الرأي

تمام يا عبد التام (كم أنت مرهفة وجميلة)

يحيي فضل الله
عادة ما يخاطب عبد التام زوجته بعربية رصينة مستغلاً مرجعية تخص زوجته نور الشام حالة كونها تعمل مدرسة عربي بالمدرسة الثانوية العامة وذلك حتى يؤسس أرضية للنقاش، تمكنه من الحصول على تكاليف قعدته الشبه يومية مع شلة العزابة وهذه التكاليف عادة ما يدبر أمر توفيرها من راتبه الخاص كـ(عرضحالجي) في محكمة المجلس البلدي، وبعض ما يجود به الأصدقاء الكثيرون فعبد التام تحبه المجالس والقعدات.
نور الشام وباستراتيجية صارمة صارت تقبض يدها عن عبد التام بعد أن توغل عبد التام حتى وصل مرتبها الأساسي وما تكسبه من بعض الدروس الخصوصية، كما أن كل هذه الصرامة والحرب الاقتصادية وراءها هدف أساسي هو أن يتوقف عبدالتام عن مجالسته لشلة العزابة ولنور الشام مع شلة العزابة مشاكل ومشاكل أهمها أنهم جيران الحيطة بالحيطة، قاتلت نور الشام قتالاً مريراً وملحاً ضد العزابة حد أنها امتنعت عن إرسال صينية العشاء عبر الحائط ليستلمها عبد التام، كان عبد التام عادة حين يستلم صينية العشاء من نور الشام يسرب عبر صوته شحنة عواطف موحية قائلاً (تسلمي يا جميلة)، امتنعت نور الشام عن إرسال صينية عشاء العزابة بعد أن اكتشفت أن الصينية والصحون الفارغة كانت في بيت (حوة رنقو) ست العرقي، حاول عبد التام الاعتذار عن ما حدث ولكن نور الشام كانت حازمة فمنعته من الذهاب إلى شلة أنسه ولكنها فشلت في الاستمرار في ذلك، لأن عبد التام أصبح يضع سريره ملاصقاً للحائط ويضع أمامه على تربيزة صغيرة الكأس والباقة وعلبة البرنجي وكيس التمباك ويمارس طقوس سهرته مع شلة العزابة وهم في الجانب الآخر من الحائط، واستمر هذا الحال على ما هو عليه لمدى ليلتين ونور الشام تتابع زوجها يساهر مع العزابة عبر الصوت فقط ورأته يرقص ويغني حين هم على الجانب الآخر من الحائط يفعلون ذلك، رأته وهو يواجه الحائط وظهره يواجهها وهي ترقد مسترخية التوتر على سريرها في البرندة، رأته يدخل في نوبة حكاياته المستمدة من مخزونه ككاتب عرضحالات وكانت نور الشام تستمع لحكايات زوجها المحروم وهو يحكي وكأنه يرى شلة أنسه عبر الحائط، كما أنها لاحظت أنه أصبح لا يهتم بوجودها حين سمعته يتفوه ببعض العبارات البذيئة. كان عبد التام في تلك الليلتين يبدأ أولاً بنسف الحائط وحين يتوغل في عملية النسف هذي يستطيع بعدها فعلاً أن ينسف وجود نور الشام معه في البيت فتصبح كشئ مهمل وملقي في ركن منسي من البيت وفي ذاكرة عبد التام، الأمر الذي أقلقها أكثر من مشكلة علاقة عبد التام بالعزابة لذلك في الليلة الثانية، الليلة التي كانت فيها يأتيه كأسه طائراً عبر الحائط ويعود فارغاً عبر الحائط أيضاً، قررت نور الشام أن تعيد الأمور إلى ماكانت عليه خاصة حين قارنت بين زوجها العائد من سهرته مع العزابة وزوجها المساهر مع العزابة عبر الحائط، وهو في بيته ففضلته عائداً فكان أن عاد عبد التام منتصراً إلى طقوس سهرته مع شلة أنسه مع عدم الدعم المالي وإرسال صينية العشاء عبر الحائط.
قبل يوم من وقفة عيد الأضحى ساعد عبد التام وبهمة عالية نور الشام في نظافة البيت خاصة غرفتي سوسن وحسين اللذان سيقضيان إجازة العيد معهم، سوسن تدرس في كلية التربية وحسين يدرس الاقتصاد وقبل المغرب بقليل قرر عبد التام أن يستغل فرحة نور الشام بعودة الأولاد بعد إظهار همته في كل التفاصيل، أهمها الحصول على خروف العيد وهذا الأمر جعله خالي الوفاض لا يملك حق المساهمة في تفاصيل قعدة شلة الأنس ومن باب حرصه المفتعل مستغلاً إزعاج صوت الخروف بدأ الدخول في مخططه
(تعرفي يا نور، الخروف ده بي صوته القبيح ده حيرجع ليك الصداع، تذكري خروف السنة الفاتت مش بوظ ليك العيد وخلاك راقده بي صداع من يوم الوقفة لحدي تالت يوم في العيد، أقول ليك حاجة يانور أنا الخروف ده حاربطوا في بيت العزابة).
وافقت نور الشام على فكرة عبد التام التي كان الهدف منها هو إقناع نور الشام بحرصه الشديد عليها تمهيداً للدخول في منطقة آمنة من نفسية نور الشام حتى يضمن لطلبه الصعب حد المغامرة أسباب القبول، وهكذا ما أن وافقت نور الشام على الفكرة هب عبد التام من إتكاءته وحل قيد الخروف وقاده فوراً إلى بيت العزابة.
قبيل المغرب بقليل وبعد أن مهد عبد التام لطلبه كل احتمالات القبول واستعان بألفاظ عتيقة من الغزل يساعده في ذلك السياق اللغوي القديم الذي يتحرك فيه ككاتب عرضحالات وأحياناً يلجأ إلى قاموس غنائي، هو أيضاً قاموس عتيق وعادة ما يلعب على هذا الوتر متأكداً من حب نور الشام للغزل. بعد أن تأكد عبد التام من محاصرته لنور الشام وهو يعرف مسبقاً أنها قبضت أجرها من الدروس الخصوصية هذا الصباح من أولاد محمدين الثلاثة، حين قرر عبد التام الدخول في الخطوة الأخيرة تحرك نحو الزير وشرب كوباً من الماء وملأ الكوب واتجه به إلى حيث نور الشام الممددة على السرير وهي تضع الحنة على قدميها، وضع عبد التواب كوب الماء على التربيزة التي أمام نور الشام وجلس على طرف من سريرها قائلاً:
(شنو يا جميل ما عندك لي أي عيدية)..
(لما يجي العيد أول)..
(هو صاح بكرة الوقفة، بس نحن معيدين قبل الناس، انتي ناسية انو سوسن وحسين حيصلوا بكره، يا نور الدنيا قبايل عيد أدينا خلينا نمشي نفرفش)..
(عبد التام أختاني يا خوي، أنت عارفني أنا حالفة ما أديك مليم للبتسميها فرفشة دي)..
(يانور يا بت الناس بقول ليك الدنيا قبايل عيد)..
(عيد ولا ما عيد، أنا بي يدي دي ما بديك مليم)..
(خلاص ما بي ايدك وما هو أنا شايف اليدين الجميلات ديل محننات، انتي بس قول لي القروش وين)..
ووجهت نور الشام نظرها نحو المخدة.
في الساعات الأولى من يوم الوقفة كان صوت الخروف يدخل في نسيج الأصوات المبتهجة حد الغناء والطرب والضحكات المنفلتة وكان عبد التام قد أمتع القعدة بحكايات وحكايات، وكان صوت الخروف حين يدخل في نسيج حكاياته يتوقف عن الحكي وينظر في اتجاه صوت الخروف القابع في زقاق ضيق أمام المطبخ شبه المهجور، ينظر في اتجاه الخروف قائلاً:
(المفارق عيونو قوية) وتوالت الكاسات على عبد التام وجاءته سيجارة خضراء بأنفاس وأنفاس وتفتحت ذاكرته واحتشدت بالشخصيات وكل ذلك وهو يتقاطع مع صوت الخروف، وكانت هنالك حلة على المنقد القريب من موقع القعدة وكان الشباب يجهزون السلطات والقعدة دخلت في الطشاشات وتشابهت على البعض الكاسات وصوت الخروف، أصبح عبد التام لا يرد عليه وكان صوت الراديو يسرب أغنية ليس ذات بال، عبد التام توقف عن حكاياته وصمت فترة طويلة وحين تحولت القعدة إلى ثنائيات وتداخلت الأصوات في بعضها البعض وأصبح الكل في حاله- كل في بيدائه- انتبه الجميع لعبد التام وهو قادم من جهة المطبخ يحمل سكيناً في يده وفي اليد الأخرى يحمل فخذ الخروف يتقاطر منها الدم، عبد التام يلوح بفخذ الخروف مترنحاً وهو يقول:
(أهو يا شباب قلنا نطلع لينا حلة من الخروف ده) وكان صوت الخروف سريع التقاطعات هذه المرة فهو يصرخ من ألم ألم به من جراء قطع عبد التام فخذه، كان الخروف يصرخ من الألم وبعض الشباب تولى أمر سلخ تلك الفخذ، الوحيد الذي ذهب نحو المطبخ ليرى ما الذي حدث للخروف كان مسطولاً، نظر إلى الخروف الذي أصبح بثلاث قوائم وعاد منبهاً الجميع (يا أخوانا الخروف ده ما تتكلوهو بي عود).
بعد العاشرة صباحاً من يوم وقفة عيد الضحية أيقظت نور الشام عبد التام من النوم..
((يا راجل هوي أصحى من النوم، أنت ناسي الليلة الوقفة، وسوسن وحسين جايين وعندنا حاجات كتيرة دايرين نعملها، وبي المناسبة الخروف ده قاطع الحركة).

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى