رسومات قديمة!!
نقوش
لؤي قور
ليلة رأس السنة … يناير في لحظات ميلاده بعد التخلق… العام يلفظ أنفاسه كملك مريض يمتلئ جسده بالسقم وعقله بالذكريات… وكان هو في غرفته تلك الليلة الشتوية تعبث بذاكرته … تحيله إلى ما يرغب من ذكريات وإلى ما لا يرغب .. ويأخذه يناير في طريقه إلى حد الانجراف دون أن ينبئه عما يمكن أن يكشف عن وجهه في قادمات الأيام، يتركه لريبته ولا يمنحه من ظلمة لياليه سوى الغموض.. ولربما أعاده إلى ما لا ينتظر من تجارب وأحاسيس تتكرر ليس عن غباء، وإنما هي تلك المشاعر البشرية وثيقة الصلة بالإلحاح والتي تتنافى تماما مع مفهوم التوبة، لم يكن سوى ذلك التكرار الذي لا يؤدي إلا لنفسه قال إن القلب لا يأنف أن يتحرك في ذات الاتجاه بعد غيبة أو بعد خيبة أو ربما بعد قنوع، وقال إنه يترك لقلبه الخيار رغم علمه بوعورة الطريق وقسوة العودة حين يبلغ به المسير مبلغا وهو حزن ذلك الشفيف (مظفر النواب) حين يقول:
)مرة أخرى أمد القلب بالقرب من النهر زقاق/ مرة أخرى احني نصف أقدام الكوابيس بقلبي/ وأضيء الشمع وحدي/ وأوافيهم على بعد وما عدنا رفاق/ لم يعد يذكرني منذ اختلفنا أحد غير الطريق/ صار يكفي).
كانت الليلة الشتوية صاخبة في الخارج، غارقة في نشوة الاحتفال..يحتفلون بعام لم يأت بعد، ولا يعلمون من أمره شيئا ولا بنواياه وملامح أيامه وشهوره، ولا يعرفون شيئا عما يمكن أن يحمل من أوجاع.. وكانت غرفته على هدوئها القديم الذي يشبه هدوء دواخله في بداية العام..لم تكن سوى الريح تبكي على الرقعة المكسورة من نافذته التي تحمل إليه فيما تحمل صخب الخارج، وتنقل لمخيلته الصورة كما هي لتتركه على ذلك الحال غير راغب في المشاركة، يكتفي بالمعرفة التي تشبه اللعنات ويخافها في آن، والرقعة المكسورة من الشباك تلتهم الريح في شره مخيف وتتركه على ذلك البرد الذي لا يمنح دفئا لأحد..إلى أي حد هي جائعة تلك الرقعة؟؟ أو إلى أي حد هي خائفة ومرتابة وغريبة؟؟ ولم تستعن على جوعها بما يشعر به من جوع ومن برد ومن وحشة؟؟
وفي منتصف الليل يستفزه صخب الخارج وصيحات المحتفلين، وتراوده فكرة المشاركة حين ينحاز إلى تلك المشاعر الجماعية في رحلة البحث عن المكان.. خصوصا في تلك الغربة الباردة التي تبعد آلاف الكيلومترات عن دفء ما يألف من وجوه ومن أماكن ومن حنين… الإنسان أكثر أمنا حينما يتوحد مع غيره في خوف أوفي فرح أوفي حب أوفي حماس لعله كان خائفا ينشد الأمان، أو الدفء أو الاثنان معا حينما تقضي الوحدة بالبحث عن الرفيق – وإن كان ممن لا نعلم من أمرهم شيئا- كان يتوق لأن يستبدل وحدته برفقة إليفة، وأن يستبدل ضيق غرفته برحابة الشارع الصاخب والمشغول .. لكن الفكرة تسبق السلوك أو هو ما حدث ذلك العام وبدا الشارع عاجزا عن احتماله وعن قبوله وعن تطييب خاطره بما يأمل من ألفة تعينه على ليلته، ألفة يجدها ولو في عيون من لا يعرف. كانت الإجابة بالنفي، وكانت غرفته هو، المكان الذي احتمله في آخر الأمر ودون ضجة.
يناير، يتركه نهبا للذكرى مرة أخرى، ويحمله على التفكير في ما آل إليه أمره من غربة تقف حائلا بينه وبين الفرح المتناثر على الطرقات دون أن يحظى منه بضئيل نصيب ولا قليل انفعال. كان في غضب من غربته ومن ابتعاده ومن قمع تمخض فلم يلد إلا الغربة والتباعد والنزوح، ولم يترك خلفه ما يعين على الحياة وهو يحيلها إلى ذلك البرد القاسي ما وراء البحار، وإلى ريح من نافذة مكسورة تعبث بكل ما يمكن أن يتوسل به للدفء من كلمات وتعبث فيما تعبث بتلك الذكريات القديمة في زمان ما قبل القمع والمنافيوالرحلة والغربة والطريق وتسلمه إلى ذلك القنوع بما وجد وبما حصل عليه من رفقة ومن تذكر.
وهاهو ينزل للشارع في نهاية المطاف ويسلم نفسه لذلك الاضطراب الذي تصنعه الغربة ولتلك الحيرة الخائفة التي تصاحب الوحشة وهو يبحث عن موقعه بين الحاضرين، وكانت استفهاماته أكثر من أن تجد لنفسها جوابا وسط الحفل الصاخب والذي لا يحفل بأحزان أحد. ولا يستفتي أحداً في مواقيت صخبه ولا وقع ضجيجه على غربة الغريب وقسوته على وجدان من لم يجد لنفسه فيه مكانا، ولا لحنينه موقعاً، وحين يستمع لكل هذه الألحان مرتفعة النبرة والقامة فلا يطرق اذنيه لحنه المفضل، وينظر فلا تطالعه من بين الحاضرين عيون من يحب.
لم ينل من خروجه سوى الأسى، ولم يكن ثمة عزاء فيه ولا سلوى حين لم يترك له سوى الحسرة ولم يظفر منه بطائل سوى تلك المرارة يجترها في ألم، وسوى الذكري تعلن عن نفسها في قسوة وتبقى منه على مرأى ومسمع وعلى طول الطريق وهو يعود لغرفته في خفوت، كانت الريح أكثر قسوة، وكانت الغربة أكثر مرارة والذكرى لا تغري سوى بالتجاهل والتناسي والإهمال، حين تلون العالم من حولها بالفراق، وكان حنين لتلك الأمكنة إليفة الملامح والصفات ولأهل غيبتهم المسافة والمنافي والابتعاد وكان طلبا للغفران عما لم تقترف يداه ولم تكن له يد في حدوثه ما أقسى أن تطلب الغفران على ما لم تفعل أو أن يطول بك الحنين لشجرة طالما سقيتها فشعرت بارتوائها وأشعرتك بذلك الاستقرار الذي تمنحه الأشجار وهي تهز أغصانها ما شاءت لها الريح وتبقي على جذورها ثابتة في باطن الأرض شاءت الريح أو لم تشأ. كان أكثر عجزاً من شجرة وأقل حيلة من أن يصطنع لنفسه مقاما حيث وجد نفسه وحيث يجب وحيث يريد وكان يكن حنقا على ما آل إليه حاله من تبدل ومن تغير ومن اختلاف، وكان حنين آخر لكشف الجرح ورغبة في أن يترك للشمس تبرأه على مهل بلا عجلة وبلا خجل وبلا شبهة خوف وفي كامل الإعلان كانت اللحظات الأولى ما بعد الاحتمال وكان البوح قد ضاق ذرعا بكل الحكم والمأثورات القديمة التي تدعو وترسخ للكتمان وكان ألمه أكبر من أن يحتفظ به لنفسه ويخفيه عن الآخرين وكان حزنه يأخذ قيمه النهائية وهو يتطلع للهوة السحيقة التي تفصل بينه وبين ما يتطلع إليه في توق وفي كامل الانتظار.