صفحات متخصصةقضايا فكرية

قضايا فكرية: إعداد- د. هشام عمر النور

الأُلُوهة…
إبراهيم جعفر
كاتب وأكاديمي سوداني، ببريطانيا
الأُلُوهَةُ حقيقةٌ ذاتيّةٌ وكونيَّةٌ معاً، بل على الأدَقِّ قُلْ هي الذّات الشَّخصيّة الواجدة في داخلِ الكون والتي لها أوان تَجَلٍّ في الإنسانِ العيْنِيِّ المُفْرَدِ والفَرِيد “الغير القابل للاستِبْدال، بالمعنى الوِجُوديِّ”، والأُلُوهةُ حقيقةٌ مُلْتَبسَةٌ تُنفي مُلْتَمِسَها وتُقَرِّبُهُ حسبَ هوىً غامضٍ وأخلاقيّةٍ جَمَاليّةٍ سرِّيَّةٍ لا تتكشّف بالوعيِ “أو الفِكْر” بل بمُحايَثَتِهَا وجدانيّاً، أي بالوَصْلِ… الأُلُوهةُ هي اللا قانون، هي “الرَّعْشَةُ”، هي “الغِمُوضُ الطَّبِيْعِيُّ لعَنَاصِرِ الكونِ الخالقة” عند الوَثَنِيِّ لا الحقيقة المعقولة المُتبَاعِدة المُتَعَالِيَة transcendental ومُهندِسَة الكون كما في الأديانِ السّماويّةِ بالتّحديد “في تَحَقُّقِهَا الأدنى..”، وبالجّملة فإنّ الأُلُوهةَ حقيقةٌ ديونيزْيَوزيّة وَجْدِيَّة مُبَاطِنَة لحقائق فرديَّات العالم الأُنْسِيَّة والحيوانيَّة والنّباتِيَّة وغيرها من الفَرْدِيّات المجهولة الغامضة البعيدة “المخلُوقات الأثِيْرِيَّة” كما أنّها مُكَوِّنَة لحقائقِها المُسْتَقِلَّة الجّوهرِيَّة الفَرِيْدَة والمُتَكَامِلَة في مُطْلَقٍ “حَمِيْمٍ” ما… حقيقةُ الأُلُوهةِ ليس في وحدتها بل في “ألْوَانِهَا”:- الشَّجَرَةُ إلهٌ له لونٌ رُوحيٌّ مُنْفَرِدٌ في جَمَالِهِ، الأشياءُ الصّامتَةُ آلهةٌ لها فرادتها الرّوحيّة كذلك، البَشَرِيُّون:- كُلٌّ في ذاتِهِ لهُ حقيقةٌ إلهيّةٌ مُطْلَقَة وذاتَ لونٍ لا يُشَابِهُ حقيقةَ الآخرَ ولكنّهُ يُآخِيْهَا، هنالكَ “قرابةٌ رُوحيّةٌ”، التِقَاءٌ في مجالٍ أو في نَسِيْجِ عنكَبُوْتٍ رُوحِيٍّ واحِدٍ، أو قُل بُحيرة رُوحيّة واحدة، ولكن ليسَ تشَابُهَاً وتِكْرَارَاً رُوحِيَّاً للجُّوَّانِيَّات… الأُلُوهَةُ تَعَدُّدٌ ووُحدة، وثنيّة وصُوفيّة معاً. فالصّوفِيَّة لا تقبل الأغيارَ فيما تتميّز الوثنيّة في أنّها تحيا “أغيَارَ الأشياء” بألوانِها المُخْتَلِفَةِ في أحايينٍ مختلفة أو قد تجمع تلكَ الألوان معاً في لحظَةٍ وثَنِيَّةٍ مُفَارِقَة:- قد أعيشُ وأتَوَحَّدُ شعوريّاً في رقصَةِ عُشْبَةٍ تكونُ لي هي المُطْلَقَ في ذلكَ الآن… والتّعَدُّد لا يُغِيْبُ آنذاكَ بل يكُونُ مُكَمِّلاً لِلَوْحَةِ تلكَ الحقيقةِ الشّعُورِيّةِ، أو قُلْ، بإيحائيَّةٍ أكثَرَ، ظِلاً جمالِيَّاً خافِتَاً “أو حقيقةً قَمَرِيَّةً ضبابيّة” على هامشِ شمسِ الحقيقةِ “النُّواة” التي هي رقصة العُشبة في مِثالِنا المذكور (حالة رقصة العُشبة جاءت في قِصّةٍ قصِيْرَةٍ لي:- كيفَ أنامُ و في دَمِي هذي العقارب؟!)… إنَّ الأُلُوهَةَ تَتَضَايَفُ وتَتَكَامَلُ وتُغْنِي ولا تَتَعَارَضُ وتُنْفِي وتُفَارِق… ذلكُم قائمٌ في كونِ أنَّ عَيْنِيَّتَها في الذّاتِ الإنسانيّةِ تُحسّسُ آنَ ما تُحَسَّسُ في الشِّعُورِ- على هيئاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ- “حالةُ” المعنى أو حقيقةُ المعنى المُتَوَحِّدة في آنٍ-مُطْلَقٍ، كما هو الشّأنُ مع حقيقةِ العُشْبَةِ الرّوحيّةِ المُتَجَلِّيَةِ في آنِ “أو فِعْلِ” حضور العشبة الرّاقصة في مِثَالِنا المَأخوذِ عن القصّةِ القصيرةِ المعنيّة…
هامشٌ حيويٌّ:- حالةُ رقصةِ العُشْبَةِ:-
العقاربُ… العقاربُ… في ساحةٍ خضراء التممنا في أصيلٍ ينفحُ الرّوحَ بخُضْرَةٍ لا تُصدّق… يأتيني وجدُ التَّقبيلِ لكلِّ حيٍّ نما وازدها مُغرقاً في صوفيّةِ خُضرتِهِ الخاصّة والآسرة… كُنْتُ أمعنُ في تأمّلِ عشبةٍ ما وهي ترقُصُ وأُقَبِّلُ صديقي “مصطفى ” وأصيحُ بعثمان ومصطفى:- انْظُرَا… ها هي ترقص… هذه العشبة… انظُراها… انظُراها…! الريحُ كانت تتمايلُ بها… فتاةٌ أقول؟! موجة؟! … هي موجةٌ-فتاةٌ تفوحُ بعَبَقِ الجِّنْسِ ويلفحُني طميُها الأُنثويُّ فأقذِفُ؟!… العشبةُ ترقصُ في هواء التّراتيل فَيُتَعْتِعُنِي لحنُ صباحٍ أذكُرُ به غناءَ الطّيُورِ في يومٍ غائبٍ غائمٍ من أيّامِ الطّفُولةِ البعيدةِ المنفيّة حينَ كُنْتُ أغيبُ في دُهْمَةِ أشجارِ حيِّ “السَّرَايَاتِ” بكوستي وأُمْعِنُ في حالةٍ ربّانيّة… قريباً مِنْكَ كُنْتُ يا الله أدخُلُ ذهولاً سحريّاً وتُدَغْدِغُنِي كُنْتُ “يا صباح يا زاكي العبير سلِّمْ عليهُمْ، عليهُمْ كَتِيْر ْ…”… أحلُمُ كُنتُ آنذاكَ في ساحةٍ خضراء والعُشبةُ ترقُصُ… يتداخلُ حُلُمِي بعينين “جِنِّيَّتَيْن”، في الحُلُمِ أُطاردُ أنا وهي، في ساحةِ رمليّةٍ ممتدّةِ بطولِ السّهوِ الغافي، البرق الذي يلمع ثمّ يُغيب… البرقُ كان “يفجُّ” السّحابَ في التماعاتِ بهجةٍ قصيرةٍ وممتلئةٍ… نُطاردُ البرقَ معاً… نجري… يهرُبُ منّا… يلتمِعُ في البهجةِ ساخراً ويختفي… يختفي ساخراً، بعد بهجتِهِ القصيرةِ، في العتمةِ السّماويّة… نُطاردُهُ… نضحك… نخلعُ عنّا أثوابنا أو ندعَها تتناثر على أجسادِنا كيفما شاءت… ثوبها يهوي بحريّةٍ تحت الكتفين، في الهواء، كفراشةٍ، كبالونةٍ… ثوبُها يصيرُ بالونةً شفّافةً… وأنا وهي نُطاردُ البرقَ… البالونةُ الشّفّافةُ تتوهّجُ مثلُ البرق… هي والبرقُ يُصبحانَ معنىً واحداً… البالونةُ الشَّفَّافَةُ تَتّحِدُ بالبرق… يا برق لماذا تقتربُ منّا أَتُرَاكَ خُدِعْتَ بالبالونةِ الشّفّافةِ فانحنيتُ عليها بالقُبَل… قُبَلْ… قُبَلْ… بالونةٌ شفّافةٌ وبرقٌ… نُمسِكُ أنا وهي بذيلِ البرقِ الممتدِّ والمُتَموّجِ كذيلِ سمكةٍ حُرّةٍ، ذيلٍ ناريٍّ لسمَكَةٍ حُرّةٍ و”فاعِلةٍ مُخْتَارَةٍ” في نهرِهَا… نبحثُ عن “حَرَاشِيْفِهِ” التي تقذفُ النّار… نُزَغْزِغُهُ… نضحكُ… لا نجدُ حراشِيْفَاً… نضحك ونضحك ” أتَارِيْكْ يا وَدْ السّما كُتَّ بتلعبْ ساي وانتَ كُلّكْ سلام لكن نارَكْ شقاوة أطفال… شَقَاوة أطفال بَسْ كانت ناركْ… انتَ بتلعَبْ… بتلْعَبْ… تلعَبْ و بَسْ… تاني ما حتْغُشَّنَا يا ابن اللّذينَ يا شيطانْ… يا وَلَدْ، يا طِفْلِ بيلعَب… يلْعَبْ… يلْعَبْ…!!” تُفَرْقِعُ ضحكتُنَا واحدةٌ وعاليةٌ و”مُستَّفَةٌ” بالمرحِ والنّجومِ الرّائعةِ الحانيةِ… أحلُمُ… أحلُمُ… ولكن… العقارب… العقارب… العقاربْ… وذاكَ اليوم… كيفَ أنامُ وفي دمي هذي العقاربُ لا تغفَلُ عن نهشي بسُمّها الغريبَ الطّعم الذي يتقَبَّلُهُ القلبُ في صمتٍ شهيد؟… كيفَ أنامُ… العقاربُ… كيفَ أنامُ… كيفَ أنامُ؟… (من كيف أنامُ وفي دمي هذي العقارب؟!- إبراهيم جعفر- مايّو، 1985م).
///

الحداثة الفائضة في غربتها الأخلاقية (1 من 2)
د. محمود حيدر
مفكر وأستاذ في الفلسفة – لبنان.
رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمّقة.
أي جواب ينتظره المشتغلون بسؤال الأخلاق في زحمة الحداثة الفائضة؟
في الغرب حيث الشغفُ الأقصى بمحاسبة الذات، لا يلبث السؤال إلا قليلاً حتى يذوي في كهف الغيبة؛ أما استرجاعه إلى حقل التداول فهو أدنى إلى سلوى ميتافيزيقية لا طائل منها.
ندرةٌ من أهل التفلسف لا يزالون كالغرباء ينحتون في صخر المفاهيم ولمَّا يبلغوا ضالّة الإجابة بعد… كما لو كان من شأن الحداثة في فيضانها المريع أن تصدّ الأخلاق عن سبيلها، أو أن تجد لها معزلاً…
متأخراً تساءل الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو عما إذا كانت الحداثة لا تزال تشكل امتداداً لعصر الأنوار، أو أنها أحدثت قطيعة أو انحرافاً عن المبادئ الأساسية للقرن الثامن عشر. وبشيء من المرارة، والسخرية أضاف: «لا أعرف إن كنّا سنصبح راشدين ذات يوم.. أشياء كثيرة في تجربتنا تؤكِّد لنا أن حادث «الأنوار» لم يجعل منّا راشدين، وأننا لم نصبح كذلك بعد»… إعراب فوكو، ناشئ على المؤكد، من استشعارٍ لمنطق اللحظة التي كتب فيها مقالته الشهيرة “ما الأنوار؟”. ويومئذٍ قال بما ينبئ عن تهافتٍ أخلاقي بيِّنٍ لقيم التنوير ومبادئه الكبرى.
إلتباسات الهوية
أصل القضية يعود ـ على غالب التقدير ـ إلى مبتَدَءاتِ التكوّن الحداثيّْ. فقد حلَّ المدى الجيو ـ حضاري للغرب محلَّ تساؤلٍ مريب حول هويته ووجوده. تم استدعاء التاريخ والجغرافيا والدين والثقافة من أجل تركيب هويةٍ تكون له منفردة بذاتها. هنا على وجه الضبط راح يتأسس إشكال الهويّة كَمُشكِلٍ حضاري مركب العناصر، متعدد الأضلاع.. إلا أنه مشكِلٌّ أخلاقي بالمقام الأول. ففي قلب التعريف الذاتي للغرب يتموضع مفهوم عالميته الحضارية. وبحسب المدَّعى يمسي المفهوم عقيدة مترسِّخة: الغرب مركز جاذبية العالم، بَدْؤه وختامُه، وهو التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية. جغرافية الغرب الأم التي تمثلت بأوروبا منحت لنفسها رسالة تحضّرية في علاقتها مع الشعوب الأخرى. حتى أن مراياها الثقافية انصبغت مع الوقت برؤية عالمية لا ترى إلى الغير إلا بوصفه تابعاً محضاً أو مجال استخدام. وعلى هذا المنحى نظر عقل الغرب إلى التنوع كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. من أجل ذلك سينبري جمعٌ من فلاسفته وعلمائه، لا سيما علماء الطبيعة، ليقترحوا أساساً علمياً وفلسفياً لشرعنة “الحوْضَرة”، ومن ثمَّ لتسويغ مبدأ الوصاية على بقية العالم.
سيغموند فرويد نبَّه الى هذه العقدة وهو يستطلع اللوحة السايكولوجية الأخلاقية للغرب إثر الحرب العالمية الأولى: يقول: «ليست المسألة في أننا سقطنا إلى أدنى المستويات (عبر قتل بعضنا البعض)، بل أننا لم نرتقِ إلى المستوى الذي كنا نظن». من بعد ذلك تمدَّدَ الزمن ليظهر عالم جيوسياسي ثقافي جديد أمام الملأ. معه ما عاد بمقدور التسمية القديمة للغرب أن تلبي تعريفه البدئي بعد أن ذوى التنوير تحت سطوة الاستحلال الكولونيالي. لكأن حادث الأنوار الذي آل إلى حداثة مكتظة بالعيوب، غاب مع الحداثة الفائضة عن مرآة الفكر والقلب.
حتى التقدم الاستثنائي للعلوم الذي ملأ بسحره الحداثات المتواترة ظل يحمل معه فرضيتين جذريتين في غاية الأهمية:
الفرضية الأولى العَلْمَوية ـ أي الاعتقاد بأن العلم والتفكير العلمي قادران لوحدهما أن يحدِّدا لنا ما هو واقعي وحقيقي. ما يعني أن كل شيء بما في ذلك القيم الأخلاقية يجب أن يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا.
الفرضية الثانية، إرادة التحكم بالعالم الخارجي، أو السيطرة على الطبيعة. ما يعني أن الكون بالنسبة إلى عقل الغرب صار مجرد «مصدر» للتكاثر يجب استغلاله إلى أقصى حد.
مع هاتين الفرضيتين حُشِرت القيم في معزلها، وما عاد يُفكّر فيها كقيمة يُبنَى على مقتضاها. كلُّ شأن بعد “الأنوار الأولى” صار محكوماً بكيفية تحصيل المعرفة، وبالاستخدام الذكي لهذه المعرفة بقطع النظر عن وسائط الوصول إليها.
نستدرك ثم نستأنف:
لا يمكننا التشكيك في مدى نجاح الاقتصادات المبنية على التكنولوجيا.. إلا أن التعرَّف على السمة الجوهرية للرأسمالية النيوليبرالية، ضروري للتمييز بين معرفة علمية مسددة بالفضيلة، وأخرى انحكمت إلى قانون التراكم الذي لا حدّ له للثروة والسلطة. إن ما حصل في الحداثات المتعاقبة كان استعادة الفرضيتين اللتين سبقتا: العلموية والسيطرة على الطبيعة، ثم لينضاف إليهما فرضية أعظم شأناً في الصعيد الأخلاقي، هي فرضية الامتداد الإمبريالي نحو أرض الغير.
منذ إيمانويل كانط إلى الكلام اللاحق على الحداثة البَعْدية، مرَّت ثلاثة قرون أو نحوها. في الأثناء كان واضحاً أن مقولة «كل ما هو عقلي هو واقعي» ليست إلاَّ واحدة من القواعد التي أسَّست للاستلاب. أولُ غيثِها أنها جعلت الإنسان حيواناً سياسياً بامتياز، ثم لتدفع به إلى المنحدر الذي لا يرى نفسه فيه إلاَّ في مرآة سلطانها. والذين وضعوا هذه المقولة في سياق ما يسمى بـ “الواقعية التاريخية” كانوا على يقين بأنَّهم ما فعلوا ذلك إلا ليبيِّنوا أنَّ الأطروحة الأخلاقية التي حملتها الفلسفة الألمانية على أجنحة اللاّهوت ليست غير توهم لا يلوي على أمر. أما التنظير الذي أراد أن يُسقط الأخلاق من عليائها، فقد صوَّب أسنَّته على كل ما له صلة بالمُثُل. قيل إنَّ الأخلاق والدِّين هما شكل من أشكال الإيديولوجيا الهائمة خارج الزمان والمكان. وإنَّ الكائن هو نتاج التاريخ، وأنَّ الوعي ليس هو الذي يحدِّد الحياة، بل الحياة هي التي تحدِّد هذا الوعي».. ولكن .. لمّا أرادت هذه الأطروحة أن تَدْرَأ عن الإنسان الاستلاب، أو أن تستنقذه مما هو فيه، رجعت القهقرى نحو استلاب من نوع آخر. ولقد ظهر الشاهد على تمامه مذ أمسك قومُها بناصية الضفة الأخرى للعالم في رحلة تضاد مع رأس المال وامبراطورياته الطموحة، على امتداد القرن العشرين بأكمله.
//////

لقاء مع مارثا نوسباوم عن حركة #MeToo (3 من 3)
الغضب والكبرياء والعدالة بعد الاعتداء الجنسي

أجرى اللقاء أيزاك شوتينر ونشر بالإنجليزية في 1 يونيو 2021م في مجلة The New Yorker
ترجمه إلى العربية هشام عمر النور
حركة #MeToo، مع العديد من الأسماء الأمريكية الأخرى أو الدولية ذات الصلة، هي حركة اجتماعية ضد الاعتداء الجنسي والتحرش الجنسي تنشر مزاعم الجرائم الجنسية. تم استخدام عبارة “أنا أيضًا” في البداية في هذا السياق على وسائل التواصل الاجتماعي في عام 2006 على Myspace، من قبل الناشطة والناجية من التحرش الجنسي تارانا بورك.
الغرض الأصلي من “أنا أيضًا” كما استخدمته تارانا بيرك في عام 2006 هو تمكين المرأة من خلال التعاطف مع النساء الشابات والضعيفات. في أكتوبر 2017، استخدمت أليسا ميلانو هذه العبارة كهاشتاغ للمساعدة في الكشف عن مدى اتساع ظاهرة التحرش والاعتداء الجنسيين من خلال إظهار عدد الأشخاص الذين مروا بهذه التجربة.
بعد أن بدأ الملايين من الناس في استخدام العبارة، وانتشرت إلى عشرات اللغات الأخرى، تغير الغرض وتوسع، ونتيجة لذلك، أصبحت تعني أشياء مختلفة لأناس مختلفين. ونمت الحركة بحيث أصبحت تدعم المهمشين في كل المجتمعات. وتهدف الحركة إلى التعاطف مع الضحايا ورفع الوعي والنشر الإعلامي الواسع لجرائم التحرش والاعتداء الجنسي وتغيير القوانين والسياسات والعادات والتقاليد التي تساعد على إخفاء جرائم التحرش والاعتداء الجنسي وإسكات الضحايا. وتعتبر تارانا بيرك زعيمة هذه الحركة.
خلال العقود الأربعة الماضية، أثبتت مارثا نوسباوم نفسها كواحدة من الفلاسفة البارزين في أمريكا، بسبب دراساتها الرائدة حول مواضيع تتراوح بين قدماء الإغريق والنسوية الحديثة. كتبت راشيل أفيف، في عام 2016م عن نوسباوم أن “عملها، الذي يعتمد على تدريبها في الكلاسيكيات وأيضًا على الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي وعلم الاجتماع وعدد من المجالات الأخرى، يبحث عن شروط كلمةeudaimonia، وهي كلمة يونانية تصف السعادة كحياة كاملة ومزدهرة. وفي وقت ينعدم فيه الأمن بالنسبة للعلوم الإنسانية، فإن أعمال نوسباوم تجسد امتداد المساعي الإنسانية واتساعها”.
يركز كتاب نوسباوم الأخير ، “قلعة الكبرياء: الاعتداء الجنسي، والمساءلة، والمصالحة” على العديد من الموضوعات التي كتبتها من قبل، من العلاقات بين الجنسين إلى دور الغضب في السلوك البشري. وتدرس ثلاثة مجالات – القضاء الفيدرالي، وفنون الأداء، والرياضات الجامعية – وتشرح الأسباب المميزة التي تجعل كل منها معرضة بشكل خاص للرجال المتوحشين. وكتابها أيضًا نداء لمنع الغضب الناجم عن حركة #MeTooمن التغلب على الالتزام بالإجراءات القانونية الواجبة. فهي ترى أن “بعض النساء لا يطلبن فقط الاحترام المتساوي ولكن يبدو أنهن يسعدن بالعقاب”. “بدلاً من الرؤية النبيلة للعدالة والمصالحة، تفضل هؤلاء النساء رؤية نهاية للعالم يتم فيها تحقير الظالم السابق، وتسود هذه الرؤية كتحقيق للعدالة”.
تحدث مؤخرًا إيزاك شوتينر عبر الهاتف مع نوسباوم، أستاذة القانون والفلسفة بجامعة شيكاغو. وتناولت نوسباوم في حديثها، الذي تم تحريره من أجل التفصيل والوضوح، أوجه القصور في قوانين التحرش الجنسي، ولماذا يقع اللوم جزئيًا على الكبرياء في الاعتداء الجنسي، وكيفية التعامل مع المعتدين الذين لم تتم إدانتهم في محكمة قانونية.
أيزاك شوتينر: كتبتي أيضاً في كتابك الأخير “قلعة الكبرياء: الاعتداء الجنسي، والمساءلة، والمصالحة”، “إنه أيضًا وقت لا تطلب فيه بعض النساء الاحترام المتساوي فحسب، بل يبدو أنهن يستمتعن بالعقاب. وبدلاً من الرؤية الفاضلة للعدالة والمصالحة، تفضل هؤلاء النساء رؤية نهاية للعالم يتم فيها الحط من شأن الظالم السابق، هل هذه الرؤية هي بمثابة العدالة. لا، فالعدالة شيء مختلف تمامًا، وتتطلب الفروق الدقيقة والتمايز والاستراتيجيات المتطلعة لجلب الأطراف المتحاربة إلى طاولة السلام”. أعتقد أن هذا مهم للغاية، وأريد أن يعمل مجتمعنا وفقًا لما تقولينه. لكنني أعتقد أن الكثير من الغضب والغضب الذي رأيناه من النساء حولMeToo# لم يكن مفهومًا فحسب، بل كان مفيدًا إلى حد ما. لا أستطيع أن أجعل نفسي تتمنى ألا يكون الناس غاضبين إلى حد تطاير الزبد من أفواههم من الكثير مما حدث. هل تريدين العيش في مجتمع، عندما تقع هذه الأشياء، لا يشعر الناس بالغضب إلى حد تطاير الزبد من أفواههم؟
مارثا نوسباوم: حسنًا، ليس إلى حد تطاير الزبد من الأفواه. أعتقد حقًا أنه من المهم جدًا التمييز بين نوعين من الغضب. واحد فقط، “أريده أن يدفع ثمناً. أريده أن يدفع ثمناً يتناسب مع ما ارتكبه من جرم”. وهذا ليس مفيدًا أبدًا. لكن هناك نوع من الغضب أسميه الغضب الانتقالي، لأنه يستدير من الماضي ويواجه المستقبل. هذا مفيد للغاية، وبالتحديد القول، ” أن هذا أمر شائن للغاية. يجب ألا يحدث مرة أخرى”. نعلم جميعًا كيف يكون كذلك، لأنني أعتقد أن أي شخص والد أو رأى والدين صالحين يعملان، فسيرى أنهما يعملان بهذه الطريقة بالضبط. إنهم لا يريدون مقابلاً لما وقع لأطفالهم لكنهم غاضبون. ومن بعد ذلك يريدون اختيار حل ينتج عنه مستقبل أفضل. لذلك هذا ما أعتقد أنه مفيد للغاية. لا أرى أي أمر مفيد في الغضب إلى حد تطاير الزبد من الأفواه.
أعتقد أن الشخص الذي كان قدوة لي في كل هذا هو مارتن لوثر كينغ الابن. لا يوجد شخص عبّر بطريقة أكثر قوة عن غضبه العميق، لكنه رفض تمامًا المقابل الانتقامي. ففي مقال له في عام 1959 [“المنظمة الاجتماعية للاعنف”]، قال إن هناك طريقتين يمكنك من خلالهما الرد على ظلم عميق. هنالك الميل للرد على الهجوم وهو رد يريد فقط الانتقام مما حدث في الماضي. وهذا ليس مفيدًا جدًا، كما قال مارتن لوثر. فهو رد مشوش وغير راديكالي. اعتقد أن هذا مثير للاهتمام بشكل خاص. لكن النوع الذي يريده مارتن لوثر، هو ذلك النوع الذي يسميه راديكاليًا، أي الغضب وقد تمت تنقيته. أي أن تتخلص من الرغبة في الانتقام ثم تجمع بين الغضب والتقدم إلى الأمام الذي ينطوي على الأمل والإيمان وحتى حب الناس. وهذا يعني، أن تحب في الإنسان جوهر إمكانياته الذي يجعله قادرًا، ربما، على مواكبتك والانضمام إليك في مشاريعك المستقبلية.
أيزاك شوتينر: لا يمكنني أن أجادل في ذلك حقًا، على الرغم من أن جزءًا مني يعتقد أنني لن أثق في الأشخاص الذين ليس لديهم أي رغبة في الانتقام بينما، في نفس الوقت، لا أريد أن تشكل الرغبة في الانتقام الكيفية التي نستجيب بها كمجتمع إلى أي جرائم.
مارثا نوسباوم: حسنًا، إنه تطوري، على الأرجح، وربما حقق بعض الخير في مرحلة ما من تاريخنا التطوري. لكني أعتقد الآن أنه بقايا، وهو ينطوي حقًا على تفكير مشوش. إذ أنه ينطوي على التفكير في أن دفع ثمن الأفعال مفيد. أنا أقوم بتدريس مسيرة الرجل الميت “Dead Man Walking” – الأوبرا، وليس الفيلم. هؤلاء الآباء الذين فقدوا أطفالهم، هذا الشيء الفظيع. وما هم مهووسون به هو إعدام الرجل الذي تسبب في ذلك. إنه اتجاه خاطئ. إنه لا يمنحهم أي حل لحزنهم.
ولقد أدرك ذلك أحد الوالدين الأربعة في النهاية، وجاء إلى الأخت هيلين [بريجين] وقال، “كما تعلمين، لقد انفصلنا أنا وزوجتي، وأعتقد أنني أفكر بشكل مختلف الآن. “لقد بدأ في الاستيقاظ، ويرى أن القصاص لا يمنحك شيئًا. إنه مجرد صرف لللانتباه، عما يمكنك القيام به، ربما، تقليل احتمال أن يتعرض شخص آخر لجريمة عنف في المستقبل. يمكنك استخدام حزنك بشكل جيد. وكما قال مارتن لوثر، إذا جلس الجميع في المنزل في حالة من اليأس، فلن يتم فعل أي شيء. أنت بحاجة إلى المشاركة في حركة بناءة من أجل التغيير.
أعتقد أن هذا ما تفعله معظم النساء. وأعتقد أن الجزاء الانتقامي غير المحسوب ضعيف. أعتقد أنه ضعيف لأنه يعني فقط أنه ليس لدي شيء بنّاء لأفعله، لذلك سأعاقبك. نرى هذا طوال الوقت في الطلاق، حيث لا يستطيع الناس التفكير في كيفية المضي قدمًا، لذلك يقضون كل وقتهم في محاولة معاقبة أزواجهم السابقين بتسوية طلاق جزائية. إنهم لا ينقذون احترامهم لذواتهم. ولا يصنعون مستقبلًا جديدًا لأنفسهم. ويجعلون أنفسهم ضعفاء.
أيزاك شوتينر: لقد كتبتي مقالًا مشهورًا منذ أكثر من عقدين من الزمن حيث تناولتي بعض جوانب الحركة النسوية التي تريد “الابتعاد عن الجانب المادي للحياة”. هل هذا شيء تقلق بشأنه في الحركة النسوية الآن في أعقابMeToo#، أم أن نقدك إلى الدرجة التي يكون فيها نقدًا، هو نقد مختلف؟
مارثا نوسباوم: أوه، لا، حركةMeToo# مادية للغاية، وهي تواجه مشكلات حقيقية، لذلك هذا ليس انتقادي على الإطلاق. لا، ما كنت قلقة بشأنه كان نوعًا من الكتابة المليئة بالمصطلحات حيث كان كل النقاش على مستوى العالي للنظرية. حيث لم يكن في إمكانك قراءة فقرة دون رؤية الإشارة إلى ألتوسير وخمسة منظرين فرنسيين آخرين، وهذا أمر لا يمكن لأي شخص من الجمهور فهمه.
أيزاك شوتينر: إن الإتيان بالفيلسوف الفرنسي الذي خنق زوجته طريقة جيدة لإغلاق هذه المناقشة في دائرة مكتملة الإحكام.
مارثا نوسباوم: صحيح ، لكن هذا لم يُذكر بالطبع. لا، إذا ذكرت ذلك، فسيكون ذلك شيئًا حقيقيًا. لكن، نعم، نصف هؤلاء المنظرون الذين تم تملقهم كانوا، بالطبع، أناس سيئون للغاية بعدة طرق. أعتقد أن النظرية النسوية قد عادت بدرجة كبيرة إلى القضايا الحقيقية. عندما أقوم بتدريس الفلسفة النسوية الآن، أرى أن هناك الكثير من المعارف الجديدة، لا سيما حول قضايا المتحولين جنسيًا. لذلك ليست هذه هي المشكلة. المشكلة هي أن بعض النسويات، مثل الكثير من الناس في أمريكا، يؤيدن العقاب الإنتقامي، وهو أمر لم تتبناه جميع الثقافات. ولا يتعين علينا أن نكون على هذا النحو.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى