الرأي

ديمقراطية سَوَاء

ياسر يوسف الأمين

(1)

مع قدرة الديمقراطية على إدارة التعدد و التنوع إلا أنها تتطلب قدرًا من التوافق الوطني لتكون نظامًا قابلاً للعمل و الحياة. لا بد من مبادئ أولية توافقية تقوم التجربة الديمقراطية على أساسها، كمن يحق له التصويت أو طبيعة النظام الانتخابي وغيرها من “قواعد اللعبة” التي في غيابها يستحيل تصور قيام نظام ديمقراطي.

كلما اتسعت مساحة التوافق الوطني كلما كانت الديمقراطية أكثر فعالية كنظام حكم. خير مثال الدول الاسكندنافية، حيث تتناوب على الحكم أحزاب يمين الوسط و يساره في ظل توافق وطني واسع تنحصر الخلافات فيه حول قضايا سياساتية تُحسم عن طريق الانتخابات العامة.

بالمقابل، تعجز أعتى الديمقراطيات و أكثرها رسوخًا عن رتق الانقسام الأهلي و غياب التوافق الوطني. في الولايات المتحدة و منذ الستينات تصاعدت شروخ سياسية واجتماعية وثقافية حول التعددية الدينية والعرقية مقرونة بفروق هائلة في توزيع الثروة. بلغت هذه الشروخ ذروتها بانتخاب الرئيس ترمب والذي وصل السلطة مستثمرًا في انقسامات البلاد ونخبتها. حدة الشقاق السياسي أدت إلى التشكيك في العملية الديمقراطية نفسها ويجري الطعن مقدماً في نتائج الانتخابات المزمع قيامها الشهر المقبل، مع مخاوف بحصول عنف واسع بدأت أول شرره بالاشتعال، ففي ٩ أكتوبر الجاري اعتقلت الشرطة ستة مواطنين ينتمون إلى مليشيا يمينية متطرفة هموا باختطاف حاكمة ولاية ميتشيغان. كتب الصحفي المرموق توماس فريدمان أن الانقسام الأهلي الحالي أكبر تهديد يواجه الديمقراطية الأمريكية في تاريخها متفوقًا في فداحته على النازية والإرهاب (نيويورك تايمز ٣٠ سبتمبر ٢٠٢٠). عناوين الكتب التي صدرت من مفكرين أمريكيين بارزين في الآونة الأخيرة تشي بالكثير: أُفول الديمقراطية، كيف تموت الديمقراطية، الشر المطلق: تخريب أمريكا، كيف تدمر أمريكا، منقسمون نسقط، والقائمة تطول. الكتاب الأخير للكاتب المحافظ ديفيد فرينش، منقسمون نسقط، يحشد أدلة قطعية على أن الشقاق الأهلي بلغ حدًا تعجز الديمقراطية ذاتها عن تطويقه وحسمه بالسبل الانتخابية، تحذير الكاتب لأهل بلاده صارخ: التراضي أو نحن على أعتاب التقسيم و السقوط.

 

(2)

إذا كان الانقسام الأهلي يهدد ديمقراطية راسخة كالأمريكية فإنه سيعصف، حتمًا، بالتحول الديمقراطي الوليد في السودان بل سيلقي البلاد كلها في سواء الجحيم. حال التربص بين العسكريين من القوات النظامية والكفاح المسلح، القوى المدنية داخل الحرية والتغيير وخارجها، التيار الإسلامي المنتسب للإنقاذ وغير المنتسب لها، يخنق مستقبل بلادنا. ليعتبر التيار الديمقراطي في البلاد ببعض ما يجري:

  • السلام هدف منشود لكل السودانيين، مع ذلك استقبل أكثرهم اتفاق حوبا بتوجس موضوعي حول استخدام الاتفاق لتعزيز نفوذ قائد الدعم السريع و طموحه الجامح، توارٍ مخجل للحكومة و رئيسها، تمديد الفترة الانتقالية، خرْق الوثيقة الدستورية في غياب المجلس التشريعي، استخدام السلطة الانتقالية لبناء حلف انتخابي، إن قامت انتخابات أصلاً، فأصبح التحالف الحاكم الجديد عوضًا عن الوصول إلى السلطة بأصوات الناخبين، يريد الوصول لأصوات الناخبين عن طريق السلطة.
  • يعرقل الشقاق الأهلي برنامج الحكومة الاقتصادي، غض النظر عن صواب البرنامج من عدمه. يصعب جدًا إجراء إصلاحات جذرية في ظل رغبة المكون العسكري الحاكم والتيار الإسلامي استغلال السخط الشعبي المتوقع من تلك الإجراءات لتسخين الأوضاع وإحراز النقاط. المسألة الأهم من المستبعد أن تنجح الدولة في جذب رؤوس أموال وطنية أو أجنبية طالما غاب الاستقرار السياسي، فأي مستثمر سيلقي ماله في عاصمة تغلق نصف شوارعها درءًا للتظاهر كل بضعة أسابيع!
  • بديل التوافق الوطني حول الفترة الانتقالية هو الجبر. مما يعني حتمية تأمينها بإجراءات بوليسية ترجح كفة العسكرة وتبعدنا من التحول الديمقراطي.
  • السودان مستباح بالكامل أمام التدخلات الأجنبية بشكل غير مسبوق في تاريخه. الصراعات الوجودية بين السودانيين تشكل حاضنة مثالية لهذا التدخل.

خلاصة القول، “سيصرخون” لم تصب الإسلاميين خاصة، الكل يصرخ في وجه الكل حتى أصبنا جميعًا، وبلادنا معنا، بالطرش.

 

(3)

هل من سبيل إلى توافق وطني واسع في السودان؟ توافق حول التحول الديمقراطي يراعي المصالح المادية لجموع السودانيين واللاعبيين الأساسيين بالبلاد ويجنبنا ورود المهلكة؟ توافق ليس بدعًا من التاريخ بل سبقتنا له أمم شتى فيها البرازيل، جنوب إفريقيا، بولندا، هنغاريا، والولايات المتحدة ساعة ميلادها.

لا شك أن توازن القوى الذي كان قائمًا بعد سقوط البشير، والذي كان يمكن أن تتحقق على أساسه تسوية شاملة، قد اختل بشكل بشكل كبير. ضعُفت قوى الحرية والتغيير بسبب خلافاتها الداخلية وخسرت سلاحيها الرئيسيين: التأييد الشعبي الذي ذهب سدى بفعل التخبط وغياب الشفافية والصراعات الصغرى، وسلاح الحكومة الانتقالية ورئيسها و الذي لا يدري أحد أهما في جراب العسكر أم جراب التحول الديمقراطي!

بالمقابل، لم تبرز حتى الآن قيادة إسلامية إصلاحية غير إنقاذية يمكن أن تكون طرفًا في تسوية سياسية تاريخية، فحتى عقلاء الإسلاميين ممن عارضوا الإنقاذ يتخذون موقفًا مناهضًا للتجربة الانتقالية مناهضةً جذرية، مرتكبين بذلك خطأ استراتيجيًا فادحًا سيسهم في هلاك البلاد (انظر كتابات أستاذنا الدكتور خالد التيجاني و شهيدنا الحي هشام الشواني). أما الشريك العسكري في الحكم فقد أغراه ضعف المكون المدني وهوانه وخسرانه في تصريف أمر الاقتصاد، كما اختل الميزان العسكري لصالحه بصورة حاسمة بحل هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن، وأصبح يراهن على الوقت وأن تأتيه السلطة “جاهزة”.

إضافة لهذا كله، استمرار حرب الكل ضد الكل مؤشر لانعدام الإرادة الوطنية في السودان، وارتهانها للأجنبي ارتهانًا لا مروءة معه.

 

(4)

الموقف الثوري الجذري في سودان اليوم هو الموقف الذي يريد تغيير قواعد اللعبة تغييرًا عميقًا بحيث تنتهي حروب العدم بين السودانيين، فالديمقراطية لا تقام في المقابر والموتى لا يصوتون. موقف نلحق فيه بغيرنا من الأمم يوم اجتمعت عزائمها على نسخ الماضي والسير في درب الحرية و السلام و العدالة.

 

إما أن نأتي إلى كلمةٍ ديمقراطيةٍ سواء أو نلتقي، جميعنا، في سواء الجحيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى