صفحات متخصصةقضايا فكرية

سلافوي جيجك : الارتداد المضاد للكولونياليّة

(ترجمة الحبيب الحاج سالم)

الارتداد المضاد للكولونياليّة

 سلافوي جيجك (SLAVOJŽIŽEK)

ترجمة الحبيب الحاج سالم

لا نتحدَّث هنا عن مسائل نظريّة مجرّدة، بل عن تجربة تاريخيّة ملموسة. فوفقا لبعض المنظّرين الثَّقافيّين الهنود، تمثّل واقعة استخدامهم اللّغة الإنكليزيّة مرغمين شكلا من الكولونياليّة الثّقافيّة يقمع هويّتهم الحقيقيّة: “بما أنّنا مجبرون على التكلّم بلغة أجنبيّة مفروضة للتَّعبير عن دواخل هويّتنا، ألا يجعلنا ذلك في موقع اغتراب جذريّ بحيث تغدو مقاومة الاستعمار في حدّ ذاتها مصاغة بلغة المستعمِر؟”. الإجابة على هذا السُّؤال هي نعم، لكن فرض لغة أجنبيّة في حدّ ذاته هو ما خلق ذاك الشَّيء (المعبّر عنه بـ x) الَّذي “يضطهده”؛ أي أنّ من يتعرّض للاضطهاد ليس الهند ما قبل الكولونياليّة الفعليّة بل الحلم الأصيل بهند جديدة مفرطة الكونيّة وديمقراطيّة. من الضروريّ ملاحظة أنّ الكثير من المثقّفين الداليت (طائفة المنبوذين) قد أدركوا بوضوح دور اللّغة الإنكليزيّة، حيث رحّب عدد كبير من الداليت باللّغة الإنكليزيّة وحتَّى باللقاء الكولونياليّ. يعتبر أمبيدكار (Ambedkar)، وهو الوجه السّياسيّ الأساسيّ للداليت، وورثته أنّ الكولونياليّة البريطانيّة خَلقت، بالصُّدفة على الأقلّ، الظُّروف الملائمة لما يسمّى حكم القانون والمساواة الشَّكليّة بين جميع الهنود، إذ لم يكن للهنود، قبل تلك الفترة، سوى قانون الطَّوائف الَّذي أعطى طائفته الكثير من الواجبات وحرمها تقريبا من الحقوق.(1)

ألم يكن مالكوم إكس يتّبع نفس التَّبصّر عندما اتّخذ علامة إكس (x) لقباً له، في إشارة إلى أنّ تجّار العبيد الَّذين جلبوا أسلافه من أرضهم قد حرموهم من عائلاتهم وجذورهم الإثنيّة، أي من مجمل عالم حياتهم الثَّقافيّة؟ لم تكن غايته تعبئة السُّود للمحاربة في سبيل العودة إلى جذورهم الإفريقيّة الأولى، بل كانت غايته تحديدا اغتنام البداية الَّتي يوفّرها حرف إكس (x)، أي الهويّة الجديدة (وانعدام سابقتها) المتولّدة عن مسار الاستعباد الَّذي سبّب ضياع تلك الجذور إلى الأبد. لقد تمثّلت فكرته في أنّ الإكس (x) الَّتي حرمت السُّود من تقاليدهم الفذّة منحتهم فرصة فريدة لإعادة خلق أنفسهم، لتشكيل هويَّة جديدة أكثر كونيّة من كونيّة البيض المزعومة. (وجد مالكوم إكس، كما هو معروف، هذه الهويّة الجديدة في كونيّة الإسلام). تظهر نفس تجربة البعد التَّحريريّ غير المقصود النَّاتج عن الاستعباد بشكل جميل في رواية فريديريك دوغلاس (Frederick Douglass) عن حياته، حيث يذكر فيها التَّغيير الجذريّ الَّذي ظهر بعد ذهابه للعيش كعبد عند عائلة السَّيد والسَّيدة أولد: (2)

“لم تحظ [السَّيدة أولد] سابقا بعبد غيري تحت سيطرتها، حيث كانت معتمدة قبل زواجها على صناعتها لتوفير لقمة العيش. لقد كانت تمارس الحياكة الَّتي حمتها إلى درجة لا بأس بها من آثار العبوديّة المفسدة والنّازعة للإنسانيّة. وكنت مندهشا بشدّة لطيبتها. حيث بالكاد عرفت كيف أتعامل معها… فقد كانت التَّوجيهات الَّتي تلقيتها سابقا في غير محلّها. لم يكن الاستسلام الذَّليل، الَّذي يُعتبر في الغالب ميزة محمودة في العبد، ينال استحسانها، إذ كانت لا تلقي له بالا، بل يبدو محرجا لها. ولم تكن تعتبر من الوقاحة أو الفظاظة أن ينظر لها عبد في وجهها. (3)”

لم يكن سلوك السيّدة أولد في المقام الأوَّل تعبيرا عن طيبتها الشَّخصيّة، فهي لم تكن ببساطة عالمة بالعبوديّة أو بطريقة اشتغالها، ونظرت إلى الصَّغير فريديريك ببراءة آدم قبل السُّقوط، أي كمجرّد إنسان آخر. وعندما غدت على دراية بأنَّ الصَّبي لا يجيد القراءة والكتابة “بدأت بلطف شديد تعليمي الأبجديّة. وبعد إتقاني لها، ساعدتني على تعلّم نطق الكلمات المكوّنة من ثلاثة أو أربعة أحرف”. بيد أنَّ ذلك لم يكن كافيا لوضع فريديريك على درب التَّحرّر، إضافة إلى ردّة فعل السيّد أولد العنيفة تجاه سعي زوجته إلى تعليم العبد اليافع. من منظور السيّد أولد، كانت براءة زوجته في الحقيقة عكس ما تبدو عليه، فقد كانت، في عينيه، تلعب دون قصد دور الأفعى، حيث تغري فريديريك اليافع ليأكل من شجرة المعرفة المحرّمة:

“في هذه المرحلة من تقدّمي، عرف السيّد أولد بما يحدث، ومنع زوجته فورا من تعليمي، قائلا لها، من بين أشياء أخرى، أنّ تعليم زنجيّ القراءة أمر غير قانونيّ وغير آمن. وكي أعيد كلماته، فقد قال “إذا منحت زنجياَ شبراً، سيأخذ ذراعا. لا يجب على الزنجيّ أن يتعلّم سوى إطاعة سيّده، أن يفعل ما يُطلب منه. بإمكان التَّعلّم إفساد أفضل زنجيّ في العالم”. كما قال أيضاً: “إذا علّمتِ ذلك الزنجيّ القراءة (في إشارة لي)، لن يكون هناك سبيل لإبقائه. سيغدو غير صالح إلى الأبد لأن يكون عبدا. سيغدو أهوج وبلا قيمة لسيّده. ولن يجلب له ذلك أيّ نفع، بل قدرا كبيرا من الأذى، وسيجعله متبرما وحزينا”. وقعت هذه الكلمات عميقا في قلبي، فحرّكت مشاعري واستدعت أفكاراً جديدة. لقد كان بوحا جديدا ومميّزا يفسّر أشياء قاتمة وغامضة كابدها فهمي الفتيّ عبثا.

فهمت الآن ما مثّل لي صعوبة شديدة الإرباك، أن أدرك قدرة الإنسان الأبيض على استعباد الإنسان الأسود. كان ذلك إنجازا عظيما قدّرتُه أكبر تقدير. وأدركتُ منذ تلك اللّحظة السَّبيل من العبوديّة إلى الحريّة.

ذلك ما أردته بالتَّحديد، وحصلت عليه حين لم أتوقعه. فبينما كنت حزينا لفقدان مساعدة سيّدتي اللّطيفة، سعدت بما اكتسبته، بمحض الصُّدفة، من توجيهات نفيسة من سيّدي.

ورغم وعيي بصعوبة التَّعّلم من دون معلّم، فقد أخذت على عاتقي، تحدوني آمال عالية، وإرادة صلبة لا تنثني أمام المصاعب، أن أتعلّم القراءة. لقد عمل أسلوب حديث سيّدي الحازم وسعيه لإقناع زوجته بما سينتج عن تعليمي من نتائج سيّئة على إقناعي بصدقه في ما نطق به من حقائق. فقد وفّر لي ذلك الضمانة المثلى لإمكانيّة تعويلي بمنتهى الثّقة على النَّتائج الَّتي، مثلما قال، ستتمخّض عن تعلّمي القراءة. فأشدّ ما كان يخشاه هو أشدّ ما كنت أنشده. وأشدّ ما كان يحبّه هو أشدّ ما كرهته. وما كان يمثّل له أشرّ الشّرور، وبالتَّالي يجب تجنّبه بعناية، كان بالنّسبة لي الخير الأعظم، ويجب السَّعي في سبيله بجدّ؛ والحجّة الَّتي حثّته بحرارة على منعي من تعلّم القراءة، عملت على إلهامي الرّغبة والإصرار عليها. أدين في تعلّمي القراءة بنفس القدر تقريبا للمعارضة العنيفة لسيّدي كما للمساعدة اللَّطيفة لسيّدتي. أعترف بفائدة كليهما.(4)”

لاحظ اللّهجة شبه الإنسانيّة لحجاج السَّيد أولد، لا يجب على الصَّبي تعلّم القراءة والكتابة لا فقط لأن ذلك سيجعله غير صالح كعبد ومن ثمّة عديم الجدوى لسيّده، بل كذلك من أجل مصلحته: “لن يجلب له ذلك أيّ نفع، بل قدرا كبيرا من الأذى، وسيجعله متبرما وحزينا”. لا يجب اعتبار هذه الجملة ضربا من النّفاق المطلق (رغم أنَّها بلا شكّ شديدة النّفاق): مقارنة مع حياة عبد غير متعلّم كان من حظّه أن يكون مملوكا لأسياد لطفاء نسبيًا، لن يعود عليه انخراطه في صراع من أجل التَّحرّر في البداية سوى السُّخط والكدر فقط.

يجب بالتَّالي أخذ الاستنتاج البديع والدَّقيق للمقطع المقتبس حرفيًا: “أدين في تعلّمي القراءة بنفس القدر تقريبا للمعارضة العنيفة لسيّدي كما للمساعدة اللَّطيفة لسيّدتي. أعترف بفائدة كليهما”.

لم ترغب السيّدة أولد في تحرير فريديريك من العبوديّة، كيف يمكنها ذلك في حين لم تكن حتَّى واعية تماما بماهية الأمر؟ باختصار، كانت ردّة فعلها أخلاقويّة لا سياسيّة: ردّة فعل تنمّ عن كياسة ولطف عفويين. فقط من خلال ردّة فعل الزَّوج العنصريّة والأبويّة الجليّة أصبح فريديريك على بيّنة بالبعد السّياسيّ التَّحرريّ (وحتَّى الثَّوريّ بحقّ) لما تعنيه معرفة القراءة والكتابة. فمن دون ذلك التَّدخّل القاسي، لبقي فريديريك مجرّد عبد منزلي متعلّم محبّ ومحترم لمالكيه، وليس الرَّمز التَّحرّري كما غدا الآن.

يجب على المرء اليوم أكثر من أيّ وقت مضى الإصرار على هذا الالتباس الهيغلي بحقّ للكولونياليّة. تدخّلت القوى الكولونياليّة بالفعل بشكل قاسٍ في المجتمعات التَّقليديّة حول العالم معرقلة أعرافها ومحطّمة نسيجها الاجتماعيّ، علاوة عن الاستغلال الاقتصاديّ. من هنا يغدو من النّفاق أن يشتكي الغربيون من الهجرة، فحين يحاول المهاجرون من بلدان فقيرة دخول بلدان غربيّة ثريّة، فإنّ الأوروبييّن يجنون ببساطة حصاد أفعالهم الماضية. إنّ رسالة ريتشارد فاغنر الأخيرة في أوبيراته بارسيفل (Parsifal) تتعلَّق بشكل دقيق بجرح الكولونياليّة: “لا يمكن للجرح أن يشفى إلاّ بواسطة الرُّمح الَّذي سببّه”. وبعبارة أخرى، يفتح انحلال الأشكال التَّقليديّة في حدّ ذاته فضاء التَّحرّر. وكما كان واضحا لنيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطنيّ الإفريقيّ، فإنّ تفوّق العرق الأبيض وإغراء العودة إلى الجذور القبليّة وجهان لعملة واحدة.

توجد نكتة سوقيّة عن المسيح ذات علاقة بهذا الموضوع: في اللَّيلة الَّتي سبقت اعتقاله وصلبه، بدأ أتباعه في القلق، فالمسيح ما زال بتولا، أليس من اللَّطيف أن يجرّب بعضا من المتعة قبل أن يموت؟ فطلبوا من مريم المجدليّة أن تذهب إلى الخيمة حيث يرتاح المسيح وتقوم بإغرائه. قبلت مريم بسرور وذهبت، لكنَّها هربت بعد خمس دقائق وهي تصرخ مرعوبة ومغتاظة. سألها الأتباع عن موطن الخطأ، فشرحت لهم قائلة: “نزعت ملابسي ببطء، مددت رجليّ وأريت المسيح فرجي؛ فألقى نظرة خاطفة ثمَّ قال ’يا له من جرح رهيب! يجب أن يشفى!’، ثمَّ وضع عليه راحة يده برفق…”.مغزى النُّكتة أنّه يجب علينا الحذر من النَّاس المصمّمين بشدّة على شفاء جراح الآخرين، فماذا لو كان المرء يستمتع بجرحه؟ بالطَّريقة ذاتها، ستكون محاولة شفاء جرح الكولونياليّة مباشرة (عبر العودة إلى الواقع ما قبل -الكولونياليّ) جحيما: إذا ما وجد هنود اليوم أنفسهم في الواقع ما قبل الكولونياليّ، فإنّهم سيطلقون بلا شكّ نفس صرخة الرُّعب الَّتي أطلقتها مريم المجدليّة !

——–

العنوان الأصلي ومصدر النّص:

ŽIŽEK (SLAVOJ), “the Anti-Colonial Recoil”, in; ABSOLUTE RECOIL, p72-73, 2014, Verso Books.

——–

1- احتفى شندرابهان براصاد، وهو مثقّف بارز من الداليت، باللّغة الإنكليزيّة من خلال تقديس “الإنكليزيّة، إلهة الداليت”. وقد بنى براصاد معبداً للّغة الإنكليزية ونصب لها تمثالاً برونزيّاً شبيها بتمثال الحريّة. ويؤمن براصاد وأتباعه بأنّ اللّغة الإنكليزيّة أداة لتحرّر طائفة الداليت (المنبوذين) –المترجم].

أنظر:

S.Anand, “Jai Angrezi Devi Maiyya Ki,” available at openthemagazine.com. I owe this reference to my good friend S. Anand)New Delhi)

2-.I owe this example to Ed Cadava, Princeton

3- Frederick Douglass, Narrative of the Life of Frederick Douglass, Chapter 6, available at http://classiclit.about.com

4- المصدر السَّابق.

(منقول).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى