الرأي

ثورة أم إدمان للغضب في عالم ما بعد الحقيقة

إدمان الغضب أصبح أحد أهم المفاهيم في تفسير السلوك السياسي للأفراد والجماعات ووسائل الإعلام على حد سواء في مجتمعات ما بعد الحقيقة، ربما يجب التوقف قليلا ً لشرح ماذا نعني بمجتمع ما بعد الحقيقة وهو ما يتطلب الوقوف عند مصطلح ما بعد الحداثة أولاً، عالم بعد الحداثة قام على فرضية فلسفية مناقضة لفرضيات الحداثة، أي أنه لا يوجد صحيح مطلق أو حقيقة مطلقة تنطبق على كل زمان ومكان وسياق. وما بعد الحداثة كمشروع ثقافي فلسفي بتجليات اجتماعية وسياسية لا يرفض وجوداً للحقيقة العلمية  أو الاجتماعية ولكنه يرفض عالميتها وصحتها في كل سياق. أما مجتمع ما بعد الحقيقة فيقصد به الإستراتيجية التي تتبعها وسائل الإعلام التقليدية من تلفزيون وراديو ولاحقاً شبكات التواصل الاجتماعي في تفسير مدلولات الحقائق العلمية والسياسية عبر تحويلها من حقائق مجردة إلى حقائق اجتماعية شغالة. الحقائق المجردة وحدها لا تحمل معنى يحفز على الفعل، فحري عن القول إن الحقيقة في جوهرها هي صناعة اجتماعية ولكي يصبح للحقيقة مدلول يحفز على الإقناع  أو الفعل مثل انتخاب حزب ما أو الخروج للتظاهر لابد من منحها معنىً اجتماعياً يحولها إلى حقيقة شغالة، وتتم صناعة المعنى وفق المعادلة الآتية: حقيقة + خلاصة = قصة،  هو ما تتلاعب به وسائل الإعلام. وفي ظل واقع بالغ التعقيد تتعد فيه أوجه الحقيقة فإن الزاوية والطريقة التي تختار أن تغطي بها وسائل الإعلام حدثاً ما لا محالة ستؤثر على فهم ومن ثم ردة فعل المتلقي، وهذا القرار هو ما دفع بالعديد من المحللين والباحثين بوصف هذه الحالة بمجتمع ما بعد الحقيقة. أعتقد أننا الآن على وشك الولوج إلى عالم ما بعد الحقيقة الذي سيقوم على اختيار الحقائق التي تسند رؤية بعينها والتغافل عنوة عن بقية الحقائق أو مدلولاتها.
في عالم أو مجتمع ما بعد الحقيقة إدمان الغضب صار هو المحرك الأساسي للسلوك السياسي للكثير من الناس خصوصاً القواعد الحزبية للتيارات المؤدلجة التي قد حسمت تفسيرها لأي ظرف اجتماعي وفق نسق فكري محدد، ولا استعداد لها في قبول تفسيرات أخرى بمنطق مغاير. وحتى نقرب الصورة بإعطاء مثال فهنا في أمريكا يوجد تيار من المحافظين يقوده الحزب الجمهوري وتتحالف معه مجموعة من الأجهزة الإعلامية، من محطات تلفزيونية وبعض محطات الراديو وجل قاعدة هذا الحزب تؤمن بأن تدخل الدولة في الاقتصاد وفي تقديم خدمات اجتماعية وفي تنظيم المجتمع شر أصم وبداية للتسلط وأن هذه التدخلات تقف ضد مبدأ الحريات الفردية، وتعتقد هذه الأيديولوجيا أن حل جميع المشاكل الاجتماعية يجب أن يبدأ بالمسؤولية الفردية وعليه أن الفقراء مسؤولون بالأساس عن فقرهم وأن أي مساعدات تقدمها الدولة ستساهم في التعود على البطالة، طبعاً الإيمان بمثل هذه القناعات بشكل عقدي يجعل من الصعب تقبل فكرة أن الناس لا يختارون الفقر كنمط حياة، بل هنالك ظروف اجتماعية معقدة تخلق وضعية الفقر والغنى بما فيها اجتهاد وقدرات الفرد نفسه. مثل هذا التكلس والتحجر هو موقف أيديولوجي وتعمل أدوات الإعلام في عالم ما بعد الحقيقة في دعمه بحجج تبدو وكأنها موضوعية وعلمية ولا تأخذ في الاعتبار أي طرق أخرى لفهم وتفسير ذات الحقائق الاجتماعية، والنتيجة طبعاً هي أن يكون هنالك جمهور عريض في حالة غضب دائم تجاه اي رؤية مغايرة أو تفسير مغاير لهذه الأوضاع الاجتماعية. وفي وصف هذه الظاهرة كتب جيفري بيري وسارا سبيراج  Jeffery Berry & Sarah Soieraj  مقالاً في عام 2014  في مجلة البولتيكو  تحت عنوان: هل الأمريكان مدمنون للغضب؟ وفي هذا المقال تتبع الكاتبان كيفية تصاعد وتيرة الحدة السياسية من قبل التيار المحافظ ممثلاً في الحزب الجمهوري سياسياً والتيار الليبرالي ممثلاً في الحزب الديمقراطي، وخلصا في مقالهما إلى أن مثل هذه الحدة برغم أنها غير مقبولة بواسطة غالبية الناس إلا أنها تساعد في رفع معدلات مشاهدة القنواتن كما تساهم بشكل كبير في تحريك القواعد الحزبية بالتبرع بالمال ثم بالتصويت، الامر الذي يتطلب غبقاء هذه القواعد غاضبة على الدوام. ومن بعد ذلك المقال تتالت الكتابات عن الظاهرة في العديد من الصحف والدوريات، وفي عام 2018 أصدر قلين بيك  Glen Beck  كتابه الذي تربع على قائمة أعلى المبيعات في صحيفة النيويوك تايمز لأكثر من عام تحت عنوان Addicted to Outrage: How Thinking Like a Recovering Addict Can Heal the Country   ومنذ ذلك الزمان أصبح مصطلح إدمان الغضب من ضمن المصطلحات الشائعة لدى المحللين والمعلقين في فهم وتفسير الكثير من الظواهر التي تتعلق بالسلوك السياسي للأفراد والجماعات بما فيها تصويت البعض ضد مصالحهم.
في شرح معنى إدمان الغضب كتبت دكتورة تيري ابتر  Terri Apter في الصحيفة الإلكترونية علم النفس اليوم أن الغضب (والزعل) يعتبر أحد المشاعر التي تتغذى على نفسها ويمكنها أن تصبح فعالة، ويختلف الغضب عن الزعل في أن الأخير يرتبط بما هو خاص، أما الغضب فيتطور إلى مرحلة الفعل الجماعي، الزعل تعبير عن عدم الرضا بما يحدث في الخاص ويمكن أن يتحول إلى غضب في الشأن العام. وأهم ما يميز الغضب كعاطفة إنسانية هو خلق نزعات نرجسية تبدأ من اعتقاد الفرد بأن بوصلته الاخلاقية تختلف عن بقية الناس، مما يجعله قادراً على اتخاذ مواقف أكثر صلابة وتطرفاً تجاه ما يدور حوله، ولمدمني الغضب كل شيء جذري ومبدئي حتى وإن كان الأمر  يتعلق بالوسائل و ليس الغايات. وينتهي الغضب بمدمنيه إلى الاعتقاد بالتفوق الأخلاقي كما يمنحهم رخصة للتخلص من الإحساس بالذنب والخجل، وفي مراحل متقدمة يتسلل الغضب إلى تشكيل هوية مشتركة للأفراد. ففي ظل عالم مفتوح للتواصل يستطيع الغاضبون التواصل والتماهي في هوية مشتركة تبدأ بنحن الصواب أصحاب الضمير ضد الآخرين الذين لا يشاركوننا هذا الغضب لأنهم أضعف أخلاقياً.
ما يعنينا في هذا الشأن هو أن تغيير الواقع يتطلب رفضه، وهذا الرفض بداهة سيتحول تدريجياً إلى زعل ومن ثم إلى غضب، وليس كل الغضب مضر وغير مفيد بل العكس الغضب من أهم العواطف التي يمكن أن تحس الإنسان على التحرك والعمل على تغيير واقعه. الخطورة تكمن في معرفة الوجهة التي يجب أن ينصب فيها الفعل والكيفية التي يجب أن يترجم بها هذا الغضب إلى فعل إيجابي له معنى وهدف محدد وواضح. المتابع للفضاء العام في بلادنا يكاد يتلمس بدايات واضحة لتشكل  ظاهرة إدمان الغضب وفق نفس التصورات التي يتم إسقاطها على الواقع بشيء من النرجسية والإحساس بالتفوق الأخلاقي. هذا لا يعني أنه ليس هنالك ما يغضب بل العكس فهذه البلاد مازالت تنزف إلى درجة تحول فيها الموت إلى مجرد أمر عابر مثله مثل شرب الشاي، وفي هذه البلاد يعاني الناس من شح وندرة في أبسط مقومات الحياة، وفي هذه البلاد يموت الناس لغياب أبسط الخدمات الصحية، كل هذه  أسباب موضوعية للغضب ولرفض الواقع الذي يزداد إظلاماً في نظر الكثيرين برغم بريق آمال حراك ديسمبر المجيد. المؤسف هو أن هذا الغضب غير الموجه في المكان الصحيح سيتحول إلى طاقة سلبية تعطي اصحابها شيئاً من اليقين في تفسيرهم لما يحدث. ودون اجترار هذه الحكومة واجهت تحديات جسام على رأسها أنها ورثت ركاماً متهالكاً لجهاز الدولة وتصور افتراضي لدولة غير موجودة، وبنفس القدر أن هذه الحكومة اتخذت بعض القرارات غير المدروسة جيداً وتباطأت في اتخاذ العديد من القرارات المهمة. في أمر السياسات العامة يمكن أن يتفق الناس او يختلفوا على مدى صحة اي سياسة وفق الهدف المطلوب من السياسة وآليات تطبيقها ونتائجها الكلية أو حتى الاختلاف في تعريف المشكلة، أما أن يصل الأمر للمستوى الذي يعتقد فيه أي طرف بمدى قدسية وصحة موقفه إلى درجة التخوين والوصف بالعمالة أو الاتهامات الجزافية فهو بعينه ما عنينا بتجليات إدمان الغضب. الفضاء مليء بالنرجسية الناتجة من اليقين بالصواب والإحساس بالتفوق الأخلاقي الذي يترجم في موقف متشدد من كل من يرى الأمور بشكل مختلف، والمرحلة الأسوأ هي عندما يصبح هذه الغضب هو المشكل لهوية قطاعات عريضة من الناس لا يجمعهم شيء سوى الإدمان غير المرئي. وقد يأتي اليوم الذي يجد الغاضبون أنفسهم في نفس مربع الغضب حتى وإن اختلفت الموازنات السياسية، فسيكولوجية الغضب لا ترتبط بأمور مبدئية، كما يبدو بل هذه السيكولوجية تغذي نفسها وتخلق شروط استدامتها.
خلاصة القول ليس هنالك غضاضة في النقد الموضوعي لأداء الحكومة الانتقالية وتحالفها، إلا أن التطرف في أمور خلافية تتعلق بما هو نسبي سواء في أمر الموقف من السياسة الاقتصادية أو في فهم القصور المؤسسية لجهاز الدولة، وضعف الخدمة المدنية والأجهزة العدلية أو الموقف من تفسير علمانية الدولة لا يعطي فرصة لترجمة رفض الواقع والغضب الناتج منه إلى فعل إيجابي بوجهة واضحة، بقدر ما ينتج حالة من إدمان الغضب والإحساس بالتفوق الأخلاقي في سياق معقد ليس فيه منتصر. فالكل يجلس في إحدى أطراف هذا الركام، ربما الأصلح للفاعلين التخلص من نبرة التفوق الأخلاقي، فالغضب لا يمكن أن يبني صرحاً أو يصنع حلماً، أما الوسيلة للخروج من هذه الدائرة الصفرية هي التفكير النقدي الذي يُمكّن من رؤية الحقائق الاجتماعية من منظور كلي لا يحتمل أي من أوجه اليقين التام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى