الرأي

ساقية إبليس وإصلاح الخدمة المدنية

محمد أحمد الفيلابي

منذ تخلّت مؤسسات الخدمة المدنية عن دورها الأساس في خدمة الوطن والمواطن، تفرّغ شاغلوها من منسوبي النظام البائد لخلق نشاطات موازية ذات مسوح دينية وعسكرية داخل تلك المؤسسات، وأثناء ساعات العمل الرسمية، واقتطاعاً من ميزانياتها شيدوا المساجد ليصلوا فيها وقتاً واحداً، ولتنتظمها جلسات التلاوة خصماً على أداء الوظيفة وقضاء حاجات المواطن. نظموا (يوم الخدمة) والغريب أنه يوم ترفع فيه الأقلام ويقفل على الأختام في الأدراج، يوم لا خدمة فيه، وهو مكرس لإظهار الموالاة، و(كِسّير التلج)، واستعراض عضلات الخطابة، وتنميق الأكاذيب، والصرف البذخي حد أن تحمل الفواتير بند الشطة ومقابله رقم فلكي يمكن أن يمد كل مطابخ العاصمة بشطة لعدة شهور.
طبق النظام البائد نظرية (عسكرة) الخدمة المدنية بابتكار تنظيم الدفاع الشعبي (الإجباري) واعتماده وسيلة للترقي الوظيفي، الأمر الذي جعل الكفاءة تفارق هذه المؤسسات، وقد (حدث ما حدث) أثناء تلك الفترة من إذلال لغير الموالين للنظام، دون مراعاة للعمر والعلم والخبرات. فقد كان يتم اختيار العساكر الذين يقومون على أمر التدريب (التعلمجية) بعناية، ويزودونهم بأسماء الموظفين المغضوب عليهم، حتى يزيدوا من وسائل إذلالهم، حد أن يجلسونهم أرضاً في اليوم الأول خارج المعسكر، ويطلب من كل منهم حفر حفرة صغيره أمامه، ثم يقوم بوضع يده على رأسه ووضعها في الحفرة عدة مرات قبل دفن الحفرة وفقاً للأوامر المتلاحقة، ثم يخطرونهم أن هذه خبراتهم وعلمهم وفهمهم قد أودعوه في تلك الحفرة، ويحق لهم بعد انتهاء التدريب استعادة ما دفنوه.
قبل هذا وبعده أُعملت آلات التطهير، ذلك الشعار الذي ردده الشعب حين هب في أكتوبر، وهو يعني تطهير دولاب الدولة بأكمله من الشوائب التي علقت به أثناء الحكم المدني الأول، وعمل بذات المنهاج نظام مايو ضد معارضيه – اليساريين خاصة، والذين كانوا قد مارسوا ذات الفعل حين دان لهم الأمر في أول عهد مايو مع من يعارضونهم، ثم جاء هؤلاء في عهد الإنقاذ ليثأروا لكوادرهم وما حل بهم سابقأً. ذلك لأن هناك اعتقاداً أن الخدمة المدنية هي مجرد موظفين، لكنها في حقيقة الأمر خبرات وتجارب، ونظام دقيق للإدارة، والتخطيط، وتواصل أجيال، وحتى الدراسة الأكاديمية وحدها لاتكفي لوضع الخطط والبرامج بل لابد من أن يسندها تراكم خبرات. ومن الأمثلة الصارخة أن مصلحة حكومية واحدة فُصل منها أربعمائة موظف للصالح العام، من بينهم المدير العام ونائبه وستة من القياديين، وتم ترفيع موظف بالمصلحة من الدرجات الدنيا إلى وظيفة المدير العام متخطياً أربعة من رؤسائه لأنه موالٍ للنظام كلياً. وبعد أن كانت من المصالح التي تعتمد عليها البلاد في الإنتاج والاقتصاد، تحولت إلى مصلحة خاسرة عرضت للبيع في إطار الخصخصة. وما بين اتهام السدانة، واتهامات الموالاة السياسية لهذا المعسكر أو ذاك، أعمل قانون الصالح العام سلاحه في الخدمة المدنية، وزاد من تسييس الخدمة المدنية في كافة المرافق، مما فتح الباب على مصراعيه لأهل الثقة على حساب أهل الكفاءة، والنتيجة ظاهرة للعيان في التردي المريع الذي مس كافة أجهزة الدولة ومناشطها. كما أدى الصالح العام إلى إضعاف الحركة النقابية في السودان إلى الإطاحة باستقلال الخدمة المدنية، ليصبح العمال والموظفون تحت السيطرة الكاملة للدولة والحكومة.
يردد الكثيرون أن السودان ورث من البريطانيين منظومة تنموية ثلاثية الأبعاد (مشروع الجزيرة والسكة الحديد، والخدمة المدنية الممتازة)، لكنها بدأت في التآكل منذ السنوات الأولى بعد السودنة. لتبدأ المعاناة من الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي شكلت انهياراً في كل المناحي. فقد ظلت العلاقة بين السياسيين والخدمة المدنية في حال تغيُّر وتبدل مستمر وفقاً لأهواء الحاكمين، وكان لابد من ظهور الفوضى والإضطراب، وفقدان الآلاف من ذوي الخبرات الذين تلقفتهم المنافي، والمؤسسات الموازية، وظلت الخدمة المدنية تترنح في ضعفها مع كل نظام يأتي ليطهر (دنس) سابقه، كما يعتقدون، فضعفت الرقابة، وهبطت مستويات الأداء والإنتاج، ووصل الأمر إلى أعلى مدى نتيجة لتحكم الإسلاميين في السلطة لثلاثة عقود، ربط فيها التوظيف في المصالح الحكومية بأداء الخدمة الوطنية الإلزامية العسكرية خاصة لطلاب الشهادة السودانية وخريجي الجامعات، وارتبط الترفيع بالمشاركة في الجهاد.
هذا ما ورثناه.. فماذا فعلنا في العامين الماضيين بعد زوال الإنقاذ؟
حاولنا اقتفاء ذات الأثر، وإن كان المستهدفون هذه المرة من المتفق على إبعادهم كلياً عن المشهد العام، لكن كيف يتم سد الفراغ؟
شغلني السؤال كثيراً.. بيد أني وجدت بصيصاً من الأمل في التوجه الحالي لوزارتي العمل والإصلاح الإداري، وشؤون مجلس الوزراء بالإعلان عن انطلاق مشروع إصلاح الخدمة المدنية عبر إعداد الدراسات والتقييم، وبمشاركة بيوتات خبرة عالمية، وبتمويل من الوكالة الدولية للتنمية. يتوازى معها نشاط مكثف لمراجعة أوجه الخلل والفساد والتلاعب في توزيع الدرجات الوظيفية، وإنهاء تمكين النظام البائد.
ونهمس للسيدة الوزيرة في أذنها بأن مثل هذا العمل يقتضي التجرد الكامل وعدم المحاباة، والابتعاد قدر الإمكان عن المحاصصات الحزبية، واختيار خبراء حقيقيين، وخطوات جادة في تعديل القوانين، وإلا فسيكون الأمر أشبه بـ(ساقية إبليس تغرف من بحرها.. وتكب في بحرها).
أليس كذالك؟

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. استاذ محمد.
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    تحية طيبة
    اولاً اشيد بالمقال الرائع والهادف لانك هبشتا العضم جد جد.
    ثانيًا عايزك لو تفضلت انك تتكلم لينا عن قصة تغيير رقم الجواز في كل مره من تجديده لانو كتير من الناس بيتعبوا من القصة دي نتيجة لانو الدولة بتطبع جوازات الكترونية مامربوطة مع كل اجهزة الدولة لانها من عدة نواحي تفيد جهاز الدولة في معرفة تعداد من استخرجوا جوازات ،كم العدد في الخارج .لان مافي دولة بتغيير للمواطن رقم جوازه او رقمه الوطني بل في دول كثيره رقم الجواز هو الرقم الوطني او الرقم الشخصي مع اضافة صفر (0) في الجواز وبيكون مربوط مع كل التعاملات لان في بعض الاحيان توجد مشاكل في تهجئة الاسماء واثر ذلك تضيع حقوق ومن هذا السياق تتم معرفة ان الدولة فاشلة من خلال السماح بوضع مثل هذه الخطط التي تهدف الي التحصيل المالي فقط .
    اتمني انك تتعمق في هذا الموضوع ولا تتوقف عنه ألا عند المعالجة لاننا مع بعض نسعى لمصلحة الوطن والمواطن وتشكيل سيادة السودان بعد تدنيسها من قبل الحكم البائد.
    شاكر لك مجددًا.
    المواطن/ نزار عابدين احمد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى