الرأي

فصل القبيلة عن الدولة

حسن أحمد الحسن

(1)

بعد مضي أكثر من ستة عقود من اعلان استقلال  السودان تشهد بلادنا صحوة جديدة للقبلية بفعل سياسات النظام البائد المتعمدة لتفتيت النسيج الاجتماعي السوداني والغاء النتائج الوطنية التي حققتها الثورة المهدية بتوحيد تلك القبائل تحت رايات الثورة والدعوة من الناحية الفكرية والعملية حين جمعت تحت راياتها الغرب والشرق والشمال والجنوب والوسط لتحقيق تحرير واستقلال السودان، السودان الأول وشكلت اول خارطة اجتماعية موحدة للكيان الوطني السوداني.

وقبيل استقلال السودان الثاني حقق الآباء المؤسسون اجماعا تاريخيا وانجازا وطنيا بانشاء وتأسيس الأحزاب الوطنية التي جمعت مختلف قبائل السودان حول منابر سياسية على اساس الانتماء السياسي للحزب المعين بشعاراته وبرامجه مما يعد انجازا أساسيا للأحزاب السودانية التي شكلت أطرا سياسية واجتماعية وثقافية بديلا للتوجهات القبلية والعرقية والجهوية الضيقة حيث مهدت تلك الأحزاب لوضع الأسس الموضوعية لبناء الدولة الحديثة لتتحول القبيلة إلى مكون اجتماعي اهلي ينظم العادات والتقاليد الاجتماعية والانسانية والشراكات الأهلية بين مكونات المجتمع السوداني المشابهة والمساهمة الإدارية في فض النزاعات الأهلية الصغيرة ودعم النسيج الوطني السوداني.

(2)

وفي اطار سعي نظام الانقاذ البائد لحشد الولاءات الزائفة وضرب معاقل الولاء الحزبي والجماهيري للأحزاب الوطنية الكبرى عمد النظام إلى تفتيت النظام القبلي الاجتماعي وتوظيف الإدارات الأهلية سياسيا بشراء ذمم البعض وولائهم السياسي عبر الترهيب والترغيب لاعادة صياغة المجتمع ليتوافق مع خططه الاجتماعية والسياسية بل ودفع البعض إلى صراعات قبلية حول النفوذ السياسي والأرض مما فتح الباب لأسوأ احترابات وانقسامات قبلية كانت دارفور اكبر مسرح لها أودت بالسلم الاجتماعي والقبلي الموروث وأصبحت القبيلة سلما سياسيا لبعض الانتهازيين من ابنائها بل وشكلت اختبارا حقيقيا كشف انتكاسة بعض المثقفين الذين ينتمون لبعض تلك القبائل الذين تنكروا لحداثة تفكيرهم وادعاءات وعيهم حيث عادوا لقبائلهم طلبا للامتيازات السلطوية عبر المساومات والنفوذ القبلي بكل محمولاتهم الحداثوية وشعاراتهم الزائفة التي فضحت ايمانهم بتلك المحمولات الثقافية المتوهمة.

(3)

وشكل نظام الإنقاذ حتى قبيل سقوطه التاريخي معرضا لتلك الولاءات القبلية المصنوعة التي برع في انتاجها عبر استنساخ ادارات اهلية داعمة له عبر اللقاءات الجماهيرية المصنوعة واعطاء تلك الإدارات الأهلية بعدا سياسيا أغرى أبناءها لتكون سلما للارتقاء السياسي الوظيفي ولتحقيق المكاسب الذاتية باسم قبائلهم للمساهمة في تفتيت اي انتماءات سياسية لغير الحزب الحاكم داخل تلك القبائل بل التضييق على الرموز الحقيقيين لتلك القبائل الذين حافظوا على استقلاليتهم السياسية ورمزيتهم رغم الضغوط والتجريد من صلاحياتهم وقدراتهم لصالح القيادات الانتهازية المصنوعة التي تعمل لصالح النظام البائد.

(4)

وبعد الثورة التي اطاحت بالإنقاذ بكل سوءاتها عمدت بعض اطراف السلطة الانتقالية في مكونها العسكري على مواصلة الاستثمار في هذا الجانب القبلي لصالح بناء نفوذ سياسي بشكل او بآخر مما فتح شهية بعض الانتهازيين مجدداً من فلول النظام البائد فأعطى ذلك بدوره الضوء الأخضر لبعض الادارات الأهلية التي تحلم بمواصلة دور انتهازي جديد في ظل الثورة ليفتح دورا سياسيا جديدا من باب القبيلة وهو ما يتناقض مع مباديء واهداف الثورة وبناء الدولة المدنية ودولة المؤسسات فأصبح بعض زعماء تلك المكونات القبلية يلوحون بسيوف قبائلهم لتحقيق مكاسب سياسية بطرق غير نظامية من خلال ممارسة الضغوط الأمنية وفرض الشروط وفي هذا تتساوى بعض الحركات المسلحة التي تنحدر من مكونات قبلية مع تلك الادارات الأهلية التي لم تتقبل نظاما سياسيا جديدا سحب منها امتيازات سياسية واقتصادية كان يقدمها النظام البائد ثمنا للولاء السياسي على حساب الدولة ومؤسساتها المدنية.

وما يجري من صراع حاليا في شرق السودان وما يطرح من مطالب منها ما هو منطقي ومشروع ومنها ما هو غير ذلك يعبر بوضوح عن الخراب الذي احدثته الانقاذ في البناء الاجتماعي السوداني وثقافة الفساد التي ارستها حتى اصبحت لدى البعض سمة وحقا مكتسبا مورثا لثلاثة عقود لا يطيقون تصويبه.

كما أن الأخطاء التي تسببت فيها اتفاقية سلام جوبا التي توهمت ان تمييز بعض الأفراد والمكونات القبلية والجهوية على غيرها سيحقق السلام مما فتح أبوابا جديدة للصراعات القبلية والتنافس فبات البعض مقتنعا بأن حمل السلاح وإحداث الفوضى والضغوط بالوسائل غير المشروعة هو المدخل الصحيح لتحقيق المطالب.

(5)

إزاء هذا الواقع المتعثر فإن الخطر الماثل والمهدد الأمني الخطير للثورة ومبادئها ولبناء الدولة الحديثة ودولة المؤسسات ليس هو في عدم فصل الدين عن الدولة كما يتوهم البعض من هواة الشعارات الفارغة بل هو في عدم فصل القبيلة عن الدولة حيث لا توجد في العالم اليوم دولة تسيرها ضغوط قبلية حتى في اليمن حيث لا يوجد مثقف او متعلم يحترم نفسه يرضى لنفسه ان يكون سلمه لتحقيق ذاته هو السلم القبلي والعشائري تارة ببندقية وتارة باستغلال البسطاء وحشدهم في الطرقات لتحقيق طموحاته ثم تركهم في قارعة الطريق.

وهذا يقتضي اصدار قوانين إدارية واضحة لتحديد مهام ودور الإدارات الأهلية الاجتماعي والإنساني والإداري المحلي بعيدا عن التدخل السياسي في القضايا الأساسية بحيث تكون الأحزاب السياسية والقنوات المشروعة هي المكان المسموح به وفق القانون في ظل دولة المؤسسات المدنية.

تحديد دور زعماء القبائل والإدارات الأهلية بوجه خاص في مجالاتهم الاجتماعية والادارية التي يحددها القانون في ظل الدولة المدنية.

الإسراع بعقد المؤتمر القومي الدستوري الذي يحدد الشكل الإداري للدولة ومستويات الحكم المختلفة واصدار القوانين اللازمة لذلك لقفل باب التناقضات والصراعات القبلية والادارية ووضع ضوابط وقوانين تمنع استغلال الانتهازيين للقبيلة لتمرير اجندات سياسية وحزبية وتجرم استخدام القبيلة في تهديد السلم الاجتماعي.

وأخيرا فإن غياب دور الاعلام الديمقراطي في التوعية السياسية والتثقيف الديمقراطي عبر البرامج الجادة والحرة من خلال الحوارات والمناظرات والتحقيقات الاستقصائية والبيانات والتوثيق السياسي وتمليك المعلومات للمواطنين التي تحصن المواطنين والتجربة الديمقراطية الانتقالية وتسهم في فتح ابواب التحول الديمقراطي المسنود بالوعي السياسي يشكل عبئا كبيرا على تأمين الثورة والمرحلة الانتقالية برمتها.

 

////ك

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. السلام عليكم ورحمه الله وبركاته الاسم اسامة سعيد موسي كودي رئيس الاتحاد العام للشباب المسيحي ولاية الجزيرة نود نشر خبر عن طريق صفتكم الفاضلة عن الحريات الدينية في ظل الحكومة الانتقالية الحالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى