الرأي

كل هذا الغياب!!

لؤي قور
مارس.. لعلك لا تعرف كم وجدت عودتك من فرحة، ومن احتفاء، ومن صعوبة تصديق!! من كان يصدق أنه سيلتقيك بعد كل هذا الكم من الشائعات؟ ومن الأخبار التي تأتي من الجبهة الشرقية، خاصة تلك التي تتحدث عن الإعدامات الفورية للأسرى. قال لي أحدهم إنهم لم يجدوا أسرى (يقايضون) بهم أسراهم في المفاوضات الأخيرة، لكونهم لا يبقون على حياة أحد. وكانت البلاد تعيش خارج خارطة الزمن، وتتخبط في العتمة، حين صار الضوء متهماً بالخيانة، فهي تتقلب ما بين المعجزة والخرافة، وانزوت الحقيقة في أكثر جوانب الذاكرة ظلمة. كنا ننتظرك على ذلك الحال ما بين وهم قريب، وبين حقيقة بعيدة وعصية المنال. صار تصديق الواقع والأمر المحتوم هو الاستثناء، وصار التعزي بالمعجزة والمبالغة والأكاذيب، هو آخر تقليعة في سوق الكلمات. كنا ننتظرك في أمل أحياناً، وفي قنوع حين نتسقط أخبارك، فلا نسمع جديداً. خصوصاً بعد أن ظهرت في نشرة أخبار التاسعة تقرأ من ورقة مكتوبة أمامك، إقراراً بالهزيمة. وبعد أن سمعنا في الإذاعة الأجنبية احتجاجاً من أحدهم على التعذيب (شبه اليومي) الذي تتعرض له في ذلك المكان المجهول. كان الأمل في لقياك يتضاءل، وينعدم في تلك اللحظات التي نسئ الظن فيها بما يمكن أن تؤول إليه الأمور، إلى أن جاء ذلك الشاب النحيل، يحمل ورقة بخط يدك. كان خط يدك في ذلك اليوم دليل حياتك الوحيد. فكرت بأن خروجك ممكن، ما دامت لك القدرة على إخراج الكلمات حية من ذلك المكان (المميت). ولم أصدق عيوني ذلك اليوم حين طالعتك تمشي أمامي. لم أنفق على خبر وصولك الكثير من المشاعر حين سمعته، صرت لا أصدق إلا ما أرى بعد أن ظللت أسمع طوال تلك الأعوام ما جعلني إلى تكذيب ما أسمع أقرب منه للتصديق. لكني رأيتك، كان جسمك هزيلاً بعض الشئ، وكان في لونك بعض شحوب، لكنه أنت..!! كانت عودتك معجزة ذلك العام التي شهدتها رأي العين. قلت لي ضاحكاً، إن للقط سبع أرواح. ولم تكن تعرف أن الوطن، والمرض، والإهمال، سيتكفلون بإزهاق الأرواح السبع، لذلك القط الأليف. وبعد عامين فقط، من تلك العودة المستحيلة.
بالأمس جاءني من يعزيني في فقدك. قال إنه كان رفيق سجنك ذات يوم، وقلت له بأنني أتذكره، ببنطلونه الجينز وقبعته المميزة، وعربته اللاندروفر كمزارع خارج من أحد الكتب القديمة التي تتحدث عن (الأراضي البكر)، واستصلاحها، و(ليونيد برجنيف). قلت له بأنني أراه مزارعاً (سوفيتياً). قال ضاحكاً إنه لما أحيل للصالح العام، لم يجد غير الزراعة سبيلاً لكسب العيش في بلد ضن عليه بحق العمل، وأن عربته وطريقة لباسه جعلته لقمة سائغة للاتهام بـ(الشيوعية)، فكانوا يلقون القبض عليه حتى تجف زروعه، وتموت النباتات في حقله المترامي حيث يزرع الذرة، ومن ثم يطلقونه وهو يدعو عليهم باللعنات. وكانوا يسخرون من هذا (الشيوعي) الذي يدعو عليهم بدعوات لا يأنسون فيها ضرراً ولا استجابة، (أشكيكم لي الله يوم الناس يقوموا حفايا وعرايا). دعوات كان يطلقها ذلك المزارع، فلا تشفي من غليل غُبنه الكثير، ويجدون فيها ما يتندرون به أحياناً، وما يجعلهم في حيرة من أمر ذلك (الشيوعي) المتدين. قال ذلك المزارع إنك أشجع من رأى من بشر، وأنك من احتضنه ومسح الدم عن وجهه حالما التقاك حينما شاركك السجن والهموم والطعام، قال إن طريقة احتضانك الصامتة له دون أن تسأله، ولو سؤالاً واحداً، أذابت ريبته من أن تكون مدسوساً عليه من قبلـ(هم)، وقال إن موقفه وتهمته كانت أخف بكثير من تهمتك وموقفك، وأن الإعدام كان أول ما يتبادر للذهن حال سماع تُهمتك في ذلك الزمن، وذلك المكان. لكنه مع ذلك كانت لك القدرة على أن تضحك من لعناته التي يلقيها ليلاً حين يناوشه البعوض، ويمنعه من النوم. قال إنك كنت تضحك بملء فيك، وأنت لا تعرف ما قد يكون من أمرك غداً، ولا بعد غدٍ، وقال بأنك كنت ثابتاً حين تواطأ الجلاد مع الخوف القابع في النفس البشرية، وركنت للهدوء وهم يحركون قفل الزنزانة يومياً، ليصنع من الضجيج ما يشعر السجناء بأنهم على وشك أن يلاقوا حتفهم. سربت الطمأنينة لنفسه، وهدأت غضبه حين ينظر لمصيبتك، فتهون عليه مصيبته.
ولذاك المزارع شأن لا تعرفه إذ أتيحت لي الفرصة أن أتعرف عليه عن قُرب. هو ناشط في مكان زراعته وسكناه، ونادراً ما لا يكون مشغولاً بإنشاء منظمة خيرية للتشجير، أو تنظيم دورة رياضية، وما إليه من تلك الأنشطة الاجتماعية. اقترح مرة أن يُزين مدخل النادي في الحي بالتماثيل. وجاء بالنحاتين ليستخدموا المواد المحلية في صُنعها، نسبة لصعوبة نقلها. إذا أرادها كبيرة الحجم. وحين تم له ما أراد، وما إن انتصبت التماثيل في مدخل النادي حتى أثارت حفيظة السلطة، في تلك المنطقة الطرفية. خصوصاً أول تمثال على المدخل، والذي كان يُجسد رجلاً يضع يده على خده في حيرة، وفي صلاة الجمعة التالية للحدث بدأت الخطبة بالحديث عن وجوب تحطيم الأصنام، وبعد الصلاة مباشرة اندفعت الجموع الهادرة نحو النادي لتحطيم التماثيل التي كانوا قد شاهدوها في طريق ذهابهم للمسجد، فلم يجدوا ولا واحداً منها، وحينما سئل المزارع عن مكانها أجاب (والله كانت حقت زول وشالا). وله قصة أخرى مع جهاز الاستقبال (الريسيفر) في ذات النادي الذي انتظر طويلاً ليصبح فيه جهاز ريسيفر، وبعد أن قضى المزارع ستة أشهر يجمع التبرعات من العضوية لهذا الغرض. وحين استقر في مقامه المنشود وتم تشغيله كانت مناظرة ( لسوء الحظ) بين (أحدهم) وأحد قادة المعارضة، وكان خطيب المعارضة بليغ العبارة. وفي واحدة من لحظات الحماس صفق جميع من في النادي لكلمات الخطيب المعارض، فجاءت الخطابات في اليوم التالي لإدارة النادي تحكم على (الريسيفر) بالمصادرة. لكن الريسيفر لم يكن موجوداً، وحينما سُئل المزارع عن مكانه أجاب: (والله كان حق زول وشالو لكن نحن حانطلع تصريح ونمشي نجيبو منو تاني). فشل المزارع (السوفيتي) المظهر في الحصول على التصريح في ذلك الزمن، وفشلت أنا في أن أستبقيك معي زمناً أطول.
بكى ذلك الرجل في حرقة حينما جاء لتعزيتي ذلك اليوم، وتمتم بكلمات ميزت منها القول بأنه لم يكن يعلم من أمر مرضك شيئاً، ومضى وهو يعدني بالتواصل على شرف ذكراك. لك في بعيدك الموحش بعض إلفة، وكثير سكينة، عهدي لك أن لا ننساك، فقط لأننا نحلم حلمك..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى