صغيرة، ثم حرقك، ودفنك، في مكان قصيٍّ كأقذر نفاية بشريَّة.
لا ننتظر منك، بالطبع، اعتذاراً عمَّا ارتكبت بحقِّنا من جرائم دمويَّة لا تُحصى ولا تُعدُّ، خلال ثلاثين عاما من القتل، والنَّهب، والإرهاب الممنهج، بل اننا لا نصدِّق، أصلاً، أن ندماً يمكن أن يساورك، ولو للحظة، إلا على شيء واحد، هو أنك لم تقتلنا جميعاً، وتحرق جثثنا، وتهدم الوطن ذاته فوق رؤوسنا!
انقشع، إذن، عن فضاءاتنا، فقد ضيَّعنا فيك وقتاً لا تستحقُّه، وليس لدينا المزيد من الوقت كي نهدره عليك، فاذهب، سريعاً، الي لاهاي، واتركنا نتعافى منك، حيث أن لدينا واجبات لننجزها، لدينا ثورة لنستكمل اهدافها، ووطن «حنبنيهو البنحلم وبيهو يوماتي»! وأوَّل خطوات هذا التَّعافي أن تذهب غير مأسوف عليك، أيَّها المسربل بالعار والفضائح، لعنة الله عليك من فوق سبع سماوات!

الأحد
في مراسلة شخصيَّة بيني وبين صديقي عبد الله علي إبراهيم، كتبت أقول له: «إن سـألتم عنَّا فحالنا يغني عن سؤالنا حتَّام نظلُّ نعارض كلَّ حاكم؟! يذكِّرني هذا، ويُضحكني كثيراً، بمَن (عكَّ) وهو يترجم قولاً شعريَّاً للمبدع الماركسي برتولد بريخت في تعريـف المناضـل، فإذا به مَـن يحـلُّ (الضـَّجر) حيثمـا حـلَّ، بينما المعـنى الـذي ذهــب إليـه عبـقــري الشِّعر والمسرح الألمـانيَّين أن المناضـل هـو مـن يعـِي النـَّاس (أسـبـاب ضجرهم) حيثما حلَّ .. فتأمَّل!
ردَّ صديقي بقوله: «حكمة اللغة أنك لا تخطيء حتَّى لو أخطأت»! ثمَّ أردف عاشق الجَّدل الكلامي قائلاً: «كنت أسير بجانب الوالد في اليفاعة وأقرأ اللافتات، فمررنا على (دار الأشقَّاء) في عطبرة، فقرأتها (دار الأشقياء)، فقال لي الوالد: (صدقْت)! وذكَّرتني حكاية إن كانت كُتبت عليكم حربُ كلِّ حكومة بحكاية الشِّيوعي والجَّزيرة»!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى