الرأي

قصة ثورة – مشاهد من حقبة التسعينيات

روح النص
حسن احمد الحسن
(1)
يظن البعض أن الثورة ضد نظام الإنقاذ بدأت في سبتمبر 2013 أو أنها اندلعت في ديسمبر 2018 لكن الحقيقة إنها بدأت منذ أول يوم بعد يوم الثلاثين من يونيو 89 وتشكلت وأنتجت شبابا وشيوخا نساء ورجالا من المناضلين واجهوا ظروفا صعبة منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، هؤلاء للأسف لا أحد يدرك عنهم شيئا مع موجة المناضلين الجدد والملصقات الملونة في وسائط التواصل. هذه المشاهد من حقبة التسعينيات تسجل بعض اللوحات لشخصيات كان لها دور بطولي ومقدر في مواجهة نظام الإنقاذ وهو في قمة صلفه قبل أن تنشأ الحركات المسلحة والحركات الإسفيرية من أوجه المقاومة. لا أحد يعرف عنهم شيئا إلا القليل. هذه بعض الإضاءات على جواتب من تلك القصة من سيرة هذا الوطن المظلوم وشعبه الصابر.
(2) ثقوب في جدار الصمت
بعد وصولي القاهرة بأيام وتحديدا في أغسطس 89 19 بدأت أتلمس طريقي في هذه المدينة في ظل أجواء مشحونة بالقلق والتوتر إزاء تطورات الوضع في السودان ولم تكن الحكومة المصرية قد حددت موقفها بشأن النظام الانقلابي الجديد في السودان بشكل كامل خاصة بعد تواتر الأنباء عن إجراءات القمع والتعذيب التي بدأت تلفت انتباه المنظمات الحقوقية في العالم .
كنت يومها في طريقي إلى مقر اتحاد المحامين العرب لموعد مسبق مع الأمين العام الأستاذ الراحل فاروق أبوعيسى الذي كان مقره قبلة السودانيين والمهمومين بما يجري في البلاد في تلك الفترة .
وأنا أعبر شوارع وحواري “وسط البلد ” مشيا على الأقدام تجسدت أمامي صور درامية لأغنية عمرو دياب “رصيف رقم خمسة” التي كتب كلماتها مدحت العدل، أتأمل حركة الناس في شوارع المدينة وأزقتها وهي تصور نمط الحياة اليومية في الشارع المصري بين الزحام والضوضاء، بين أحلام كبيرة وأخرى صغيرة بحجم طابع البريد على رأي غادة السمان. تقول كلمات الأغنية:
رصيف نمرة خمسة والشارع زحام، وساكت كلامنا ما لاقي كلام
تسالي يا خال، تدخن يا عم، تتوه المعاني وتنسى اللي كان
كلكس الترولي بيصفر وداني
وشحتة المزين بياكل وداني
يا نادي باريس تعالا وحاسبني
وكمل ديونه عشانه وعشاني
وعبد الله رشدي محامي قدير
بيرفع أضية في باب الوزير
بقالة الأمانة ونصحي السروجي عاملينلي شركة في مشروع بوتيك
ونادو لعبده الفرارجي يشاركهم
فرد بألاطة محبش شريك
وجت واقعه سوده في سوق الإمام
عشان عم لمعي بتاع الحمام
مقدرش يوصل لأي اتفاق
مع سبع افندي في قضية سلام
هذه الأغية تعكس في مخيلتي وتجسد صورا للصراع الدائر في السودان وإن كانت بمفردات مصرية. مررت في طريقي بمكتبة مدبولي على ناصية ميدان طلعت حرب أتأمل عناوين الصحف فوقع نظري على مانشيت أحمر يعلو صورة لرئيس الوزراء السوداني المعتقل آنذاك، بعنوان – محضر التحقيق مع المهدي – فحملت الصحيفة – التي يصدرها حزب مصر الفتاة ويرأس تحريرها الأستاذ مصطفى بكري محاولا التعرف عليها عن قرب .
بعد اطلاعي على نص المحضر، والذي ألحقه الأستاذ بكري بتعليق متعاطف مع معاناة المعتقلين مطالبا بمساندة حقيقية للشعب السوداني. اتصلت صباح اليوم التالي بمكتب الأستاذ مصطفى بكري لتحديد موعد معه، كان ذلك في اليوم الثاني بمقر الصحيفة بعمارة معروف قرب ميدان التحرير.
استقبلني بكري بترحاب واهتمام مقدر ودار حوار مطول بيننا دام لما يقارب الساعتين حول الوضع في السودان ما نريده من زملائنا الصحافيين المصريين بصفة خاصة لدرء ما يواجهه أهل السودان من ابتلاءات.
كان بكري يعمل إلى جانب مسؤوليته في الصحيفة مراسلا لراديو مونت كارلو في القاهرة الذي كان يولي اهتماما خاصا بالتطورات في أفريقيا والشرق الأوسط، بالإضافة إلى دوره النشط من خلال علاقاته وصلاته ببعض المسؤولين وقادة الرأي.
تمددت بيننا علاقة صداقة حميمة اتسعت لتشمل عددا من السودانيين المقيمين في مصر والذين يترددون على القاهرة منهم الفاتح سلمان الذي كان ينتمي إلى مجموعة رجال الأعمال السودانيين وهو صاحب اهتمامات إعلامية وصحفية وقد كان داعما ومشجعا لمشروع صحيفة (الوحدة) التي أنشأناها في القاهرة في مطلع التسعينيات والتي ترأس تحريرها الأستاذ مصطفى بكري نفسه حينها وكانت اهتمامات الفاتح سلمان الإعلامية قد أثمرت في لندن تأسيس نشرة “سودان مونيتور” أوكل تحريرها للصحافية البريطانية إيما شارب. وهي نشرة تعنى بأوضاع حقوق الإنسان وقضايا الديمقراطية في السودان. التقيت إيما شارب في القاهرة في طريقها إلى نيروبي لإجراء حوارات مع زعماء الحركة الشعبية وقد كانت مهتمة بشكل خاص بما يجري في السودان ومنفعلة مع الأحداث الجارية فيه.
(3)
تعرفت من خلال الأستاذ مصطفى بكري الذي أصبح إعلاميا وسياسيا معروفا في مصر بعد الثورة المصرية فيما بعد على عدد مقدر من الزملاء الصحافيين والإعلاميين المصريين، منهم شقيقه محمود بكري الذي كان محررا بصحيفة الشعب، ومحمد عبد السلام الباحث بمركز الدراسات السياسية والإستراتجية، والأساتذة عادل حمودة وجمال سليم والروائي جمال الغيطاني وعدد كبير من الزملاء والأصدقاء. وقد اتسعت لنا دار بكري في حلوان الجديدة في جلسات مع هذه النخبة المميزة عبر أمسيات متفرقة ولأحاديث في الأدب والسياسة وأواصر العلاقة بين شعبي وادي النيل .
ولابد أن نذكر أن الأستاذ مصطفى بكري لعب في تلك الفترة دورا مهما في دعم قضية الشعب السوداني الذي كان يتطلع للحرية والديمقراطية وهو دور ظل يتواصل ويتبلور في أشكال عديدة تؤكد قناعاته الراسخة بتطوير العلاقات بين الشعبين على أساس من الإدراك والوعي والمصالح المشتركة .
بانطلاق نشاط المعارضة الخارجية بقيادة مسؤول العمل الخارجي المكلف حينها السيد مبارك المهدي حيث شكل حراكه إزعاجا كبيرا للنظام واتسمت إدارته التنظيمية لشبكة المكاتب الخارجية لحزب الأمة القومي بالانضباط والمتابعة ويسجل للأخ مبارك المهدي رغم اختلاف البعض معه في تلك الفترة إنه نجح بتكويناته التنظيمية المختارة من كوادر الحزب التي تحملت المسؤولية في إدارة أضخم حملة إعلامية وسياسية معارضة بمعاونة مكاتب الحزب الخارجية التي شكلها حيث أصبح صوت المعارضة يشكل هاجسا حقيقيا للنظام الانقلابي .
وشكل نجاح عملية تهتدون ووصول رئيس الحزب السيد الصادق المهدي إلى أسمرا ثم القاهرة فتحا جديدا من فتوحات المعارضة السياسية المنظمة والتي مثلها بجدارة حزب الأمة القومي بشهادة كافة الأطراف بمن فيهم غير السودانيين في تلك الفترة من سياسيين ومراقبين وبشهادة الوقائع والتفاصيل التي نورد بعضا منها للتاريخ شكل فتحا كبيرا للمعارضة ونشاطها ضد نظام الانقاذ ومظلة حماية للسودانيين المعارضين بمختلف انتماءاتهم السياسية حيث كان الجميع يتحركون في وحدة سياسية واحدة.
نجح حزب الأمة في تأسيس مكاتب فاعلة بدأت بواشنطن بقيادة الإخوة أسامة نقدالله وأحمد الدابي والزين الصادق ولندن التي كان يمثلها أحمد عقيل والحارث إدريس الحارث ثم أديس أبابا التي تولى المسؤولية فيها صديق بولاد ونجيب الخير وكمبالا التي أوفد إليها حماد عبدالرحمن صالح وألمانيا أحمد حسين آدم ثم منطقة الخليج بتكليف السيد محمد عبدالباقي، وأصبح مكتب القاهرة الذي ضم نخبة مختارة بقيادة الأخ مهدي داؤود وحسن أحمد الحسن يمثل الزراع السياسي والثقافي والإعلامي قبل أن يتسع ليضم قيادات سياسية كمأمون شرفي وتجاني السيسي ونجيب الخير وصلاح جلال وإبراهيم الأمين وغيرهم من عشرات الكوادر بينما يمثل مكتب أسمرة والذي يرعاه ويقوده الأمين العام الراحل الدكتور عمر نور الدائم بجناحيه المدني والعسكري والذي ضم أيضا كوكبة من كوادر الحزب القيادية والإدارية الزراع المسلح الذي يدير نشاط جيش الأمة للتحرير ويدير العلاقات السياسية مع القرن الأفريقي ومنهم على سبيل المثال لا الحصر بازرعة على العمدة وعبدالحفيظ عباس وأبوهريرة زين العابدين ونعمان ويونس ومهدي عمر ومجموعة جيش الأمة بقيادة أحمد خالد المالكي وعبدالرحمن الصادق المهدي ووليد التوم ونخبة مميزة من الضباط القادة.
وبانطلاق نشاط حزب الأمة بدأت الفصائل الأخرى من قوى المعارضة والأحزاب في التسلل إلى القاهرة وبدء أنشطة مماثلة أقل حراكا وقد دفع حراك حزب الأمة في القاهرة الحزب الاتحادي الديمقراطي أيضا إلى إنشاء دار له لتحويل وجوده العاطفي في القاهرة إلى وجود سياسي.
حتى أطلق حزب الأمة مبادرة تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي الذي بدأ بلجنة التنسيق العليا والتي تطورت بعد عملية سياسية مطولة لتبلغ غاياتها بإعلان ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي وتشكيل هيكله الجديد وإعلان برنامجه رسميا في أسمرا عام خمسة وتسعين .
(4)
كانت ضربة البداية في قاهرة المعز بوصول القيادي في مجموعة رجال الأعمال في حزب الأمة الفاتح سلمان إلى القاهرة في شتاء عام 1989 حيث بدأت المجموعة نشاطا محموما من الاتصالات واللقاءات شملت عددا من الشخصيات السياسية والصحافية والنقابية كانت أهم اللقاءات لقاء مع الدكتور مصطفى الفقي الذي كان يشغل مدير مكتب الرئيس مبارك لشؤون المعلومات وكان الفقي كعادته بشوشا ومرحبا ومهتما، وقد أسهمت تلك القنوات مع جهود أخرى في تطور اهتمام القيادة المصرية تدريجيا بضرورة الاستماع لرؤية حزب الأمة وفتح قنوات الاتصال معه وهو ما تم فيما بعد من خلال زيارة مبارك المهدي إلى القاهرة ولقاء المسؤولين المصريين على أعلى المستويات وهي اللقاءات التي أشرعت الباب لأنشطة المعارضة السودانية بكاملها وترحيب القاهرة بها خاصة وأن القاهرة قد استبانت طبيعة وتوجهات النظام الجديد في السودان والذي بدأ يتكشف وجهه المتطرف وانتماءه العضوي إلى جماعة الأخوان المسلمين التي ينعتها المصريون بالمحظورة مما افقد النظام الجديد تعاطف الرأي العام العربي والعالمي. غير أن دور الدكتور مصطفى الفقي كان يمثل ضربة البداية في ذلك الاختراق.
(5)
تتلاحق هذه الصور بكل أحداثها وشخوصها وأنا أتجول في شوارع القاهرة ذات الأمكنة وذات الشوارع التي رسم فيها قطاع واسع من السودانيين صورة بلادهم التي يريدونها والتي استغرقت منهم عقودا من المعاناة في ظل نظام الإنقاذ البغيض لكن من المؤسف أن أحدا من الثوار القدامى أو الجدد لم يلق بالا لتسليط الضوء على تلك الفترة وعلى الشخصيات المدنية والعسكرية التي رسمت طريق المقاومة ضد النظام الشمولي المباد من كافة القوى السياسية والأحزاب قبل أن ترسم سياسات السودان بواسطة الحركات المسلحة المصنوعة في الخرطوم عبر التجنيد الوهمي أو التناسل الشره وقبل أن يكون المتحدثون الرسميون باسم الثورة غير مدركين لتفاصيل الحراك الثوري منذ أول يوم من كارثة الانقاذ.
نواصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى