الرأي

كلمات.. لوجه مريم

لؤي قور
أعرف أن اللوعة قاسية
والحزن كثيف
أن الدمع لفقد حبيب .. شبه نزيف
لكنك أقوى
من ذاك الحزن يشوه ذاكرة الوجدان
لكنك أجمل
من تلك اللوعة
حين تراود فرحاً أشقر
أو تتبرج كي تدهشه بالألوان
والكلمات له في واحدة من تلك اللحظات التي يضن فيها الفرح بالأحرف والكلمات، ويجود الحزن بكل ما استرخص في ذاكرته من أوجاع، كلمات لوجه مريم. لم تكن تلك القديسة الأم، والتي أنجبت محنة تحبها. ولم تكن مريم المجدلية، ولا هي مريم (سيدة المقام) عند (واسيني الأعرج) في مراثي جمعته الحزينة، بل هي مريم أخرى تأخذ من كل منهن بقدر، لتصير في نهاية المطاف قديسة على طريقتها الخاصة. يقولون (لكل شيخ طريقة)، ولكل قديسة شكل وموجبات قداسة. وهي على كل حال واحدة من تلك الكائنات النورانية التي تشبه الأمنيات. هي ذات الأكتوبرية، التي أطلت ذات صباح فغيرت الماضي والحاضر، ووضعت بصمتها على كل ما مرت به من أشهر ومن سنوات. تعده عيناها بما يمكن أن تصنع به في ما قد يأتي من أزمان. قال بأن أكتوبر هو لعنة السنوات حين ينحاز لتلك الذاكرة الأليمة صعبة التذكر والنسيان، وبأن تلك الأكتوبرية صانعة الأحلام كانت تدفع أكتوبر، ليصنع لنفسه مكاناً بين الأشهر والسنوات. بعد أن صار يأتي في صمت، وعلى أطراف أصابعه، كأنه لم يكن يوماً ثورة شعب، ولا توحد وجدان. لم يعد يحتفي به سوى صُناعه الذين يقل عددهم بتقادم العهود، على الرغم من تشبثهم بكل ما حمل أكتوبر في صباه من زخم، ومن مستحيلات.
صار عسس الوجدان يدارون أكتوبر كعار قديم، ويتعاملون معه كسُبة يتنصلون منها بالتجاهل، حتى تلك الأغنيات الحميمة، والتي لازمت أكتوبر في سنوات صباه، تخلت عن ألحانها، وصارت ممنوعة من البث في ما تلاه من أعوام. فيا ترى ما الذي حل بتلك الألحان الأليفة؟ والتي لطالما حملت عبق الماضي ورائحته، وحملت كذلك أملاً- ينقص ويزيد – في ما يأتي من أزمان. كان أكتوبر شهراً يحمل كل خصائص مريم الوراثية، والمكتسبة. لكنه لم يعد يأتي مثلها في ثقة، وعلى مهل، وفي كامل الزينة، والأبهة، والجمال، بل هو ذلك المرور العرضي، والعجول. لعله يخشى بأن يُرمى بما لا يحتمل، وما لا يعرف من صفات، ومن أكاذيب. وهاهم عسس الوجدان وسلاطين آخر الزمان الذين صعدوا على كتف الوطن (ذات غفلة)، يقولون بأن أكتوبر ليس حكراً على ما عداهم من كائنات، يجربون مصادرته هو كذلك، أو تلوينه، أو التحايل عليه. يقررون ذات خُبث بأن أكتوبر للجميع، للضحايا والقتلة!! وبأنه يجب أن يمنح من القداسة ما يبعد الناس عن تشبيهه بشئ، أو مقارنته بما يمكن أن يأتي بعده من أشهر، ومن سنوات. لا يجوز أخذ العبرة منه، ولا أن يُتخذ سبيلاً لمعرفة الحق من الباطل، بل هو ثورة كبيرة، لم تُنجب سوى الفوضى والأقاويل. وأنه من جنس المعجزات القديمة، التي تستعصي على التحقق في هذا العصر الحديث. يغربونه عن الناس، عن هموهم اليومية المكررة، وعن ما يكابدونه من مشاق.
قرر أحد (متحدثيهم) في ثقة ذات ليلة، بأن أكتوبر لم يكن ثورة ضد ظلم وظالم ما، بل هم (الرعاع) وقد توحدوا في لحظة، لم يكن القمع فيها بالحزم المطلوب، وهي فوضى الثورة حين تعم، وحين تفتقد من يمكن أن يوجهها إلى غاياتها في سكون. وأخيراً لم يجد عسس الوجدان حلاً يناسب ذكرى أكتوبر سوى التجاهل. يتذكره الشيوخ على شكل صبا، وشباب، وقوة، وعزيمة، وانتصار. ويذكره بعض ممن تذوق طعمه في ذلك الوقت والحين في صمت وحنين. لكن مُعظمنا آثر السلامة وهو يتواطأ مع ما أدخل فيه من عادية. يقرر مشروعهم (المقدس) بأن أكتوبر هو معصية قديمة أولى بالاستغفار والتناسي، وهي قمينة بأن تُدارى، وأن تُغيب، وأن تستدير. وهاهو ذا يلتقيها مرة أخرى في أكتوبر، يرن هاتفها المحمول دون أن تلتفت إليه. كانت غارقة في نوبة حُزن لم يعرف لها سبباً، ولا لإخراجها منه سبيلاً، وكانت عيناها التي تمخضت ذات وجع تنجب دمعتين تسلكان طريقهما نحو البعيد. قال بأن الدموع هي كائنات فريدة، تستقل بنفسها حال الوجود، وبعد ثوان معدودة من تكونها المرير.
وكانت هي تنظر نحو البعيد كمن يسترجع شيئاً. نعم لابد أنه التذكر، ولاريب بأن شيئاً ما بعث من الذاكرة ليعبث بجمال وجهها، ويعبث فيها بشفيف الوجدان. وهاهو يحدثها فتضحك في كامل الانطلاق، كانت الدموع ما تزال تترى على وجهها الوسيم، وبدت في ذلك الوقت أشبه ما تكون بوطن تخلى عنه بنيه وبناته ذات ليلة، وتركوه على ذلك الحال الباكي الضاحك، أو هي أكتوبر بعد أن مر بكل ما مر به من محن، ومن نوازل، ومن مستحيلات. تعيده دموعها إلى أعمق ما يحمل بداخله من أوجاع، ويستعين بضحكتها على أن يأمل خيراً فيما قد يأتي في قادمات الأيام. فيا أيتها القديسة، يا روح مريم، ويا وجع التذكر، وجبروت النسيان. من أي المعابد خرجت؟ وفي أي لوحة زيتية كنت تسكنين في سنوات ما قبل الظنون؟ قال بأن وجهها يذكره بأعمال فناني عصر النهضة في فرنسا الفنون، وبأنه لا يستطيع أن يتخيل في أي الأماكن كانت قبل لقياه. وقال بأنها على وثيق صلة بأكتوبر، وأن أكتوبر نفسه لم يكن ليختار أنثى سواها، إذا وجد للحياة خارج نهاراته ولياليه من سبيل. ولربما رضي بأن يتنازل عن كل ماضيه من أجل عينيها. أن يتقبل التجاهل بلا شائبة مرارة، فقط ليلتقيها في غفلة من عسس الوجدان، وجندرمة النوايا الخبيثة، ومريض الشكوك. كان أكتوبر لينفق عمره في سبيل نظرة منها، أو لأجل لحظة خلوة (ناجية) معها. لحظة متعافية من تهم التآمر، وناجية من القتل في زمن المقابر الجماعية، وإنكار التاريخ.
تتماهى قسمات وجهها مع ملامح وطن ضيع جماله بما رسموا فيه قسراً من قبيح الوشوم. قال ضاحكاً:( هي النسخة الأصلية للوطن قبل أن يمسحوا على وجهه ما لا يناسبه من مساحيق). وكانت هي وصلاً لما انقطع بداخله من أغنيات، ورتقاً لوجدانه في زمن الفتق والاستئصال. قالت:(تعرف، حتى مستشفياتنا أصابتها العدوى، فصاروا لا يكادون يجدون دواء لعلة غير الاستئصال). صرنا نستأصل الأيدي، والأرجل، والحلم، والأشجار. قال:( هل أخبرتك بأنهم كادوا يستأصلون أذن أحدهم ذات صباح؟ قالوا بأن لا بد من استئصالها ولا مناص، حتى اكتشف في نهاية الأمر بأن ثمة (حشرة صغيرة) دخلت في أذنه ذات ليلة، لتخرج بعد أن ضاق بها المكان، ولم تطق ضيق ما هي فيه من موضع، في ذلك العالم الواسع، والفسيح. من يدري لعل الاستئصال صار هو الآخر (توجهاً حضارياً)!! كانت تبكي وتضحك. وما بين ضحكها ودموعها كان هو يتأرجح بين الممكن والمستحيل، وكان أكتوبر يمضي متثاقلاً، يُفكر في احتمالات خيبته في أواخر العام، وفي كل عام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى