الرأي

صناعة الفوضى واستثمارها سياسياً

روح النص

حسن أحمد الحسن

(1)

نجحت تركيا عبر ترسيخ الديمقراطية وإصلاح الدستور والقوانين في تثبيت التداول السلمي للسلطة بعد أن كان الجيش هو صاحب حق الفيتو الوحيد الذي يقرر شكل الحكومة وعقيدتها، ونتج ذلك لتطور الوعي السياسي والعسكري بضرورة بناء دولة ديمقراطية مستقرة تقوم فيها الحقوق والواجبات على المواطنة والقيم الإسلامية وموجبات العلمانية، فحققت تركيا تطوراً اقتصادياً كبيراً حيث بلغ حجم الصادرات 700 مليار دولار. ورغم الاتفاق أو الاختلاف مع توجهات التجربة الأردوغانية إلا أن حقبة أردوغان أعادت بلورة دور الجيش في الحياة العامة وفق العقيدة الديمقراطية ووفق إصلاحات حقيقية،أعادت الهيبة للجيش وأعادت صياغة دوره ليصبح أحد أهم جيوش العالم وأقوى جيوش حلف الأطلسي.

(2)

في بلادنا حكمت القوات المسلحة عبر محمولات عقائدية يسارية ويمينية وتقليدية أكثر من 50 عاماً منذ الاستقلال، بينما حكمت الحكومات المدنية المنتخبة مجتمعة أقل من خمسة عشر عاماً، حيث لم تجد الديمقراطية كتجربة الفرصة لبناء ذاتها أو تصحيح أخطائها من داخلها ومن خلال الممارسة. فكانت عرضة للانقلابات مثلما كانت الأنظمة الشموليةنفسها عرضة للثورات الشعبية التي تندلع بعد جولات من الصراع والمقاومة، رغم تزايد القبضة الأمنية التي ساهمت في طول عمر الأنظمة الشمولية التي تدرجت من ست سنوات لنظام الجنرال عبود إلى ستة عشر عاماً عمر نظام نميري إلى ثلاثين عاماً عمر نظام جنرال الإنقاذ عمر البشير. لم تمنع هذه الثورات أكتوبر وأبريل التحالف بين مجموعات المغامرين العسكريين والأيديولوجيين المدنيين من نسف الاستقرار وتعريض البلاد إلى دوامات من الفوضى والأزمات والمجاعات والحصارات، وتهم الإرهاب في تجربتي اليسار المايوية واليمين الإنقاذية، وكان الثمن تأخر عجلة التنمية والبناء في السودان وتأخر البلاد عن ركب الأمم وعودة البلاد القهقري، حيث لايزال المواطن في القرن الواحد والعشرين يطالب بالوقود والخبز والمواصلات والصحة والتعليم والأمن في الطرقات، وحيث لايزال الفساد يتمكن من مفاصلالدولة، بينما ظلت القوانين عاجزة عن التعافي والإصلاح وعصية على التطبيق بسبب سطوة الفساد.

(3)

وبعد اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة التي شكلت حدثاً فريداً على مستوى العالم والتوصل إلى صيغة الشراكة المدنية العسكرية كمدخل لتحقيق الاستقرار والأمن، بدأت المؤامرات من جديدبتشجيع من فلول النظام البائد لوأد التجربة الثورية وقفل الطريق أمام أي تحول ديمقراطي يؤسس لقيام دولة القانون والشرعية الانتخابية وبناء دولة المؤسسات وقفل أبواب الفساد. ولعل أهم العوامل التي تحرك هذه المؤامرات هي أن مافيا الفساد التي نهبت موارد البلاد وأموالهاالعامة وثرواتها طوال ثلاثين عاماً والتي بلغت أكثر من مائة مليار دولار، حسب أكثر الإحصاءات قرباً للحقيقةتخشى هذه المافيا من فلول النظام البائد وأعوانه فتح ملفات الفساد والكشف عن حجمها، وهذا يفسر الهجوم على لجان التحقيق وإثارة الفوضىالأمنية في المدن والأقاليم تحت شعارات مختلفة ضعيفة، وتصدير المطالبة بتفويض للعسكريين للقضاء على مدنية الدولة وقطع الطريق على الدولة المدنية وسلطة القانون للتغطية على تلك الملفات،وحماية مكاسبهم التي نهبوها في غياب المساءلة القانونية.

(4)

ثانياًإن الإرث الطويل الأمد لتدخل الجيش والقوات النظامية في شؤون إدارة الدولة المدنيةوالتحكم في قرارها الاقتصادي والسياسيوالهيمنة على مؤسساتها بفعل تراثالأنظمة الشمولية المزمنة، جعل بعض العسكريين لايطيقون فكرة التخلي عن الحكم للمدنيين وصاروا أكثر ميلاًلمن يدعون إلى تفويضهم أسوة ببعض تجارب دول المنطقة، فالذين يؤيدون سيطرة المنظومة العسكرية يريدون حماية مصالحهم والتغطية على فسادهم مقابلمنح التأييد للعسكريين.وبعض العسكريين لايجدون أنفسهموحصاناتهم فيظل قيام نظام ديمقراطي يعيدهم إلى مواطنيتهم ويعيدالقوات المسلحة إلى دورهاالوطني والمهني الحقيقي،بعد أن تعودبعضهم على ممارسة فعل الأمر والنهي لعقود وفقاً لعقيدة شمولية مزمنة توارثوها وهي مهمة ليست بالسهلة.

ولتحقيق هدف تجنيح الرغبة في تحول ديمقراطي حقيقيوإجهاض مباديء الثورة وروحها ووأد التجربة الداعية إلى حكومة مدنية واضحة المعالم تقوم على مؤسسات حقيقية للحكم وفق الدستور والقانون، كان لابد من وضع العقبات وإثارة الخروقات والأزمات الأمنية وإشعال بؤر التوترعلى نحو مانراه اليوم من انفلاتات أمنية مقصودة ومتعمدة، كمايرى البعض أو توترات إقليمية كما يحدث في الشرق بفعل فاعل وتعمد لإحداث الاختناقات وتسخين الموقف، وهي خطط قديمةتسعى لتغويض الأمن وتعزيز الرغبة لدى المواطن بضرورة الحسم العسكري عبر تفويض المؤسسة الأمنية والعسكرية لإعادة الأمن والانضباط. وبهذا يتسنى إيجاد المبرراتلعودة هيمنة العسكر على السلطة وفق سياسات جديدة تتواءم معإرضاء المجتمع الدولي عبر بعض دول الإقليم، وتعطيل أي تحول ديمقراطي حقيقييفتح الباب لدولة القانون وشرعية الحكم .

(5)

مايجري حالياً صورة متكررة لهذه المشاهدقد تختلف في التفاصيل لكنها تلتقي في الأهداف خاصة أن معظم الفاعلين السياسيين الحاليين من مدنيين وعسكريين لا يرحبون بقيام دولة مدنية حقيقية، تقوم على المؤسسات والمساءلة وتحديد الواجبات والتخصصات ومحاربة الفساد بل يريدون دولة هجين عبارة عن (بوفيه سلطة) يختار منه الحكام ما يناسبهم من صلاحيات ويدعون مايعرضهم للمساءلة والمحاسبة جانباً. غير أن الأمر أمام هذه الرغبات ليس سهلاً وأن الطريق ليس ممهداً مهما كثر التآمر على الثورة وعلى الديمقراطية، فالشعب السوداني بات أكثر وعياً والمعلومات باتت أكثر وفرة والمجتمع الدولي أصبح أكثر إلماماً بالتفاصيل. كل الذي قد ينجح فيه هؤلاء أنهم فقط يؤخرون عجلة بناء هذا الوطن وإطالة أمد معاناة شعبه بسبب انعدام التربية الوطنية والانتماء الحقيقي للوطن، والافتتان بالسلطة والثروة بالطرق غير المشروعة. فهل يدرك الجميع هذا الواقع قبل فوات الأوان وهل يدرك رئيس الوزراء الذي طالما شدد على أهمية إيجاد صيغة جديدة للشراكة بين المدنيين والعسكريين،إن الأمر يحتاج إلى عمل ومواجهة حقيقية وعلاج جذري أكثر من إطلاق شعارات التمني في المنابر العامة؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى