الرأي

عبد الرحيم بلال والتنمية الريفية (2 ـ 2)

جعفر خضر
أكد الدكتور عبد الرحيم بلال، في محاضرته بمنبر حركة بلدنا، أن مشاريع الزراعة المطرية الآلية الحديثة ليست تنمية ريفية، لأنها موجهة لإنتاج محاصيل نقدية للسوق المحلية والسوق الخارجية، وذلك لمصلحة مجموعات مستثمرة ليست لها علاقة بالريف وسكانه، بل هم من الغائبين عن الريف، من كبار ضباط القوات المسلحة المعاشيين أو غير المعاشيين وكبار موظفي الحكومة وكبار شيوخ القبائل والتجار.
ونحاول في هذا المقال النظر للقطاع المطري التقليدي بولاية القضارف على ضوء محاضرة بلال.
تضح تشوهات القطاع المطري بولاية القضارف من الأرقام التي كشفها الأستاذ عادل عركي – خبير الإحصاء الزراعي – في محاضرة سابقة نظمتها مبادرة القضارف للخلاص – إذ أن كبار المزارعين (خمسمائة فدان وأكثر) الذين يمثلون 36٪ من مزارعي الولاية، يستحوذون على قرابة أربعة ملايين فدان ونصف المليون من الأراضي المخططة .
بينما يستحوذ صغار المزارعين (أقل من 500 فدان)، الذين تمثل نسبتهم (64%) من المزارعين على أقل من 800 ألف فدان.
وأكد أن (85%) من التمويل الزراعي يذهب إلى كبار المزارعين، علماً بأن أغلب المزارعين يبيعون الوقود المدعوم في السوق الأسود، ويستخدمون التمويل في مجالات استثمار أخرى خلاف الزراعة مثل شراء العقارات والعربات الفارهة، مما تسبب في تدني إنتاجية الفدان لتبلغ نصف جوال فقط!!
بينما تبلغ إنتاجية الفدان الواحد لصغار المزارعين عشرة جوالات، بالرغم من أن الدولة لا تقدم لهم شيئاً. وأن صغار المزارعين يخسرون رغم إنتاجية الفدان العالية لأنهم لا يمولون ويشترون الوقود بالسوق الأسود ويضطرون للبيع المبكر لتغطية ديونهم، يبيعون محصولهم لكبار المزارعين!!
وتذهب الإنتاجية الضعيفة لهؤلاء المزارعين الكبار للأسواق، بينما يتكدس المعدمون أمام ديوان الزكاة سنوياً يبحثون عما يسد جوعتهم.
وحسب بلال أن ملاك الأراضي من الغائبين وللدلالة على ذلك وكنموذج ذو دلالة كبيرة لفساد السلطة السياسية وتخريبها للقطاع المطري، نجد أنه في العام 1994 مُنح أعضاء المجلس التشريعي بالولاية 500 فدان لكل عضو!!
وارتكب كرم الله عباس الشيخ، وهو في قمة السلطة، مخالفة كبرى بتخطيط منطقة المثلث شمال خط المرعى كأراضٍ زراعية، وهذه مناطق ممنوع زراعتها بالقانون، لأنها محض مناطق رعوية، ولكنه استغلال نفوذ السلطة!! وقد وزع كرم الله مشاريع في غابات قلع النحل، ليس هذا فحسب بل واستطاع بعض النافذين اقتطاع جزء من غابة الفاو المحجوزة وتحويلها إلى مشاريع زراعية وتقنينها. كما تم قطع أشجار غابة الفيل في العام ٢٠١٦ بعقودات بين مزارعين وإدارة الغابات الاتحادية لمدة ٢٠ سنة! وفي الموسم السابق، استلمت قوات الدعم السريع زمام أمر غابة الفيل، زراعة وتوزيعاً للأرض. وودع الوالي السابق اللواء نصر الدين عبد القيوم ولاية القضارف بعد أن فتح الغابات المحجوزة للزراعة بسعر ٥٠٠ج للفدان. وشهدت غابة شعيب بمحليتي القريشة والقلابات الغربية، وهي من الغابات الولائية وليس الاتحادية، حرقاً مستمراً لأشجار الهشاب والطلح، الموسم السابق، فقد تم توزيعها لنافذين مرضي عنهم.
وقد قدمت مبادرة القضارف للخلاص مذكرة للوالي المدني قبل هذا الموسم الحالي تطالبه بمنع الزراعة في الغابات.
جدير بالذكر أن مساحة الغابات الاتحادية المحجوزة بولاية القضارف، بنمرة في الغازيتة، لا تتجاوز ٧٠٠ ألف فدان (٦٨٠٧٨٢ فدان)، وهي تعادل المساحة التي يستحوذ عليها مزارعون بالولاية لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة.
هذا ما هو مكتوب على الجريدة الرسمية (الغازيتة) لكن المساحة في واقع الحال أقل من ذلك بكثير، بل وتتناقص يومياً بسبب التوسع الشره في الزراعة الآلية والقطع الجائر للأشجار.
وظل مزارعو الزراعة الآلية يعتدون أيضاً على مسارات الرعاة، وقد حدث تحول خطير في منطقة القضارف قبل بضعة عشر عاماً، إذ صار المزارعون – بعد الحصاد – يبيعون مخلفات زراعتهم للرعاة، وكانت قبل ذلك متاحة للرعاة مجاناً ويسمونها (الطلقة) باعتبارهم شركاء – بدرجة ما – في الأرض. لكن تغير الحال بعدها، فأضحى المزارع يبيع أعواد السمسم والذرة، بعد الحصاد، للرعاة. بل مضى الظلم للرعاة بأكثر من ذلك، فقد أمسى يباع لهم العلف، ليس في المشاريع فحسب، بل وفي الغابات نفسها، التي هم أولى بها من المزارع المتعدي والمعتدي، بل المأساة أشد مرارة، فكثير من زارعي الغابات يزرعونها – أصلاً – بهدف بيع زراعتهم للرعاة!!؛ وسمعت من الرعاة – بغابة الفيل – بأم أذني هاتين – أن المزارعين يحرقون بذور الأشجار، والواجب عليهم زراعتها حسب العقد مع إدارة الغابات، يحرقونها داخل الغابة؛ حتى لا تنبت الأشجار وتعيق زراعتهم في العام المقبل!!
ولننظر إلى ضعف الخدمات المقدمة لسكان القطاع المطري التقليدي على المستوى القومي، فلننظر إلى ما رصده الدكتور صديق أمبدة في كتابه (التعليم والفوارق التنموية في السودان) الصادر عن مشروع الفكر الديمقراطي، الذي يديره الأستاذ شمس الدين ضو البيت – كشف أمبدة أن طلاب الخرطوم في العام ٨٩ – ١٩٩٠ كانوا يمثلون 42,2% من طلاب جامعة الخرطوم، وطلاب الإقليم الشمالي يشكلون 10,3% الإقليم الأوسط 29,3%؛ بينما يمثل طلاب الإقليم الشرقي 6,4%، وإقليم كردفان 3,8%، إقليم دارفور 2,6%، ولم يتبق بجامعة الخرطوم من الإقليم الجنوبي سوى طالب واحد فقط.
تفضح هذه الأرقام ضعف حضور أبناء القطاع المطري التقليدي في جامعة الخرطوم، وذلك قبل نظام الإنقاذ، مما يكشف بوضوح فشل، أو عدم سعي، الأنظمة الحاكمة المتعاقبة لإزالة المظالم والتشوهات التي لازمت التعليم السوداني .
وأحد الإشكالات الكبرى، التي لازمت التعليم العام، تقسيم تقويم التعليم العام إلى المجموعة “أ” والمجموعة “ب”، والذي لم يُتخذ قرار بتوحيده إلا مؤخراً في فترة البروف محمد الأمين التوم، إذ صار تقويم “ب” هو المعمول به لجميع المدارس. تتركز مدارس المجموعة “ب”، في مناطق الزراعة المطرية بالريف السوداني. ورغم أن هذه المدارس كانت تفتح ـ عند بداية العام الدراسي ـ أبوابها أولاً فتسمى المجموعة “ب”، بينما مدارس المدن، والقطاع غير المطري، التي تفتح متأخرة تسمى “أ” ومن هنا يبدأ التهميش.
وقد نوّه بلال لما عُرف في الفكر التنموي ب”الانحياز المديني”، ويمكننا أن نسوق دليلاً لذلك من واقع التعليم بولاية القضارف، للتدليل على أن المركزية في السودان عبارة عن مركزيات بعضها فوق بعض.
جاء في كتاب الإحصاء التربوي بولاية القضارف للعام الدراسي 2018 ـ 2019، بلغت مساهمات المجالس التربوية 13262824 جنيهاً، ولكن يلاحظ أن مساهمة مجالس بلدية القضارف أقل من مساهمة معظم مجالس المحليات الأخرى، مما يعني أن بلدية القضارف، رغم كثرة مدارسها وتلاميذها، أكثر اعتمادها على الحكومة، مقارنة بالمحليات الأخرى، التي يدفع مواطنوها أكثر لسد النواقص، مما يكشف الانحياز المديني بوضوح.
ونجد أن بلدية القضارف حالها أفضل من المحليات الأخرى فيما يخص مياه الشرب بالمدارس، ويتوقع أن يكون حالها أفضل بالنسبة لتوفر المراحيض والكهرباء.
وفي نتيجة مرحلة الأساس للعام ٢٠٢٠م نجد أن المدارس الأوائل حسب نسبة التحصيل من جملة الثلاثين الأوائل (31 مدرسة) نجد 19 منها تقع ببلدية القضارف بنسبة 61% نصفها مدارس خاصة، وأن التلاميذ والتلميذات الأوائل (من جملة 97) عددهم 72 ببلدية القضارف بنسبة 74%.
للتخلص من هذا الظلم المقيم، وللخروج من هذه الأزمة المستفحلة، لا بد من العمل بتوصية الدكتور عبد الرحيم بلال بضرورة إيجاد استراتيجية وخطط للتنمية الريفية للدولة والمجتمع المدني، ضمن مشروع وطني للنهضة، ولن يتأتى ذلك إلا بتوفر إرادة تليق بثورة ديسمبر العظيمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى