الرأي

حوار المطر

عند محطة حافلات خاملة دار حوار بين متسكعين، وجدا نفسيهما عالقين بانتظار وسيلة مواصلات تقلهما صوب وجهة تسكع جديدة. كانت الأمطار تهطل حين التجآ إلى المحطة ليحتميا بسقفها الإسمنتي المتآكل. كل أتى من جهة، لكنهما دخلا إلى المظلة في ذات اللحظة، ملابسهما مبتلة بالماء. جلسا صامتين في بادئ الأمر. أشعل أحدهما سيجارة، بينما أخرج الآخر هاتفا كلاسيكيا أخذ يعبث فيه لدقائق ثم تركه جانبا على المقعد الإسمنتي المستطيل؛ بالضبط في المسافة التي تفصل بينه وبين الآخر الذي كان يدخن سيجارته في انتشاء ظاهر وهو يتأمل الشوارع الخالية من المارة، وفي جداول المياه الصغيرة المنتشرة في المكان.
-الجو بديع.
قال صاحب الهاتف الكلاسيكي. مدخن السيجارة جذب نفسا أخيرا، ثم رمى المتبقي من نهايتها بحركة فنية بديعة صوب مجرى الماء في الخارج.
-وجهة نظر، أعني من هذه الزاوية قد يبدو الجو بديعا فعلا؛ ربما العالم بأجمعه رغم بؤسه، قد يتبدى في هذه اللحظة بديعا وقابلا للحياة.
قال مدخن السيجارة ذلك، وهو يواصل تحديقه في الشوارع الخالية من المارة والسيارات، عدا قلة من الناس تُرى مهرولة بين الفينة والأخرى، هناك عند الدروب التي تقود إلى الحواري الداخلية لهذا المكان.
سعيد أنا الآن، لأن هذه الحالة؛ هذا المطر يفصلني تماما عن كل شيء ويحولني إلى مجرد نسمة هواء، إلى هذا الرذاذ اللطيف وتلك السحب الخفيفة الراحلة بعيدا.
قال صاحب الهاتف الكلاسيكي ذلك، والتفت باسما نحو صاحب السيجارة، الذي ضحك في سخرية وهو يسأله:
الأخ شاعر أم من أنصار الكيف؟
بجدية أجابه صاحب الهاتف الكلاسيكي:
-لا، أنا رجل يحب الهدوء فقط، الهدوء المشابه لهذه اللحظة المشتركة بيننا الآن، ذلك الهدوء الذي تراه في سينما نهاية العالم، حيث كل شيء يعود إلى الطبيعة ولا يتبقى سوى الصمت المختنق بأصداء التكون الآني.
أشعل صاحب السيجارة سيجارة أخرى وجذب نفسا عميقا ثم نفث دخانها في وجه صاحب الهاتف الكلاسيكي، وقال له:
-تكون مثل هذا تقصد، هذا تكون آني، لحظوي، سيموت في أوانه.. هل بإمكانك القبض عليها، أعني حلقات الدخان التي تغشى خياشمك الآن.
-تعرف أنت وقح، وربما تتسم بسلوك بذيء، ومن الجائز جدا أن وجودك هنا في هذا المكان وهذا التوقيت عند المطر لا يعدو أن يكون مجرد خاطرة شيطانية موبوءة بالخسارة.. أنت غير موجود. نعم، غير موجود.
قال صاحب الهاتف الكلاسيكي ذلك، ثم عدل من وضعية جلسته حتى يتيح لعينيه مدى أوسع للرؤية في الفضاء المطري الذي يتشكل أمامه. صاحب السيجارة، أعاد الحركة الفنية البديعة ورمى بعقب السيجارة الثانية. قال للآخر وهو ينهض:
نعم أنا مجرد خاطرة دخانية عابثة تتبخر الآن.
أخذ صاحب الهاتف الكلاسيكي يعبث بأزرار قميصه المبتل بينما مضى صاحب السيجارة موغلا في الوحل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى