الرأي

ثُنائيَّة الدّين والدّولة في السودان: هل “فَكَّت” اتفاقيات جوبا وأديس أبابا طَلاَسِم هذه العلاقة؟ (1-2)

عبدالخالق شايب
قسّمت مكانة الدين في دولة السودان “البلاد” منذ استقلالها. وفي سبتمبر الأخير، وافقت الحكومة الانتقالية على الفصل بين الدّين والدّولة في محاولة لإنهاء الخلاف المستمر منذ عقود. على خلفية إخفاقات الدساتير السابقة في الاعتراف بالتنوع في السودان ومعالجته بشكل مناسب، تدرس هذه الورقة تأثير اتفاقيات جوبا وأديس أبابا الأخيرة في جهود البلاد لبناء دولة ديمقراطية مدنية والتحديات القائمة أمام إرساء دعائمها.
مقدمة
ظل جدل الدّين والدّولة في السودان وتحديد دور الشريعة الإسلامية في مجال التشريع وتنظيم المجتمع بوجه خاص أحْجِيّة تؤرِّق السياسيين والنخب السودانية على حد سواء منذ الاستقلال. لقد أضحى إيجاد تعريف لهذه العلاقة الجَدَلِيَّةِ في دساتير السودان المختلفة واحداً من أكثر القضايا الخلافية بين شمال السودان وجنوبه قبل الانفصال، وأضحت بعد الانفصال ــ دون منازع ــ النقطة الخلافية الأكثر جدلاً “بين الحركات المسلحة ونظام البشير حتى سقوطه” بوصفها مسألة عالقة لابد من إيجاد صيغة لها إذا أراد السودانيون بناء دولة قائمة على أساس المواطنة دون فرض هوية عربية إسلامية، ودون تمييز أو إقصاء في دولة كالسودان متعددة الأديان والأعراق والثقافات.
إن اتفاق السلام الذي وُقّع يوم 3 أكتوبر2020 في جوبا عاصمة جنوب السودان “اتفاق سلام جوبا”، بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية ــ وهو تحالف عريض من الحركات المسلحة وغيرها من القوى ــ وحركة تحرير السودان جناح مني مناوي، بحضور كل من رئيس جنوب السودان سلفا كير، ورئيسي مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليان في السودان عبد الفتاح البرهان وعبدالله حمدوك، حاول رسم خطوط عريضة لتعريف العلاقة بين الدّين والدّولة في سودان ما بعد الاستقلال. وربما يشكل ذلك إطاراً عاماً للحوار الذكي حول هذه المسألة المعقّدة والتي يجب التوافق على الأسس المعرفية التي تضبطها.
المواطنة كأساس للحقوق والواجبات في اتفاق سلام جوبا
جاء اتفاق سلام جوبا في إطار شامل لمعالجة القضايا الأساسية لأزمات السودان في دارفور والمنطقتين “جنوب كردفان والنيل الأزرق” والمناطق المهمشة الأخرى، وذلك في شكل عدة بروتوكولات تفصيلية. إن اتفاق سلام جوبا هو ثمرة عمل دؤوب دام قرابة عام واحد في جوبا بين مكونات الحكومة الانتقالية وحركات الكفاح المسلح. يمكن النظر إلى اتفاق سلام جوبا ــ دون شك ــ كخطوة في الاتجاه الصحيح، لكن يبقى التحدي الماثل لكافة القوى السياسية والاجتماعية لإيجاد سلام حقيقي في السودان؛ هو كيفية بناء دولة حديثة ديمقراطية تحترم تنوع الشعب السوداني، ولا تميز بينهم على أساس العرق، أو القبيلة، أو الدين، أو النوع، أو الجنس، أو الأصل. وذلك ربما لا يتأتى دون تقوية المؤسسات القائمة كضرورة ملحّة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة على البقاء والاكتفاء الذاتي.
كانت العلاقة بين الدّين والدّولة حاضرة بشكل ملفت في نصوص اتفاق سلام جوبا وبروتوكلاته المختلفة، وإنْ كان ذلك بدرجات متفاوتة ودون إشارة صريحة إلى العلمانية “التي عادة ما يربطها عامة السودانيون بالإلحاد”. حيث أشار الاتفاق إلى الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدّين في السياسة واحترام الحريات الدينية، ونصّ على أن المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات دون تمييز بين الأشخاص على أساس العرق، أو القبيلة، أو الدين، أو النوع، أو الجنس، أو الأصل، دون أن يحول ذلك من وجود قوانين أو برامج أو أنشطة تهدف إلى تحسين أحوال من تعرض للحرمان من الأفراد أو الجماعات بسبب عنصره، أو لونه، أو دينه، أو أصله الإقليمي، أو القومي. ونصت الاتفاقيات كذلك على أن تقف الدّولة على مسافة متساوية من الأديان والثقافات دون أي انحياز إثني أو ديني أو ثقافي. وأخيراً، في جنوب كردفان والنيل الأزرق، نص الاتفاق على منح المنطقتين صيغة حكم ذاتي حددت من خلالها اختصاصات السلطات المحلية والفيدرالية، بما في ذلك سن القوانين والتشريعات التي أُتفق على أن تستند لدستور 1974 “الذي كان أقرب ما يكون إلى العلمانية بحسب رأي البعض”، إضافة إلى إنشاء مفوضية قومية للحريات الدينية لحماية حقوق المسيحيين والأقليات الأخرى.
اتفاق أديس أبابا يعزز مبدأ “فصل الدّين عن الدّولة”
لم يضم اتفاق سلام جوبا حركات ذات ثقل كبير على الأرض، أبرزها الحركة الشعبية شمال جناح عبد العزيز الحلو “التي تعثرت المفاوضات معها خلال الفترة الماضية والتي تطالب بعلمانية الدولة”، إضافة إلى حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور “التي رفضت الانضمام لمنبر جوبا والذي لا ترى أنه يخاطب جذور الأزمة في السودان”. إلا أن غياب الحلو عن اتفاق سلام جوبا لم يمنعه من التوقيع في 3 سبتمبر 2020 على اتفاق مشترك “اتفاق أديس أبابا” بالعاصمة الإثيوبية مع رئيس الوزراء السوداني الدكتور عبد الله حمدوك، والذي نَصَّ بشكل صريح على وجوب فصل الدّين عن الدّولة. لقد نَصَّ اتفاق أديس أبابا في أحد أهم بنوده على إقامة دولة ديمقراطية في السودان وعلى أن يقوم الدستور على مبدأ “فصل الدّين عن الدّولة” وأنه يجب ــ في حال غياب هذا المبدأ ــ احترام حق تقرير المصير في منطقتي النيل الأزرق وجبال النوبة. كما نَصَّ اتفاق أديس أبابا على أن حرية المعتقد والعبادة والممارسة الدينية مكفولة بالكامل لجميع المواطنين السودانيين، وألا يجوز للدولة اعتماد دين رسمي ولا يجوز التمييز بين المواطنين على أساس دينهم.

إن الاختلاف الجوهري بين اتفاق سلام جوبا واتفاق أديس أبابا يكمن في أن الأخير عَبَّر عن أحد أهم ثوابت الحركة الشعبية التي يقودها عبد العزيز الحلو، المتمثلة في ضرورة فصل الدّين عن الدّولة لكي يصبح السودان دولة ديمقراطية تكرس حقوق المواطنين. وربما هذا يفسر لماذا لم يتمكن الحلو من الوصول إلى اتفاق نهائي حتى الآن مع حكومة الدكتور عبد الله حمدوك، الذي يرى في فصل الدّين عن الدّولة شرط مُسَبَّق قبل الانضمام إلى ركب السلام أسوة بالحركات المسلحة الأخرى.
الفصل بين الدّين والدّولة في تجارب السودان الدستورية منذ الاستقلال
جزء من فك لغز ثُنائيَّة الدّين والدّولة في السودان؛ يكمن في معرفة العلاقة بين الأديان المختلفة فيه، وتحديدا المسيحية والإسلام. لقد شكل الجدل حول الدّين أساس العلاقة بين شمال السودان ــ ذو الأغلبية المسلمة ــ وجنوبه ــ ذو الأغلبية المسيحية ــ حتى الانفصال في 2011، حيث ارتبط بشكل وثيق برؤية الأحزاب التقليدية والطائفية لمفهوم الدولة وطبيعتها. لا عجب إذاً أنَّ النخب السياسية الشمالية ــ ذات المرجعية الطائفية الدينية ــ ظلت تدافع باستماته عن الشريعة منذ الاستقلال، إلى أن نجحت في تطبيقها في عام 1983 فيما عرف بقوانين سبتمبر. إلا أن ذلك لم يكن الحال بعد أن نال السودان استقلاله في عام 1956.  إذ خلا دستور السودان المؤقت لسنة 1956 من أي إشارة للدّين. حاولت الجمعيات التأسيسية المنتخبة بعد 1956 لصياغة دستور دائم للبلاد من إقرار مسودة دستور “مشروع مسودة دستور 1968″ تنص على أن السودان جمهورية اشتراكية برلمانية ديمقراطية تقوم على هدي الإسلام، والدّين الرسمي للدولة هو الإسلام و”العربية” لغتها الرسمية، إلا أن الجمعية التأسيسية في تلك الفترة لم تنجح في مراجعة مسودة مشروع الدستور بسبب الصراعات التي نشأت داخلها، وانسحاب عدد من أعضائها “من بينهم النواب المسيحيون”. وحتى حل الجمعية التأسيسية في يوم 25 مايو 1969 بسبب قيام ثورة مايو بقيادة جعفر نميري لم تتمكن من التوافق حول مشروع دستور دائم للسودان.
في عهد نميري، عمل دستور عام 1973 على إدخال نص يؤسس الإسلام كدين الأغلبية لأول مرة مع اعترافه بالدين المسيحي أيضاً كدين لعدد كبير من المواطنين، كما نُص على أن تعامل الدولة معتنقي الديانات وأصحاب كريم المعتقدات الروحية دونما تمييز بينهم فيما يخص حقوقهم وحرياتهم المكفولة لهم. هذا النص التوافقي جاء ليترجم بنود اتفاقية أديس أبابا للسلام التي تم التوقيع عليها في 27 فبراير 1972 بالعاصمة الإثيوبية بين نظام الرئيس جعفر نميري وحركة تحرير السودان لإنهاء الحرب الأهلية السودانية. تم النص لأول مرة أيضاً في دستور 1973 على أن الشريعة الإسلامية والعرف مصدران رئيسيان للتشريع بينما الأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم. وفي عام 1983، ارتد نظام النميري على اتفاقية أديس أبابا للسلام بتعديلها، وفرض لأول مرة عقوبات حدّية وإسلامية، وأحدث تغييرات جوهرية أخرى في النظام القانوني فيما كان يعرف بقوانين سبتمبر “قوانين الشريعة الإسلامية”. فمثلاً صاحب استحداث العقوبات الحدية في قانون العقوبات لسنة 1983 منح القضاة سلطة تطبيق العقوبات الإسلامية حتّى وإن لم يكن منصوصاً عليها. كما تم استحداث قانون جديد عرف باسم قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983 منح القضاة صلاحية تطبيق ما يجدونه من حكم شرعي ثابت بنصوص الكتاب والسنة، فإن لم يجد القاضي نصاً يجتهد ويهتدي في سبيل ذلك بعدة مبادئ “أولها الإجماع والقياس”.  كما نَصَّ قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983 على أنه في المسائل التي لا يحكمها أي نص تشريعي تطبق المحاكم الشريعة الإسلامية والمبادئ التي اسـتقرت قضاءً في السودان. ولم يكن قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 بعيداً عن تلك الصبغة الإسلامية التي اجتاحت القوانين في السودان، حيث نَصَّ على أن تسترشد المحاكم في تطبيق أحكامه وتفسيره وفـي حـالات غياب النص بالمبادئ الشرعية وتتبع القواعد المنصوص عليها في قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983.
شرع نميري بعدها في 1984 باقتراح مشروع تعديلات دستورية واسعة على دستور سنة 1973 لإعلان السودان “جمهورية إسلامية” (المادة 1 من مشروع التعديلات)، وأن يكون رئيس الجمهورية “قائداً للمؤمنين ورأس الدولة وإمامها” (المادة 80 من مشروع التعديلات)، وأن تكون مصادر الشريعة؛ هي الشريعة والعرف الذي لا يتعارض معها (المادة 59 من مشروع التعديلات). ثم جاء دستور 1998 ليُعَظِم من التأسيس الديني باستحداث نص حول “طبيعة الدولة”، حيث نُص على أن الحاكمية في الدولة لله خالق البشر (المادة 4). كما نَصَّ أيضاً على عدم جواز سن قانون يتعارض مع الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة (المادة 65)، حيث استبعد النص بذلك غير المسلمون بالترسيخ لهيمنة الدولة الدينية على مفاصل الحياة العامة.
وبعدها وحتى توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام سنة 2005 بين نظام البشير وجون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، كانت الشريعة ــ ومسألة تطبيقها على غير المسلمين ــ مسألة غير قابلة للتفاوض في محادثات السلام. وبعد اتفاقية السلام وصياغة دستور سنة 2005، قدم الشمال تنازلات بشأن هذه القضية في دستور سنة 2005 الانتقالي، والتي كانت نتيجتها عدم تطبيق الشريعة في الولايات الجنوبية، وعدم إخضاع الجنوبيين الذين يعيشون في الشمال لأحكام الشريعة، مما خلق فيدرالية إسلامية عملت على تجزئة السودان على أسس دينية، ممهدةً الطريق بذلك إلى انفصال الجنوب في 2011.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى