الرأي

في تذكر مصطفى سيد أحمد (2-2)

وجدي كامل
بيت العزابة الذي كان يسكنه تعثر فيه أحيانا وتجد من ليس له علاقة ومعرفة شخصية به وفيهم من يجلس للتعرف إليه. فجأة يأتي بدرالدين الأمير ويذهبان معا للغسيل.
بدأت أُلاحظ أن ساعد مصطفى بدا أشد سوادا في مناطق عديدة بسبب حقنة الغسيل.
كنا نقترح عليه أن يرتاح بعد المجيء من الغسيل ولكنه كان لا يسمع كلام أحد. ربما يستلقي قليلا ثم ما يلبث أن يمسك بالعود. تقاطعه:
يا مصطفى ريح يا أخي.. فيرد لك بابتسامة وهو ممسك بالعود – يا أخي أنا ميت ميت.
بموسكو أبلغت ذات مساء بأن مصطفى قد تم استدعاؤه للمستشفى الخاص بمعهد الكلى. هذا الاستدعاء عنى لي أنهم بصدد إجراء العملية– عملية نقل الكلى. تأكدت بعد ذهابي من معاوية خالد من الأمر وأن إيطالية قد توفيت فجأة في حادث حركة وأن هنالك تطابقا بين العينات ونتائج التحاليل بينها وبين مصطفى.
ذهبت إلى المستشفي الذي بضواحي موسكو وهناك وجدت مصطفى يستلقي على السرير الأبيض بعنبر واسع جدا لا يشاركه فيه سوى ضيوفه من طلاب وطالبات الجالية السودانية بموسكو.
كان هناك بشرى الفاضل ولكن وجود البروفيسور بدرالدين خليل أحمد – أستاذ الجيولوجيا وقتها بجامعة الخرطوم أضفى على الجو طابعا فكها. بدر الدين وبنطقه المتقطع أو تأتئته كان يحاول التخفيف على مصطفى قبل العملية بالحكاوي المشوقة. سرد بدر الدين تجربة غريبة له مع مرض الكلى.
قال إنه كان يعاني منه ولزم ذات مرة سرير مستشفى ابن سينا بسببه. وحدث شيء عجيب أثناء ذلك. حكى أنه كان يأخذ حقنا في مواعيد محددة، وذات عصرية وهو متعمق في نومه إذ بمواعيد الحقنة تحين وتأتي الممرضة التي لاحظت أنه نائم فرفضت إيقاظه بشكل كامل. يحكي بدر الدين أن الممرضة أمسكت بذراعه وحقنته وهو بين اليقظة والنوم. حدث بعدها بثواني الأمر العجيب حسب بدر الدين وهو أن كليته قد بدأت في العمل وبدأ كما قال أنه كما يسمعها تعمل: فت فت فت فت.
بعدها وقف على رجليه ولبس ملابسه وخرج بكامل إرادته من المستشفى الذي لم يعد له إلى الآن.
ضحكنا وكان مصطفى أكثرنا استثارة بالأمر.
قبل العملية كان قد طلب مني زيارة معهد السينما وإمكانية مشاهدة فيلمي: أطفال الشمس أو الشماسة.
في الزيارة عبر عن دهشته من الجو الدراسي بالمعهد ودخلنا قاعة ضخمة وشاهدنا الفيلم.
ظل حزينا وصامتا إلى أن وصلنا الداخلية حيث مكثنا لوقت وقضينا ليلة ممتعة.
مصطفى كانت له صفات وخصائص شتى. من الملاحظ منها كان قدرته على التنبؤ — أو ما يمكن تسميته بنشاط الحاسة السادسة- تأتيه أو تجلس إليه وفجأة يبدو لك أنه ساهم وعيناه مغروستان في نقطة ما من فضاء المكان فتسأله- يجيبك بعد حين بحزن أن هنالك شخصا بود سلفاب قد توفى للحين. بعد يوم تتأكد المعلومة وهي أن فلان أو فلانة بود سلفاب توفى في ذات الوكت الذي شعر به مصطفى ويخاطبك: شفت؟ ما قلت ليك؟.
نشاط هذه الحاسة ربما كان يقوده أحيانا إلى مد حبل الظنون.
حضرت له بسكنه بالدوحة ذات يوم ووجدته حزينا. عرفت عن اتصال هاتفي جرى قبل حضوري مع الراحلة ليلى المغربي وكانت تتكلم معه من عاصمة أوروبية وتحثه بعاطفة عالية على العودة والرجوع. فيما بعد قال لي إنها (شرك) وأن ناس الحكومة حرضوها على ذلك وهو لن يكون طعما لها.
غادرنا من بنغازي إلى طرابلس ثم ما لبث أن عاد سريعا وهو يقول بأن ثمة محاولة لترحيله جرت هناك بعد مطاردة من مجهولين.
كان يتلقى اتصالات من وردي وعركي ومغنين أصدقاء ولكن ثمة مكالمات تمت بتدخل أو توسط بينه وبين صلاح إدريس لعب أخونا مدني النخلي الذي كان من الزائرين الثابتين لمصطفى دورا فيها نظرا لعلاقة القرابة القوية التي كانت تربطه بصلاح إدريس..
زرته ومعي تيسير زوجتي بعد نجاح العملية بموسكو وعودته إلى القاهرة وكان يسكن وقتها بعين شمس فلاحظت تيسير العدد الكبير من الضيوف والناس والتأثير الصحي السالب الذي يمكن أن يلحق بمصطفى الذي كان عليه الاستشفاء والتزام التعليمات الخاصة بالتغذية. وعبرت عن قلق ما يساورها.
كان يحب هاشم كرار حبا خاصا وهاشم بحكم ظروف عمله لم يكن منتظم الزيارات ولكن حين يأتي يصبح للمجلس طعم وتنتصب له قامة خاصة إذا ما تغنى مصطفى وأطرب.
هاشم أجرى لصالح صحيفة الوطن القطرية أهم حوار صحفي في تقديري مع مصطفى لا يزال يملأ الأسافير.
عبد الرحمن نجدي وزوجته عواطف كانا من المحببين لمصطفى ولم يقصرا في تنظيم الجلسات بمنزلهم كلما حضر زائر مهم للدوحة.
أذكر حضور تشكيلية كويتية تم تنظيم حفل استقبال لها بواسطة بدرالدين الأمير وكان مصطفى بالجلابية والعمة وغنى فيه غناء عذبا. نجدي حقق تسجيلا خالدا بكاميرته في ذلك اليوم وصورنا معا الصورة موضوع البوست.
صديقنا الشاعر النور عثمان أبكر عليه الرحمة كان رجلا خاص المزاج ولا ينفتح على الآخر إلا بندرة وتحفظ شديدين إلى أن يأمنه ويكتشف فيه ما يروقه ظل يحتفظ بعلاقة ومحبة بمصطفى طيلة فترة وجوده بالدوحة.
ناس كثر كان يضج بهم سكن مصطفى بالدوحة وأصدقاء نوعيين له. فبالإضافة إلى من ذكرتهم من مقربين يشاطرونه السكن أو شاطروه السكن أمثال عبد الجليل عبد الحليم وبدر الدين الأمير وعبد المنعم الفكي وعبد الرحمن بركات الذي يكني نفسه بأبي ساندرا والذي قاسمه السكن لفترة.
كنت ترى مسعود محمد علي أستاذ اللغة الإنجليزية بحامعة قطر وهو رجل لعب أيضا دورا هاما ومهما ومعه أسرته في متابعة حالة مصطفى ومؤازرته بمرضه ويعيش حاليا بألمانيا.
مسعود كان كالمتصوف في غناء مصطفى وتنتابه حالة من الانصراف الروحي عندما يسمعه وأظنه كان أكثر الناس اعتقادا وإحساسا برحيل مصطفى، تقوم النقاشات ساخنة وحارة بيننا ويشارك مصطفى بكل الهمة والعزيمة.
عصام إبراهيم وعلي أبكر ومحمد الحسن البكري وصلاح عبد الله كانوا من المزاورين المتكررين أيضا وحماس ودهشة تلاحظه في صلاح العازف والفنان عندما يستمع لمصطفى.
لا أنسى أستاذة كويتية اسمها آمنة راشد حمدان كانت تقيم بالدوحة ولها علاقة محبة وإعجاب غير عاديين بمصطفى وغنائه.
المسرحي محمد السني دفع الله كان رقما خاصا أيضا في العلاقة بمصطفى والسني كان حين يسمع مصطفى تشعر وكأنه كان يستمع له بمسامات روحه وتركيز عال. السني كان دائم الزيارة.
جعفر عباس من الشخصيات ذات العلاقة الخاصة كانت بمصطفى لا ينقطع عن زيارته ومتابعة حالته الصحية مع انجذاب كبير تجده لديه تجاه أعمال مصطفى وأفكاره الغنائية.
أشبه بالاستغراق لؤلؤ الانجذاب الصوفي تقريبا يا صلاح. وهي كذلك درجة من درجات التأمل المسنود بدفقة عالية من المتعة.
مصطفى كان هادئ الحركة حين يمسك بالعود ويغني ولكنك إذا تسللت بالنظر إلى عينيه فسوف تكتشف نشاطا مربكا لعيون طفولية تتحرك وأحيانا تثبت في نقطة ما وتتحاور معها وخاصة إذا ما غنى لك: في الأسى ضاعت سنيني.
مكثت بالدوحة ستة أشهر / من الثلث الأخير لعام 1993 إلى الشهر الثاني من 1994. كانت بعض ما سردت هي حصيلة ذكرياتي لتلك الأيام. ولكن فإن أهم تعاون كان بيننا تمثل في مراجعات مصطفى لمجموعتي الشعرية: تمارين فيما يخص العدو على الماء التي صدرت عام 96 من القاهرة وتضمنت مقدمتها إشارة إلى مصطفى ودوره في مراجعة قصائد تلك المجموعة.
ودعت مصطفى مغادرا إلى القاهرة وبعدها ليبيا التي عدت للعمل بالتدريس بجامعة قاريونس بها مرة أخرى وكان وداعا واثقا من لقيا ستتجدد.
من هنالك كنت أتابع أخباره وأستعين بمعلومات الأصدقاء للتعرف عليها إلى أن وقعت الصدمة.
كنت أشاهد محطةmbcوتحديدا أتابع الأخبار يوم 17/1/1996 وفجأة أذاعت المذيعة ضمن الأخبار الرئيسية خبرا يقول: غيب الموت اليوم الفنان السوداني مصطفى سيد أحمد. طفرت أدمعي غير مصدق وخرجت لا ألوي على شيء إلى خارج السكنة التي كانت بداخل الجامعة وبكيناه وتيسير زوجتي كصديق وأخ قبل أي شيء آخر.
بعد عامين يشاء القدر أن نحضر سويا إلى الدوحة أنا والراحل حميد ونسكن مع الشباب أصدقاء مصطفى ومنهم عبد المنعم علي الفكي وبدر الدين الأمير في شقة كانت تطل على فسحة سوق الذهب وهي ليست الشقة التي توفى بها مصطفى.
حكي لنا عبد المنعم بعد ذلك تفاصيل رحيل مصطفى وياله من رحيل ساهل وبسيط كان.
كان الحزن طابع الأيام الأولى حيث أقمت وحميد في غرفة واحدة كنا نجتر فيها الذكريات عن الراحل إلى أن يبدأ حميد طقوسه الليلية العجيبة ما قبل النوم والتي تشبه إلى حد كبير طقوس المتصوفة الغارقين.
حميد كان غالبا ما يهمهم ويستمر في الهمهمة لفترة طويلة وهو مستلقٍ على ظهره وكأنه يستدعي أو يستدعيه ملاك الشعر وليس شيطانه / لا أدري لماذا سموه بالشيطان !!!!!!!
سكنا وحميد في غرفة واحدة لشهور إلى أن شاءت لنا الظروف بالعمل في قطر لفترة من الزمان..
كتب عدد من الناس عن مصطفى وتحدث ووصفه البعض بأنه كان من طينة الفلاحين الثوريين وضمه البعض للحزب الشيوعي السوداني، ولكن مصطفى فعليا كان ثائرا من أجل إعادة التوازن الأخلاقي للشخصية السودانية ومنافحا أو مكافحا عظيما لأساس البلاء المتمثل في الإسلاميين وحكومة الإنقاذ بما أتت به من هدم عام.
انحاز الرجل وانتمى للطبقات الشعبية وعمل على التعبير عن قضاياها وأشواقها. ذلك كان الاتجاه الفكري العام لتجربته. أما مأثرته فتمثلت في اختياره لنوع جديد من الشعر والشعراء من أبناء الهامش الثقافي المتمرد المناوئ للأوضاع والباحث عن حداثة فنية وشعرية كأرض لم تطأها أقدام الكثيرين من الشعراء التقليديين.
مصطفى كان يقول في مرات كثيرة أن بمقدوره أن يلحن مقالا صحفيا، وتلك إشارة بليغة لعمق القدرة وخصوبتها في التلحين والشعور بمضامين الأعمال الأدبية.
الآن وعندما تأتي الذكرى السنوية لمغادرة مصطفى وتتراكم السنوات تتحرك غرف ذاكرتي وتفتح أبوابا على بعضها البعض وتتردد في أٌذني عبارته المرعبة:
يا زول أنا ميت ميت.
يا له من موت منتج يا مصطفى عندما كتب الخلود العظيم لصاحبه والحضور الفخم له في كامل تفاصيل حياتنا.
لم تزل حيا معنا وفينا وكم نحبك يا مصطفى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى