الرأي

في السودان

هكذا

(١)

في السودان تلاحق المعارضة -أية معارضة- الحكومة وتترصد أخطاءها وتكيد لها حتى تضعف وتسقط، وتبذل الحكومة كل وقتها الذي كان عليها تكريسه لخدمة المواطنين؛ في التصدي لخطابات المعارضة وإغلاق سبل النيل منها.

في السودان ثمة مشاكل كثيرة مرتبطة بنشوء الدولة الحديثة ودولة ما بعد الاستعمار؛ حيث لا زلنا نقبع في بداية كل شيء، البنية التحتية، التنمية، الدستور، القوانين؛ لم نتقدم على أي مستوى، لكن رغم ذلك لا تجد أية حكومة (مدنية) الفرصة لعمل أي شيء، لأن المعارضة تتربص بها وتؤلب الشارع ضدها ليستعين بالجيش لإسقاطها، ثم تبدأ حفلة الويل الجديدة.

في السودان ليس هنالك اتفاق على أي تأسيس حقيقي للدولة المنهكة بالصراعات والفساد وأمراض العالم الثالث المزمنة، الفقر والتخلف، حتى باتت آفاق الحلول رغم وضوحها عصية على الإمساك.

في السودان تقوم الثورة لتطيح بطبقة عسكرية سياسية تلاعبت بمقدرات البلاد والشعب، وعقبها تتكون طبقة من الزيت تغطي وجه ماء الحياة وتمنع التنفُّس والأحلام من ذات الطبقة التي أسقطها الشعب.

في السودان تكبر الأحلام رغم كل شيء، وينسج الناس أساطيرهم الشخصية حول بصيص الضوء خلف نفق الصراعات والنزاعات المتكاثرة.

في السودان يصارع المواطن كوابيسه اليومية؛ تردي الخدمات، بيروقراطية الخدمة المدنية، ارتفاع الأسعار، انخفاض قيمة الجنيه والإنسان والكرامة؛ لكنه رغم ذلك يرد بكل لطف عند السؤال كيف الحال: “تمااام الحمدلله”.

في السودان شعوب عظيمة، تكافح كل لحظة للبقاء، والاستمرار في الحياة رغم كل شيء، وتفتح بوابة يومها بالحلم بغدٍ أفضل.

في السودان سيحدث التغيير المرجو الذي نحتته خطوات الفاتح النمير وعبدالعظيم أبوبكر وعباس فرح، وبشّرت به الزغاريد رغم الرصاص والألم والدم والدموع.

(٢)

لن تكون الخرطوم هي الخرطوم بفقدها أحد أنبل وأجمل أبنائها؛ دكتور محمد مصطفى الأمين، المثقف والناقد السينمائي العارف واللطيف؛ والذي ظل مهموماً بالحركة الثقافية وفاعليتها في أكثر لحظات السودان ظلمةً.

في أحد الأيام قبل عشر سنوات تقريباً قدم لنا دكتور محمد مصطفى الأمين الدعوة إلى منزله بحي ناصر -لإقامة منتدى شعري، مجموعة من الشعراء الشباب اجتمعنا في صالون منزله الرحيب الذي احتوانا بلطف الرجل وكرمه وإفساحه مساحة لأصوات جديدة في الكتابة الشعرية.

لم يكتفِ بمتابعته الدقيقة لشتى ضروب الفنون، فقد كان أساسياً في كل منتدى ثقافي في كل بقعة من بقاع العاصمة المثلثة رغم عنت المواصلات وشظف حال الخرطوم؛ وحين تغلق الإنقاذ بوابات مراكز الثقافة كان منزله يستقبل بكل ترحاب المنتديات والتجمعات الثقافية.

أحزنني قراءة نعيه في أحد المواقع أمس، علمت أنه قد رحل في ١٧ أغسطس؛ قبله بقليل رحل القدال وعيسى الحلو، ليفقد المشهد الثقافي رموزاً حية وفاعلة، تغمدهم الله بواسع رحمته.

السمت الزاهد للدكتور محمد مصطفى الأمين، الملابس ذات الألوان الهادئة والنظيفة، لا يشي بحجم الأحلام التي حملها لنهضة السينما السودانية وتقدم الحركة الثقافية، تشعر أحياناً أنك أمام طفل كبير يدخل إلى الحياة بقلبه الرؤوم.

يعد الراحل واحداً من أهم جيل حركة النقد السينمائي الحديث، مع السيدة سعدية عبدالرحيم، وعبدالرحمن نجدي، حيث تخرج من المعهد العالي للموسيقى والمسرح في العام ١٩٧٨م بقسم النقد بالمعهد، والتحق بقسم السينما بمصلحة الثقافة سابقا باحثاً سينمائياً.وغادرإلى اليمن الجنوبي في أعقاب انقلاب 30 يونيو 1989، ملتحقا بسلك التدريس، كما ساهم في حقل الكتابة والنقد والبحوث، ثم أكمل دراسته العليا حتى نال درجة الدكتوراة.

رحم الله محمد مصطفى الأمين؛ وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا، إنا لله وإنا إليه راجعون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى