الرأي

خياراتنا الاقتصادية تحت الافلاس و(الجس بعد الضبح)


• ومن الأسباب الاضافية التي تضعف الرغبة في مناقشة مدرسية حول الاصلاح التعصب الذي يتبدى لدى أطراف المناقشة المحليين الرئيسيين، وهو تعصب يتجاهل أو لا يعلم المراجعات النظرية التي تجري حالياً في الفكر الاقتصادي العالمي.
وهي مراجعات ليست على الهوامش وانما ضمن التيار الرئيسي للمدرسة الاقتصادية الليبرالية.
وعلى عكس ما يردد (المتوركين) المحليون من أنصار روشتة الصندوق، عن أنها عال العال، فإن خبيرين بارزين بالصندوق أجريا دراسة لبرنامج الصندوق لخمسين عاماً ليصلا للاستنتاج بأنها لم تحقق أبداً أهدافها المعلنة، ومثلت الدراسة صدمة في عالم الصندوق لدرجة أن مديرة الصندوق أبدت استعداداً للمراجعة!.
وكذلك فإن محرر الايكونومست الذي لا يمكن اتهامه بالراديكالية نشر كتاباً يدافع فيه عن أهمية تدخل الدولة في الاقتصاد.
وينتقد التيار الرئيسي لليبرالية الاقتصادية – الذي تعبر عنه أوكسفام – المستويات المفزعة لعدم عدالة توزيع الثروة التي انتهى إليها اقتصاد السوق الحر المتوحش الذي تدافع عنه (النيو ليبرالية). 
ومن موقع الليبرالية التقدمية، وليس الموقع الراديكالي، صيغت أطروحة مجتمع الـ5% أو الـ1% التي تنتقد هيمنة أقلية المصارف على معظم الثروات في الاقتصاد الغربي والعالمي.
• وشخصياً أعتقد أن تصفية دولة الرعاية الاجتماعية إثر تبني روشتة الصندوق، في بلدان الجنوب وخصوصاً افريقيا، مثلت الجذر الاجتماعي لما شهدته بلداننا من قلاقل وتوترات اجتماعية غالباً ما اتخذت شكل نزاعات وحروب اثنية وقبلية.
• وفي المقابل فإن نموذج الاقتصاد المركزي البيروقراطي، الذي يتجاهل آليات السوق، ويستعيض عنها بالتحكم الاداري، والذي طبق لأكثر من خمسة عقود في الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا، سقط بالسكتة الدماغية وشبع موتاً.
ولا يجدي المتشبثين به التعلق بقشة تجربة الصين، فهي غض النظر عن عدم ديمقراطيتها وحجرها على العاملين حقهم في التنظيم والاحتجاج، إلا انها مع ذلك تجربة تؤكد ضرورة التوازن مابين آليات السوق والتدخل النشط للدولة.
• وعلى كل، ما من عاقل، يتصور ان برنامجاً اشتراكياً يمكن ان يطرح كبرنامج عملي للاقتصاد في البلاد حالياً، وبالتالي فإن أية اصلاحات اقتصادية إنما تجري في إطار اقتصاد السوق، وبمشاركة الرأسمالية السودانية غير الطفيلية. كما ان الأزمة الاقتصادية الخانقة والماثلة حالياً تستصرخ رجال الأعمال والمستثمرين واسعي الأفق لتفهم ان البلاد تجلس على براميل بارود من الخراب المتشعب والممتد لثلاثة عقود وان محاولة حل هذه الازمة على حساب العاملين والفقراء ستنتهي حتماً إلى انفجار اجتماعي هائل يعصف بمصالح الجميع.
• وكان للمفاوض السوداني أن يستفيد من التضامن العالمي مع الثورة السودانية ليصل إلى إتفاق أفضل مع موظفي الصندوق، لكن الآن علينا أن نواجه حقيقة أن الاتفاق سبق وأبرم، والتراجع عنه، مهما كان رأينا فيه، سيؤدي إلى نتائج أكثر كارثية.
• لقد ترك خراب النظام المعزول البلاد في أسوأ أوقاتها، تعاني أزمة في دقيق الخبز، وفي الوقود، وفي الأدوية المنقذة للحياة، ومع خراب الانتاج تبلغ صادرات البلاد حوالي 3 مليار دولار فيما تصل الواردات إلى 6 مليار دولار، بما يعني ان العجز يساوي أو يفوق حجم الصادرات، هذا فضلاً عن الديون المهولة، في مثل هذه الاوضاع فإن الاحاديث المرسلة عن (تعبئة الطاقات الداخلية) تدخل في باب المزايدات الفجة أو الأوهام الوردية، فالبلاد بحاجة إلى أن تتنفس أولاً كي تسترد بعض عافيتها ثم تعبئ طاقاتها الداخلية.
على المدى القصير لابد من مساعدات إقليمية ودولية، ثم استثمارات ذات شأن في الطاقة والزراعة والثروة الحيوانية والتصنيع الزراعي والتعدين، وشرط تدفق المساعدات والاستثمارات وإعفاء الديون الحصول على شهادة حسن السير والسلوك من صندوق النقد الدولي، إضافة إلى الخروج من لائحة الدول الراعية للارهاب، مما يعني ان حسن إدارة العلاقات الخارجية ليس اولوية سياسية وحسب وإنما كذلك اولوية اقتصادية متقدمة.
وعلى أهمية هذه الاولوية لابد من الاقرار بأن(ق ح ت) لم تحسن إختيار وزير خارجية البلاد في الفترة الاولى، ومع اتضاح ضعف الكفاءة ظلت تتلكأ في إجراء المعالجة الضرورية؛ مما بدد زمناً عزيزاً على الشعب. إضافة إلى أن قوى في الحرية والتغيير بطفولية لا تليق برجال دولة وبعدم مسؤولية بالغة لم تدخر وسعاً في كيل الشتائم لكل من ترجى مساعدته في إخراجنا من الحفرة التي ادخلتنا فيها اصلاً مثل هذه الخطابات.
• وهكذا فإننا نقارب خياراتنا الاقتصادية في ظل إفلاس، وبعد اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي على البرنامج، وبالتالي بمحدودية في الخيارات الممكنة.
• كان الاقتصادي الامريكي الشهير قالبريث أول من صاغ مفهوم السوق الاشتراكي كبديل للتحكم المركزي البيروقراطي، وصمم برنامج نيوديل الذي انقذ الولايات المتحدة من انفجار إجتماعي كانت تلوح نذره. قال بعد تأمل لسنوات طويلة في السياسات الاقتصادية الاجتماعية انه يجب إدخال الذكاء أو الغباء دوماً في التحليل.
وهكذا مما يوسع لحدود معينة خياراتنا الضيقة أصلاً الذكاء والكفاءة.
• خذ مثلاً جند تحرير سعر الصرف، هو احد اشتراطات الروشتة، وكذلك ضرورة موضوعية، لانه في المدى القصير تشكل تحويلات المغتربين أهم مورد واقعي للعملة الصعبة، وكذلك فإن المضاربة في أسعار العملة بناء على تحويلات المغتربين تشكل أهم نشاط طفيلي يضر بالاقتصاد؛ فإذا حرر سعر الصرف يمكن أن تجري تحويلات المغتربين- وهي أعلى من جملة صادرات البلاد حالياً- عبر القنوات النظامية وليس عبر المضاربين، ولكن في المقابل إذا حرر سعر الصرف بدون احتياطي معقول من العملات الصعبة لدى بنك السودان فهذه صيغة للكارثة، حينها سينخفض الجنيه السوداني لمستويات لا قبل للاقتصاد باحتمالها وربما تؤدي إلى انهيار شامل. هذه حجة واضحة اوردتها مساعدة مدير الصندوق نفسها ولابد أن تطرح على الأصدقاء الاقليميين والدوليين كي يرتبوا عليها التزامات صلدة قبل اي شروع في تحرير سعر الصرف.
• وكذلك في جند رفع الدعم عن المحروقات، لا يمكن ان يتحمل الفقراء عبء الخروج من ازمة لم تكن آثارها موزعة بالتساوي بينهم وبين الاغنياء، ولذا لابد من تسعير بنزين العربات الخاصة بما يوفر دعماً لعربات النقل وجازولين الانتاج الزراعي وغاز الطبخ، وفق صيغة الدعم المتقاطع، والتي يمكن تطبيقها كذلك في أسعار الكهرباء.
• والأرجح ان تطبق البيروقراطية الحكومية توسيع القاعدة الضريبية، بزيادة الايرادات من نفس القاعدة الضريبية القائمة، فذلك هو الاسهل والذي جرت عادتها عليه، مما يفاقم من أزمات الاستثمار المنتج وبالتالي من أزمة البطالة وسط الشباب، في حين أن جهداً كفؤاً ذكياً قائماً على الدراسة العلمية يمكن أن يزيد الايرادات الضريبية، خصوصاً من مظان الانشطة غير المنتجة اجتماعياً، وبذات الوقت يشجع الاستثمار في القطاعات الانتاجية بتقليل الضرائب عليها.
• وفوق هذا وذاك لا يمكن ان تشكو الحكومة، وبحق، من قلة الموارد، ولا تزال بيروقراطية موظفيها- خصوصاً في الادارات السياسية والعسكرية والامنية والادارات العليا، لا تزال تتصرف بذات عقلية ود أب زهانة، في بعزقة الموارد على الحوافز والنثريات وتجديد المكاتب والمنازل والسيارات بلا سقوف.
• كما لا يمكن تطبيق اي إصلاح اقتصادي جدي دون أن تتدخل الدولة بذكاء وكفاءة وإحكام إداري مؤسسي لإعادة تنظيم ومراقبة وكبح النشاط الطفيلي في القطاعات ذات الاولوية مثل البنوك والتعدين والاتصالات والصادرات والواردات. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى