الرأي

سنوات الحنين

نقوش
لؤي قور
(1)
قال إنه يرى فيها ما لا تعرفه هي من عواصف تأتي في قادم المواسم،وإنه يعرف ما يمكن أن تُسلمه إليه عيونها ذات حنين. كان يتوق إلى ذلك المصير، ويخافه في آن، أن يغمره شعور بالخفة، وأن يشعر بنفسه ويكون واثقاً من حقيقة وجوده لحد التأكد. قال إنه من غير المُلائم أن تُدرك ما سيأتي من خيبات، قبل أن تخطو أولى خطواتها باتجاه الاكتشاف. رآها لأول مرة ذات نهار، كانت تمشي أمامه مبتعدة في نفس اتجاهه، وكان هو يسير خلفها، مبطئاً من خطوه، ومُحافظاً على كونها على مرأى منه. كان قوامها وشكل مِشيتها يُغريانه بأن يتخيل لها وجهاً، وكان خياله يمنحها من الوجوه ما يُكمل الصورة، ويجعلها على ذلك القدر الذي يرجوه لها من جمال.كان يتخيلها بملامح دقيقة حيناً، بعيون ضيقة، وأنف مستقيم. لا بد أن اسمها سيتكون من حروف قليلة، وهي نزقة في الغالب أو ربما لم تكن كذلك، فلطالما اختلف شكلنا الخارجي عن ما نحمل بداخلنا من ملامح. ولربما كانت بعيون واسعة، ورموش طويلة، وعلى قدر ما من الهدوء، من يدري؟ لا حدود لما يُمكن أن نخبئ خلف ملامحنا من صفات. كان يتساءل إلى أي مدى يمكن أن يكون الإنسان “ظاهرياً”،وعن “كم هو غريب،ذلك الكائن المؤقت، والمشغول”.
(2)
قال إن النهاية لم تكن تفارق مخيلته كلما هم بالابتداء في أزمان خلت، وإنه لم يكن ليبدأ المسير في طريق مسدود، حتى لا توصم رحلته بالغباء. لكن ألا يحتمل أن يكون المسير هو المقصود لذاته؟ أليس العمر نفسه هو طريق لا يفضي إلا إلى العودة؟ ودون أن يشفي غليل الرحلة بالوصول؟ كان يتحدث عن متعة الانتقال، وعن عجائب الرحلة، وما يُمكن أن يمر به من أماكن، وما قد يشهده فيها من مشاهد. لربما كانت وروداً غريبة الألوان، تنبت بلا مناسبة، وعلى غير انتظار. ماذا لو اكتفى الإنسان من الرحلة بمُتعة الانتقال ما دام الوصول لا يفضي إلا للغياب؟ “لن يعرفوا ذلك”، قال في أسىً “ليس في هذا القرن على الأقل”. “هم” الآن في حالة تلهف للوصول، تجعل التفكير في تفاصيل الرحلة على درجة ما من الاستحالة.
قال بأنه لم يكن يحلم معها سوى برحلة تطول، لا يهمه إلى أين تنتهي، ولا يقلقه أن تتكرر فيها المشاهد، وهو ينظر إليها من نافذة القدر. ولا بأس أن يتوقف الزمن أحياناً، ولا أن تصير كل الوجوه فيها هو وجه من يحب. وقال بأنه لم يكن ليصيبه الملل، ولا ليدركه الضجر، أو يجد التعجل سبيلاً لداخله، ولم يكن ليُزعجه أن يظل على ذلك الحال لفترة تطول أو تقصر.
(3)
قال إن العدالة تقتضي أن يتنحى عن طريقها كي تحيا بشروطـ”هم”، أو أن يتحور هو ليجد لقربها سبيلاً. لكنه لم يجنِ سوى عنت المحاولة. كان قد نفذ إلى جوهر الحقيقة بما لا يسمح بالردة، وكان الطريق الذي اختاره أكثر وعورة من أن يدعو غيره لمشاركته إياه. قال إنها لا تعرف سوى طريقة واحدة للحياة، وإنه يعرف من الحياة ما يجعله يوافق على عيشها بأية طريقة، إلا طريقتـ”هم”، والتي وضعوها دون منطق واضح، ودون أن يستطيع فهمها أو تفسيرها، ودون أن يشعر بورطة الوجود. كان على أتم الاستعداد لأن يتنازل عن المعرفة، وأن يستبدلها بالتجريب، لئلا يفوت على نفسه متعة الاكتشاف. وقال بأن ظلماً قد وقع، حين سلبوه كل أدوات الحياة بهذه الطريقة “الوحيدة”، وجلسوا ينتظرون أن يحاول ويخطئ، معرضاً نفسه لسخريتهم غير المبنية إلا على العجرفة، وما إليه من تلك الأمراض التي تختبئ خلف الابتسامات، والوجوه التي يلونها الخداع. هم يحتكرون كل شئ، ويتظاهرون بالبراءة والتواضع، على أمل أن يرتفعوا اعتماداً على غفلة الناس العفوية أحياناً، والمصنوعة في غالب الأحيان.
قال إنه حاول أن يمنحها كل شئ، إلى أن تبين له أنه لا يملك شيئاً ليمنحه، فتركها تبتعد، وهو يتطلع لخطواتها الوئيدة في حسرة. ثمة خطأ ما يحدث! هو خطأ لا يعرف ماهيته، وما كان ليشغل باله بمعرفته، لكنه كان في غاية الحرص على أن يؤكد وجوده. وقال بأنه يترك للآخرين عناء البحث، إن وجدوا في ذلك ما يستحق التنقيب، ويكتفي هو بعناء الإشارة والتلميح. وقال إنه لم يدخر جهداً، لكنه ببساطة لم يستطع، أو أن الأمر كان أكبر من طاقته على التغيير، وأكبر من طاقته على التعود والاحتمال.
(4)
كانت كلماتها البسيطة مقياس رسم للهوة التي تفصل بينهما. صار يتحدث إليها في داخله، دون أن يبلغها من حديثه شيئاً. قال إنه يوفر عليها عناء التجربة “كما يقولون”. فهم مهووسون بالنهايات لدرجة مزعجة. من قال إن النهاية هي كل شئ؟ لم تواته الجرأة ليبوح لها بما كان يجول بداخله من خواطر. كان يخشى أن ينال مما علق بعقلها من ثوابت، بحيث لا يكون البديل مُقنعاً، ولربما اتهمته بما يريحها، ويعيدها لثوابتها التي ألفتها أثناء بحثها عن الأمان. كان ينظر إليها نظرة مودع، وكانت هي تقول بما يبقيه منها على مسافة فراق. لم لا يكون ما يحسه نحوها مرجعاً لذاته؟ جملة مفيدة، لا تحتاج لحديث يأتي بعدها، ولا لتوضيح وتخطيط، ربما لا يجد طريقة للتحقق؟ لم يجد لتساؤلاته جواباً، لكنه كان يخشى أن يفقدها بطريقة غير التي أرادها. كان يريد أن يفقدها في رفق، أن يفقدها فجأة، كأن تلتفت فلا تجد أمامها سوى ما اعتادت من نمط حياة، في زمان ما قبله. لم تكنْقادرة على مجاراته، ولم يكن يمتلك القدرة على عقلنة اللامعقول، ولا أن يُخضع الاستحالة، لمنطقهم الجائر والانتقائي، لم يكُ يملك سوى أن يحتفظ لعينيها بالتذكر،وأن يحتفظ لوجهها بكامل الحنين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى