الرأي

تكلفة الانفتاح الاقتصادي (النيوليبرال) على نمط الإنتاج التقليدي وضرورة استصحابه في عملية التحول


مبارك أردول
في البدء لابد أن نؤكد أن اقتصادنا بعد إسقاط نظام الإنقاذ يشهد تغييرات جذرية كبيرة، يمكن إجمالها في المجال الخارجي بفكه من العزلة الدولية المضروبة عليه لعقود من الزمان وإدماجه في الاقتصاد العالمي، وفك العزلة متمثلة في رفع اسم الدولة من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وثم عملية إعفائه من الديون الخارجية وإدخاله في منظومة أو مسار مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون ( Highly Indebted Poor Countries-HIPC) ، بالإضافة إلى بعض الإجراءات الداخلية والقرارات الاقتصادية متمثلة في اتباع سياسة توحيد سعر الصرف ورفع الدعم عن المحروقات وتحرير سوق الذهب وتعديل قانون الاستثمار، وكذلك اتخاذ القرارات السياسية التي أسهمت في الاستقرار السياسي نسبيا مثل التوصل لاتفاق سياسي يضمن مسار العملية السياسية في البلاد ويقود نحو الانتقال الديمقراطي بمسؤولية مشتركة بين المدنيين والعسكريين (أطلق عليه نموذج السودان)، ومن ثم التوقيع على اتفاقية السلام مع حركات الكفاح المسلح والتفاوض مع المتبقية، كل هذه السياسات نتيجتها توليف النمط الاقتصادي المحلي ومطابقته مع ما هو موجود في الخارج، والمتاح أمامنا والمتداول هو الاقتصاد ذو الملامح النيوليبرالية والذي يقلل دور الدولة قدر الإمكان لصالح سياسة السوق الحر.

هذه الإجراءات كلها من شأنها أن تسهم بتغيرات كبيرة في اقتصاد البلاد وأنماطه، حيث البيئة الآن باتت مهيئة أكثر من أي وقت مضى لدخول الاستثمارات الأجنبية (Foreign Direct investments – FDIs)، وتعتبر سوقنا أرضا بكرا لها، هذه الاستثمارات سوف تدخل بلادنا لأول مرة وبشكل سوف يكون مختلفا عن ما مضى، وفي المجالات المختلفة والمتعددة سيما الموارد الطبيعية والزراعة بشقيها النباتي والحيواني والاتصالات والموانئ والتكنولوجيا والطيران والصناعات الغذائية وصناعة السينما وصناعة الرياضة وغيرها، ولما لهذه من فوائد يمكن مشاهدتها متمثلة في تطوير نمط الحياة وفتح فرص للعمل وتدريب العمالة المحلية وتطويرها وغيرها، إلا أنها لا تخلو من المسالب التي سوف تلقي بظلالها على قطاع عريض من المنتجين في الريف وخاصة المزارعين التقليديين والرعاة والمعدنين وغيرهم ممن ظلوا يمارسون نمط الإنتاج التقليدي.
دخول هذه الاستثمارات الأجنبية سيكون بلا شك خصما على الاستثمارات المحلية أيضا سيما القطاعات التقليدية، لذا تبرز الحاجة الملحة أمامنا اليوم لتنظيم وتطوير هذه القطاعات التقليدية لاستصحابها في عملية التحول لكيلا تخرج تدريجيا من السوق وتخرج إلينا ملايين من العطالة والمحرومين وحتى لا تكون عملية الانفتاح خصما عليهم، هذا بالإضافة لتحفيز رؤوس الأموال الوطنية وتمكينها من المنافسة.

إن النموذج الاقتصادي الذي نرى أنه يجب علينا اتباعه ضمن إجراءات أخرى هو تنظيم القطاعات التقليدية كخطوة ضرورية أولى بحصرها ومن ثم إصدار وتحديث التشريعات التي تضمن مصالح هذه الفئات وفي نفس الوقت لا تتأثر بها الاستثمارات الخارجية، مثل إصدار قوانين حيازة وملكية الأراضي وتضمين حزمة تحفيزات للشركات الأجنبية التي تكون ضمن مساهميها شركات محلية وحزم أكبر للشركات محلية الرأسمال، وغيرها من الإجراءات التي تضمن عدم إفقار المنتجين المحليين وتنزيحهم إلى قطاعات أكثر هامشية.
تحضرني – هنا- حادثة نقاش دار في الأسبوع المنصرم مع اتحاد مزارعي جنوب كردفان حيث ذكروا في معرض حديثهم معنا أن سياسات تحرير الوقود وعدم دعمه ستترتب عليها خسائر كبيرة في قطاع الزراعة المطرية سيما وأن جوال الذرة لا يكلف بيعه شراء جالون جازولين (غير مدعوم) لذلك إذا لم يجدوا حلا لهذه المشكلة فإن زراعتهم؛ بل كل مواسمها محتمة بالفشل، هذا ناهيك عن المطلوبات والتكاليف الأخرى من تقاوي ومبيدات التي تزيد من تكاليف الزراعة، وفي المستقبل القريب ستكون الزراعة للمقتدرين فقط، وأيضا في قطاع التعدين التقليدي في ظل سياسة الانفتاح تتقدم شركات كبرى عالمية لتمنح مربعات للتعدين وفي مختلف المعادن، فإذا ما استمرينا على هذا النهج نجد أنه بمرور الوقت ستتحول كل البلاد لمربعات مملوكة لها وسيطرد المعدنين التقليديين تباعا من أماكن وجودهم غير المقننة.

هنا تتبادر إليّ جملة من الخطوات الواجبة اتخاذها لمساعدتهم لتداركها قبل فوات الأوان، مثل قطاع التعدين التقليدي نجد إنه وبوجود وزارة المعادن بمؤسساتها المختلفة يمكن استصحاب هؤلاء المعدنين لمرحلة التنظيم والتطوير، سيما وأن البنية التحتية متوفرة ومرتبطة مع النظام العالمي.
ولكن قطاع الزراعة والرعي وهو الذي يعتمد عليه أغلب سكان ريف البلاد؛ فهو بحاجة لسياسة ممنهجة تستطيع تنظيمهم وتطويرهم بدءا ببورصة المحاصيل التي تمكن المنتج من وضع سعر مجزٍ لمنتوجه من المحاصيل ووفق قوانين البورصة وتقاليدها وحتى الصمغ وكذلك المواشي وغيرها، لكي لا يقع ضحية في أيدي كبار التجار أو تخرجه المجمعات الإنتاجية الضخمة التي ستثستمر في نفس قطاعه.
إننا ملزمون بأن نمكن صغار المنتجين والملاك ونطورهم بإدخال التقنيات والتكنولوجيا لتتوسع المساحات وكذلك تتنوع المنتجات وتكون قادرة على التنافس في السوقين المحلي والخارجي.
هذا فضلا عن إكمال كل المراحل الإنتاجية والتصنيعية لتصدير المنتجات بشكلها النهائي بدلا عن المواد الخام.
إنني بهذه المقالة أرى أنه في القريب العاجل سيتخذ اقتصادنا منحى مختلفا عن الذي كان سائدا في الفترات السابقة وهذا المنحى هو حتمي لا مفر منه، وكل من لا يواكب عجلة التغيرات ويستعد لها سوف يخرج تدريجيا من أن يكون من الفاعلين فيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى