الرأي

رؤى الإمام الصادق حول المرأة (2)

رباح الصادق
مدخل 2
ناقش منتدى الأحد قضايا نسائية على رأسها “مفهوم تحرير المرأة” حيث ألقى الإمام عليه الرضوان محاضرة بين فيها اختلاف الفقه الإسلامي حول الأحكام، ومعالم المنهج المطلوب لتفسير القرآن، وفي التعامل مع السنة، وأهمية قضية المرأة، ونقض المفهوم الغربي لتحرير المرأة باعتباره ينقض وظائف حضارية وبايولوجية واجتماعية وايكولوجية مهمة، ثم تعرض لمفهومنا لتحرير المرأة وضوابطه، وتعرض لخصوصية تحرير المرأة في السودان، ولبعض المفاهيم الخاطئة في الدين، ثم خلص إلى أن مفهومنا لتحرير المرأة يضمن لها حقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأسرية بينما ينضبط بضوابط خلقية وروحية تؤدي وظائف حياتية حضارية واجتماعية وصحية وأيكولوجية لا غنى عنها .
وفي نوفمبر 1998م شارك الحبيب الإمام عليه الرضوان بورقة (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من منظور إسلامي) في سمنار بذات الاسم نظمته المفوضية السامية لحقوق الإنسان بجنيف تعرض فيها للمادة (16) من الإعلان المتعلقة بقضية المرأة وحقها كالرجل في تأسيس أسرة دون قيد، وألا يبرم عقد الزواج إلا برضا الطرفين، وشرح انقسام الفكر الإسلامي المعاصر حول المساواة التامة بين الجنسين التي جاء بها الإعلان وخلص إلى أن أحكام الشريعة معنية بالتصدي لعلاج مشاكل حقيقية لا امتهان حقوق المرأة بل تكريمها من مقاصد الشريعة.
وشارك السيد الصادق في يوليو 2001م في ورشة نظمتها اليونسكو وحكومة السودان لعمل استراتيجية إعلامية لمكافحة ختان الإناث فألقى كلمة ختامية فند فيها الأسس الدينية المزعومة للختان وقال “ينبغي ألا نكتفي بتقرير أن ختان المرأة ليس واجباً دينياً بل نذهب إلى أبعد من ذلك ونقرر أن إبطاله هوا لواجب الديني.” مؤكداً أن مهمشي الدين يسببون ضرراً مزدوجاً لأنفسهم وللمجتمع، وأن الدين يجب أن يلعب دوراً إيجابياً في الحملة ضد تشويه أعضاء المرأة التناسلية، ونادى بحملة ثقافية أدبية تقلب الطاولة على المصطلحات الموجودة وتجعل ختان المرأة رجساً من عمل الشيطان. فلا نسميه طهارة بل تشويه، ونقول السالمة لا الغلفاء. وذكر كيف أنه نفوراً من العذاب الذي عانته المرأة بالشلوخ والختان أوقف كل ما يمس الفتاة وأصر ألا تمس بناته حتى لثقب الآذان للحلق .
وفي مارس 2004م دعا قطاع تنمية المرأة بحزب الأمة أن يطور ميثاقاً نسوياً يضمن فيه مطالب تمكين المرأة استناداً على الإستراتيجية التي أجازها القطاع في فبراير 2001م، وبالفعل نظم القطاع احتفالاً باليوم العالمي للمرأة في أواخر مارس من ذلك العام قدموا فيه ميثاقاً يحوي مطالب المرأة في الدستور، والقوانين، وفي الحياة السياسية، والتنمية الاقتصادية، والتعليم، والصحة الإنجابية، والثقافة والإعلام، ودعم العطاء النسوي، وفي الأسرة، والعمل، والآليات المطلوبة. وقد احتفى الإمام عليه الرضوان بالميثاق، وضمنه ورقته حول “دور الأحزاب في تفعيل دور المرأة” التي قدمها في ديسمبر من نفس العام.
وفي يوليو 2004م شارك في ورشة عمل عقدتها أمانة المرأة بهيئة شؤون الأنصار حول اتفاقية إزالة كافة أشكال التمييز ضد المرأة بورقة بعنوان “ضرورة الاجتهاد في قضايا العصر ومنها سيداو”. فوصف الحاجة لاجتهاد جديد في قضايا الدين وأدواته المشروعة، ونقض المفاهيم المؤسسة لدونية المرأة في التراث الديني في عشرين نقطة، ثم تطرق لرؤاه حول الاتفاقية.
وفي 2005م قمنا في مكتبه بتجميع كل تلك الأدبيات بدءا بكتاب “المرأة وحقوقها في الإسلام” والأوراق اللاحقة، إضافة لفصل أضافه الإمام عن قانون الأحوال الشخصية للمسلمين، بين فيه اجحافه الشديد لحقوق النساء وأنه شكل تراجعا ليس فقط عن القراءة المستنيرة للدين بل حتى عن الأوضاع التقليدية في السودان، ونادى بالاستهداء بتجربة مدونة الأسرة المغربية المنطلقة من اجتهاد إسلامي مستنير لتحقيق العدالة النوعية، مثلاً، قيوداً قانونية على التعدد..
في 25 فبراير 2009م خاطب الإمام الصادق مؤتمر قطاع تنمية المرأة بحزب الأمة وانتقد الفهم الصوري للدين القائم على القياس والإجماع وتقديس نتائجهما، منادياً بمنهج يوجب العقل- والمصلحة- والحكمة- والمقاصد وحتى الإلهام. ونادى بحقوق الإنسان كما في الإعلان العالمي، وبقبول سيداو. وقال إنهم في المؤتمر القادم سوف ينادون بإلغاء قانون الأحوال الشخصية الحالي لإجحافه واستبداله بمدونة للأحوال الشخصية تنصف المرأة من منطلق إسلامي على نحو ما فعلت المدونة المغربية، وتحرم ختان الإناث وزواج الطفلات، الذي يجيزونه مستشهدين بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة زاعمين أنه تزوج طفلة، وقال إن عمرها كان 17 سنة. ثم نادى بالزي المحتشم ومنع النقاب لأنه يلغي هوية المرأة، وكذلك منع مساحيق التبييض المضرة. أعقبت ذلك هجمة عنيفة شنها المتسيلفون على الإمام الصادق المهدي وكفروا أحاديثه.
وفي 2009م قدم الإمام ورقة ” الإطار المشترك لمناهضة العنف ضد المرأة” وقال إن المرأة ضحية عنف حسي ومعنوي، وذكر من أشكال العنف إجبارها على الزواج مكرهة، وظاهرة التشويه بماء النار التي كانت شاعت آنذاك، والزواج المبكر للطفلات، والختان بأنواعه باعتباره عدوان على بعض أعضاء المرأة التناسلية، وأشكال الزينة الوحشية كالشلوخ، واعتبار المرأة كلها عورة وفرض أزياء تلغي وجودها تماماً، والعنف المعنوي واللفظي على المرأة باعتبارها مصدر آثام وتكريس دونيتها والتقليل من قيمتها، مطالبا بالتصدي لذلك العنف ضمن أطر هي: إطار التخلي عن الحيوانية وعدم تأسيس المعاملات على القوة بل على أنماط أخلاقية، وإطار ثقافي بتطوير الثقافات لتواكب معاهدات حقوق الإنسان، وإطار ديني بين فيه ملامح المطلوب إسلامياً، وإطار متعلق بقوانين الأحوال الشخصية وإصلاحها منوهاً بسداد تجربة المدونة المغربية للأسرة، وآخر متعلق بسن تشريع خاص بالعنف ضد المرأة، وإطار تربوي ابتداء من الأسرة، وإطار إعلامي، وإطار لرصد العنف، وتوثيق حوادثه ورعاية الضحايا،  والتعاون والتشبيك للتصدي للعنف، وعمل ميثاق نسوي لجعل العنف قضية قومية ومناهضته. وفي ديسمبر 2015 شارك في الاجتماع السنوي الأول لائتلاف البرلمانيات من الدول العربية لمناهضة العنف ضد المرأة بورقة أخرى حول القضية.
وفي سبتمبر 2013 عقدت ورشة بمركز الجندر بجامعة الأحفاد شارك فيها الإمام بورقة عنوانها (المرأة والاضطهاد المثنى، وبعضه مثلث ومربع) كانت تحضيرية لمنبر يناقش مسألة التهميش المزدوج في نادي مدريد، استمع في الورشة لرؤى ناشطات سودانيات حول التهميش المركب وكيفية مواجهته في السودان وخارجه.
وهناك في الحقيقة عشرات المخاطبات التي تضمنت رؤى الإمام عليه الرضوان حول قضية المرأة، من ذلك خطاباته في مؤتمرات أو ورش نسوية داخل حزب الأمة وهيئة شؤون الأنصار وغيرهما، وهي مخاطبات عادة ما تجعله تحت خطوط نيران التكفيريين من فقهاء السلطان الذين كانوا يدبجون فتاواهم بأوامر نظام الإنقاذ البائد، فأصدروا فتاوى بتكفير أقواله عن حقوق النساء في عامي 2009 و2012.
(3) مداخل الإمام النظرية لقضية المرأة
هناك مداخل نظرية لقضية النوع كنظرية الخلق أو كيفية وجود آدم وحواء، والمدخل المعرفي: حقائق الأمور وتراكم المعارف وما نقبل وما نترك منها والمنهج المتخذ في الحكم على القضايا، وهما مدخلان مهمان في تأطير الأحكام والمواقف العملية في العادة.
مدخل انطولوجي (في الوجود والكينونة)
يرى الإمام الصادق عليه الرضوان أن الرجل والمرأة شقا الإنسانية المتساويان في القيمة ومختلفان في التكوين. وهو يرفض الحديث عن دونية حواء ودورها في هبوط آدم من الجنة، مثلما يرفض الحديث عن التطابق بينهما.
قصة الخلق
معلوم الارتباط بين المرويات عن دور حواء في إخراج آدم من الجنة، وبين النظر للمرأة بدونية وجعلها مندوبة الشيطان والإغواء في حياة الرجال. وقد وقف الإمام الصادق المهدي موقفاً مستنكراً من تلك المرويات الموضوعة لتبرير اضطهاد النساء. فذكر ضمن ملامح دونية المرأة في التراث الإنساني أنه في اليهودية المرأة منجسة وهي مسئولة عن خروج آدم من الجنة ولذلك فهي معاقبة بالحيض. وفي المسيحية أورد قول أحد علماء المسيحيين، ترتليان، للمرأة إنها باب الشيطان وهاتكة الشجرة المحرمة وأنها قتلت المسيح بخطيئتها فوجب عليه أن يموت فداء للإنسانية.
فند الإمام الاعتقاد بأن حواء هي السبب في إخراج آدم من الجنة في المرويات الإسلامية، واعتبره مفهوماً إسرائيلياً، أما النص القرآني فيقول (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) ، (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) . كذلك رفض الاعتقاد بأن الحيض عقاب للنساء لنفس السبب، أي إخراج حواء لآدم من الجنة، وقال إن الحيض في الإسلام ليس عقوبة بل موجب للرخصة وليس للعقاب ولا التنجيس وأحاديث أمهات المؤمنين تدل على ذلك: قالت أم المؤمنين السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها: قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: “نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ- أي المصلاة- مِنَ الْمَسْجِدِ” قَالَتْ فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ: “إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ” . وقال: صلى الله عليه وسلم “إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجَسُ” .
وتناول الإمام الصادق الحديث المروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ”  وقال: لا يمكن أن يكون هذا الحديث صحيحاً لأن الله يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونساء).
كما انتقد قصة الخلق في التصور الجمهوري الواردة في الرسالة الثانية (للأستاذ محمود محمد طه) في عدة نقاط منها قوله إن آدم “تهالك أمام إغراء زوجه ورغبة نفسه فأساء استعمال حريته فصادرناها” مما يعني أن حواء تحمل وزراً أكبر من آدم لذلك حينما هبطوا من الجنة “كان ترتيبهم في الهبوط إبليس أولا متبوعاً بحواء ثم آدم”. وقوله إن الحياة من النفس والحرية من الروح وإن “إرادة الحياة حواء البنية البشرية، وإرادة الحرية آدمها” . قال الإمام الصادق إن قوله تعالى (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)  تعني أن الرجل هو مذكر الإنسان والمرأة هي مؤنث الإنسان والروح والنفس في كليهما، كذاك الحرية والحياة، وإن تحميل حواء وزر الخطيئة اعتقاد توراتي، فالقرآن ينسب المعصية تارة لآدم أو يحملهما الخطيئة معاً: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ).
تطابق أم تباين
ومن ناحية أخرى فإن بعض تيارات النسوية الحديثة رفدت من مناداة جون ستيوارت مل في كتابه “اضطهاد النساء” بالمساواة الكاملة بين النساء والرجال، فانطلقت مثلا على يدي المفكرة الوجودية سيمون دي بوفوار التي أرجعت اضطهاد المرأة لدورها في التكاثر ونادت بالتخلي تماماً عن أسطورة الأنوثة، ومؤسسة الزواج، ودور المرأة كأم لأن (الأنوثة والزواج والأمومة تعمل على تموضع المرأة أي جعلها موضوعاً لاهتمامات وسلب الرجل) . وصارت بعض النسويات ينكرن وجود فوارق بين الجنسين ويرجعن كل الفوارق الظاهرة إلى التنشئة وتربية المجتمعات وتنميط الثقافات.
على العكس من ذلك كرس الإمام الصادق قلمه للدفاع عن مؤسسة الأسرة وحمايتها، وعن ثنائية الأنوثة/الذكورة باعتبارها من أعظم ثنائيات الكون مثل السالب والموجب، والقلوي والحمضي وغيرها، كما أنه رأى تحرر المرأة لا ينبغي ان ينظر إليه كإلحاق للمرأة بالرجل فالأنوثة قيمة في حد ذاتها تضاهي الذكورة وتتكامل معها .
مدخل معرفي
للإمام نظرية محددة لمصادر المعرفة حصرها في أربعة مصادر هي: الوحي، والعقل، والتجربة والإلهام . وبالتالي كان يعمل أفكاره المعرفية متضمناً ما تأتي به تلك المصادر التي ترفد المعارف حول عالمي الغيب والشهادة.
المعرفة النسوية
فيما يتعلق بالمعرفة من مصادر العقل والتجربة كان الإمام مهتماً بمتابعة النقاشات التي تدور حول قضية المرأة بأيدي رائدات الحركة النسوية ومعارضيهن، وما تقوله العلوم الحديثة. وقد انتقد الكثير من أفكار الحركة النسوية في الثمانينات، وإن كنا نجد بعض التطابق بين ما وصل إليه بشأن تحرير المرأة وبين رؤى الأبستمولوجيا النسوية.
من ناحية الحركة النسوية فمنذ سبعينات القرن العشرين تكاثرت المحاولات لخلق أبستمولوجية نسوية، تنقض تراث المعرفة باعتباره إرثاً ذكورياً قائماً على تصاميم مفصلة على مقاس الرجل. اجتهدت النسويات في تكوين نظريات معرفة نسوية تتحدى نظريات المعرفة الموجودة . لقد حمل الاتجاه النسوي في فلسفة العلم المفاهيم الديكارتية (نسبة للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت) المسؤولية عن التصورات الفلسفية المعادية للمرأة، فانتقدن الثنائية الفجة التي جاء بها بتفرقته الحاسمة بين الجسم وبين العقل رابطاً التفكير العقلاني بالتحرر من الجسم، مما نتج عنه التمييز بين العقل والتفكير العقلاني الذي يمثله الرجل والجسم والتفكير اللاعقلاني التي تمثله المرأة، فأصبح العقل الفلسفي المجرد القادر على إحراز المعرفة الموضوعية عقل الرجل، في حين أن العقل المختص بشئون الحياة اليومية هو عقل المرأة .
انتقدت النسويات السلطة المعرفية بأشكالها كالعقلانية والموضوعية والمناهج العلمية الثابتة، باعتبارها معرفة غايتها السيطرة على الطبيعة واستغلالها وهو اتجاه انتهى إلى جعل الطبيعة كالأنثى التي يجب اختراقها والتحكم فيها والسيطرة عليها، لذلك كما يقول محفوظ مصطفى: “ليس غريباً أن نجد مذهباً نسوياً يهتم بالطبيعة والبيئة عرف باسم المذهب النسوي البيئي Ecofeminism ” . ربط المذهب النسوي البيئي بين التلوث والتدمير الحادث في الطبيعة، وبين سيطرة الرجل على الطبيعة، وعلى المرأة على حد سواء. واستصحبت الانتقادات النسوية كذلك ما جاء لدى فلاسفة علم معاصرين أمثال بول فيير آبند الذي كشف عن أزمة الثقافة الغربية التي تنحو لفرض سلطانها على العقل كأداة للسيطرة على الشعوب الأخرى غير الغربية باسم العقلانية.
ونحن نجد أفكاراً مماثلة في نقد الإمام للمعرفة الغربية، فقد ذكر تجربته مع كتاب كان مرجعاً مقرراً لهم أثناء دراسته بأوكسفورد يذكر أن الإمام المهدي كان تاجر رقيق، وقال إن ما قرأه فيه نزع لديه الاحترام الذي كان يعامل به تلك الكتب وصار يعتبر موضوعيتها “حجاباً يستر في طيه نظرات ذاتية منحازة”. وصار يشك حتى في موضوعية كتب العلوم الطبيعية ووصل إلى أنها نقلت أمرين خاليين من الموضوعية وهما افتراض تناقض العلم والدين، والانطباع بأن النظرة العلمية والاكتشافات العلمية هي هبة أوروبا للإنسان ليس لها في ذلك شريك .
الشاهد إن في نقد الإمام للمفهوم الغربي لتحرر المرأة أكثر من نقض الموضوعية، ومن أنه وجه من وجوه انتصار الفكر العلماني، إذ ذكر أنه “وجه من وجوه انتصار الفكر الإنساني بصورة غير محكومة بضوابط روحية أو بيئية أو خلقية” ، وطالب بانفصال التحرير عن كونه استرجالاً أو استغراباً وبمراعاة البيئة.
يلتقي الإمام الصادق مع تصورات المعرفية النسوية إذن في نقد موضوعية المعرفة الغربية، وفي تأكيد ندية الرجل والمرأة واختلافهما، ونقض فكرة التحرر باعتباره ترقية المرأة إلى مقام الرجل، فبحسب محفوظ عبد الكريم: “رفض الاتجاه النسوي في فلسفة العلم الانتباه إلى فكرة المساواة التي تتطلب دائماً طرفين متقابلين أو متعارضين (الرجل/ المرأة، الذكر، الأنثى) حيث يكمن وراء خطاب المساواة إحساس بالتفوق نابعاً من افتراض ضمني يحمله الخطاب بمركزية الرجل/ الذكر، فالمرأة حين تتساوى فإنها تتساوى بالرجل وحين يسمح لها بالمشاركة فإنها تشارك الرجل، وفي كل الأحوال يصبح الرجل مركز الحركة وبؤرة الفاعلية” ، كما يلتقي الإمام مع المعرفية النسوية في ضرورة الاهتمام بالطبيعة وبالبيئة، وفي المناداة بمعرفة تغتني من رؤى الجميع وهوياتهم، وتنفك من فلك الغرب وحده لا شريك له.
موضوع آخر متعلق بالمعرفة النسوية هو أن الإمام في مقابل ثقافة ذكورية تنظر لأقوال النساء وأمثالهن باحتقار فلا تستخدمها، نجده يتحرك وسط الأمثال النابعة من خبرة نسائية بأريحية، فيستخدم “الما عندها تيلة تسوي الحد حيلة” وهو مثل نسائي لمن يبرر فعلاً سببه وضع غير مقبول بأمر آخر مقبول، واستخدم “شملة كنيش”، الثلاثية ذات الثقب الرباعي وهي من أدوات النساء لزينتهن في وصف الاقتصاد العاجز، كما استخدم أثناء الثورة في الرد على المزايدين عليه المثل “ما بنفع علوق الشد ولا بوخة المرقة” عانياً بذلك أن حزبه مداوم على الثورة منذ بدء النظام البائد فلا يزايدن عليه أصحاب “بوخة المرقة”. وللغرابة فإن بعض النسويات رأين في ذلك عنفاَ ضد المرأة! والحقيقة أن في المثل تماهياً مع الخبرة النسوية، إذ يشبه حزبه الذي داوم على معارضة النظام بامرأة توالي زينتها يومياً في مقابل أخرى تتزين فقط وهي تتأهب للخروج، واصفاً أولئك الذين لم يعارضوا النظام إلا حين هبت رياح التغيير.
المعرفة الفقهية
اهتم الإمام الصادق جداً بمصادر المعرفة الدينية، وبالاستنباط والتدبر في نصوص الوحي، وقال إن السبب الأول للركود الذي دخل فيه العالم الإسلامي منذ قرون سبب معرفي بحصر مصادر المعرفة وقفل باب الاجتهاد والاكتفاء بتقليد السلف في الدين، كما انتقد المنهج الصوري الذي جعل الاجتهاد محصوراً في آليتي القياس والإجماع، منادياً بمنهج مقاصدي يعمل الحكمة والميزان والقسطاس والمصلحة، فقال بـ”عدم شرعية التقليد وعدم جدوى المنطق الصوري الذي أدى إلى قيد معرفي على الاجتهاد”. مؤكداً أن الاجتهاد ضرورة دينية مستمرة ولدى أنصار الله الاجتهاد هو سنام الدين.
لذلك نادى الإمام باجتهاد مؤسسي على النحو المذكور آنفاً، وعدد جوانب لا بد من اجتهاد جديد فيها لنهضة الأمة منها قضية المرأة باعتبار أن الاجتهادات القديمة تأثرت ببيئات وثقافات زمانها ومكانها وكما قال الإمام المهدي “لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال” وكان الإمام الصادق أحياناً يضيف: ونساء. ولذلك قال بعد تناوله لجوانب دونية المرأة ” ذكرت الآن عشرين مسألة من المسائل المؤسسة لدونية المرأة حسب تفاسير واجتهادات معينة، ويتوقع أن تتفقه النساء في الدين ويحدثن تنويراً في المفاهيم والنصوص والتفاسير بما يزيل هذه الدونية، ونحن مطالبون بذلك لأن هذه الدونية تحدث شللاً في المجتمع ولا بد من إزالتها”. أي أنه طالب بمعرفة فقهية نسوية تلعب الدور الأهم في نقض المعرفة الفقهية الذكورية الحالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى