ثقافة ومنوعات

سرديات/ .. الزاكي عبدالحميد أحمد

السوق الشعبي جنوبي الخرطوم، قبل أن يتمدد طولاً وعرضاً بأزقته اللولبية الضيقة، كان فضاء واسعاً تتخذ منه بعض فرق كرة القدم المحلية ميادين، لذلك حين قيل لي إن ضالتي سأجدها في هذا السوق، لم أتردد، فشددت راحلتي إليه، المكان معروف بالنسبة لي منذ كان مرتعاً للصبا.

الضالة المنشودة كانت ريموت تلفزيون ألماني الصنع.

قبل سنوات، طلبت مني ابنتي أيام دراستها الجامعية في السودان أن أجد لها بديلاً للريموت الذي فقد، وأصبح التلفزيون في غيابه صندوقاً لا فائدة منه.

لم تكن أجهزة استقبال البث التلفزيون من الفضائيات معروفة في ذلك الزمن.

بعد بحث مضن غادرت السوق وأزقته الضيقة خالي الوفاض..

ليس بعيداً من المكان الذي أوقفت فيه عربتي، كان يقف في منتصف الطريق بطوله الفارع ويوزع كتباً للمارة..

كان يلبس جلباباً أخضر وهو ما لفت نظري إليه..

أوروبي بجلباب أخضر!

ناولني نسخة من كتيب صغير لا تتعدى صفحاته مئة صفحة من القطع الصغير. في الحقيقة كانت مقتطفات من كتيب بعنوان The Fabulous Gryphon, by Gerald Elmore (Excerpts)..، تصفحته في عُجالة ولم أفهم شيئاً من فحواه. بدا لي كأمرٍ ميتافيزيقي لا يسبر غوره، إلا من حباهم الله بالقدرة على فك طلاسم أسرار الكون، لذلك لم أحاول العودة إليه، فضممته لمجموعة كتبي، على أمل أن أهديه يوماً لمن رغب..

في أواخر شهر رمضان هذا العام، نبَّهني صديقي الأستاذ عثمان عووضة إلى إعلان عن كتب نادرة ستعرض للبيع في ثاني أيام العيد.

كنا أربعة اصدقاء اتفقنا على زيارة مكان هذه الكتب “الأستاذ عثمان عووضة، والأستاذ محمد جاد الله الوادي، والدكتور الحاج سالم مصطفى، وشخصي”. التقينا عند البوابة الجنوبية للجامع الكبير وتوجهنا إلى تقاطع شارع السيد عبدالرحمن مع شارع الحرية حيث تعرض الكتب…

هناك مئات بل ربما آلاف من الكتب تفترش الأرض..

غمرني شعور بالغبطة حين شاهدت الإقبال اللافت على شراء الكتب من مختلف الفئات العمرية، من الشباب والشابات والأطفال والرجال والنساء. عليك أن تبذل جهداً، حتى تجد كتاباً تبحث عنه، مجلدات ضخمة وروايات ومراجع في الطب والهندسة وعلم النفس، كلها تفترش الأرض بأعداد هائلة..

فرحت حين وُفقتُ في العثور على ثلاثة من الكتب التي تضم المقالات التي كان الراحل المقيم الطيب صالح ينشرها، بشكل راتب في مجلة المجلة السعودية..

في واحد من هذه الكتب الثلاثة التي اشتريتها كان الطيب صالح يتحدث عن الأكبريين وهم حواريو الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي من الأوروبيين..

تحدث الراحل عن رحلته إلى جامعة أوكسفورد تلبية لدعوة وجهت له للقاء هؤلاء الأكبريين The Akbariya School of Thought..

إلتقى الراحل هناك بعشرات الأكاديميين الكبار من مختلف أنحاء أوروبا: الدنمارك، النمسا، ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، إسبانيا وإيطاليا، كلهم أتباع الشيخ محيي الدين بن عربي..

وعن ذلك قال الطيب صالح:

“لعل من بعض ما يجذب هؤلاء العلماء إلى الشيخ أنه كان غزير العلم، غزارة تدعو إلى الدهشة، وهو إنتاج ربما ليس له نظير من حيث الكم في تاريخ الإنسانية. ويقدّر بعضهم أنه ألّف زهاء خمسمائة كتاب، وقد أخذ منه كتاب (الفتوحات المكية) وحده، قرابة أربعين عاماً قبل أن يفرغ منه نهائياً”.

وفي مقال آخر، يشير الراحل المقيم إلى الدكتور جرالد إلمور Gerald Elmore كأحد حواريي ابن عربي..

تساءلتُ في نفسي إن كان ما يقصده الطيب صالح هو مؤلف الكتاب الذي كان ذلك الرجل الأوروبي ذو الجلباب الأخضر يوزعه على المارة بجوار السوق الشعبي. (عرفت لاحقاً أن الرجل الأوروبي جاء لحضور مناسبة دينية في جامع البرهانية القريب من المكان)..

بعد بحث مضن وجدت ذلك الكتيب: The Fabulous Gryphon.

وجدته نفس الرجل: جرالد ألمور ويقول في كتيبه:

“في كل التراث الفكري للإنسانية لا يوجد من يضاهي ابن عربي من حيث عمق الفكر وجمال اللغة، إلّا قلة منهم أفلاطون وشكسبير”..

وتعرّف معاجم اللغة الإنجليزية كلمة Gryphon بـ:

A fabulous beast with the head of an eagle and the body of a lion..

وهو عنقاء مُغْرب: ذلك الطائر الوهمي الذي يضرب به المثل في طلب المحال الذي لا يُنال.. وهو ما عناه المتنبي حين قال:

أحِنُّ لأهلي وأهوى لقاءهم

وأين من المشتاق عنقاءُ مُغْرِبُ..

و(عنقاء مُغْرب) هو عنوان كتاب للمفكر الكبير ابن عربي والذي لم يزل يؤجج الجدل منذ القرن الثاني عشر ويجذب إليه أشد العداوة وأشد الحب..

ويُذكر أن العالم الأمريكي جرالد إلمور محاضر في جامعة ييل Yale، ونال درجة الدكتوراة عن بحثه حول كتاب الشيخ محيي الدين بن عربي (عنقاء مغرب) وقد قضى ثمان سنوات في القاهرة من ١٩٧٩ وحتى ١٩٨٧ وهناك بدأت علاقته بابن عربي تتوطد..

كذلك وردت قصة هذا الطائر الخرافي على لسان صوفي من الشيعة. لم أكن ادري أن الشيعة يتصوفون!

منطق الطير  The Conference of the Birds

كتابٌ من تأليف فريد الله العطار وهو متصوف شيعي أبحر في دنيا التصوف إلى أعماق بعيدة.

والكتاب، ويعرف أيضاً بمقامات الطير، منظومةُ رمزيةٌ من (٤٥٠٠) بيتٍ، موضوعها هو بحث الطيور، عن الطائر الوهمي، المعروف باسم سيمورغ (العنقاء)..

تنطلق جماعة الطيور هذه في رحلة البحث عن الطائر الخرافي (العنقاء) والذي يفترض أن يكون هو ضالتهم المنشودة والهادي لهم في حياتهم الدنيوية…

بعد طول عناء تصل الطيور إلى المكان الذي يفترض أن يكون فيه العنقاء..

ولكن لدهشة الجماعة ما أن دخلت إلى المكان حتى فوجئت بعدم وجود أي شيء. فقط مرآةٌ، وفيها تنعكس صور الطيور الزائرة، تنهار الجماعة من هول المفاجأة، لكنها تدرك بعد برهة أن ما كانت تبحث عنه إنما هو موجود في داخلها وليس خارجها..

المغزى من القصة التي حكاها فريد الدين العطار في كتابه، هو أن الإنسان، يبحث عن الله، معتقداً أنه موجود في مكان ما، أو على هيئة ما. البحث عن الله هو بحث الإنسان عن نفسه..

وهي نفس الخلاصة التي توصل إليها العالم الأمريكي وهو يغوص في فكر ابن عربي:

“كثيراً ما يحس الإنسان وهو يبحر مع ابن عربي في أفكاره أنه أضاع الطريق، وأحياناً يحس كأنه يسير في متاهة لا سبيل إلى الخروج منها. لكن عزاءه أن الشيخ الأكبر يقول (كل الطرق دائرية) وهو قول من معانيه أن الرحلة تعود بالإنسان في نهاية الأمر إلى ذات نفسه”..

قال تعالى:

“ولقد خلقنا الإنسانَ، ونعلم ما توسوس به نفسُه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد”..

صدق الله العظيم..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى