الرأي

تغيير النظام أم تغيير مجرد أشخاص؟!

الحاج وراق

  • لا يزال تركيز الحكومة وقوى الحرية والتغيير منصباً بالأساس على تغيير الأشخاص بدلاً عن تغيير شامل، يطال بنية النظام: الثقافة المؤسسية ومناهج ونظم العمل والقوانين واللوائح، إضافة إلى تغيير القيادات.
  • ومن حيث الأهمية فإن تغيير البيئة المؤسسية له الأولوية على تغيير الأشخاص، وذلك ما تذهب إليه واحدة من أحدث نظريات الإدارة المسماة: رائحة المكان (the smell of the place)، والتي تؤكد بأن بيئة المؤسسة هي التي تحدد سلوك الأفراد، لا العكس. و كمثال فان إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب وإلغاء الحصانات الممنوحة لعناصر جهاز الأمن أهم في تغيير سلوك أفراده من مجرد إحلال زيد مكان عبيد!.
  • ويبدو ان بيروقراطية جهاز الدولة بحكم مصالحها وصراعاتها الصغيرة حول الكراسي تريد تركيز الإنتباه على تغيير الاشخاص، كي ترث الانقاذ بدلاً من أن تغير بنية نظامها.
  • فبعد مرور أكثر من عام على الحكومة المدنية، لم أطلع ولم أسمع بتغيير في النظم المحاسبية والمالية ولا في نظام الحوافز، اللتين أتاحتا أكبر عمليات نهب وهدر لموارد البلاد في تاريخها الحديث، مما يعني أنه لا يزال لمدير أي مصلحة حكومية أن يوزع (المظاريف) على نفسه وموظفيه فيما أسماه رئيس النظام المعزول ذاته بــ(النهب المصلح)!!.
  • وكان النظام المعزول يعتمد على آليتيين رئيسيتين متكاملتين للسيطرة والتحكم، أحدهما تمكين عناصره في قيادة مؤسسات الخدمة العامة بجهاز الدولة الرسمي، وفي ذات الوقت، ولعدم ثقته في أجهزة الدولة، فانه يعتمد الآلية الثانية، وهي بناء مؤسسات موازية (صافية) الولاء له، كالأمن الشعبي والدفاع الشعبي والشرطة الشعبية والقنوات والاذاعات والصحف الخاصة..إلخ.

وكي تتضافر هاتان الآليتان وتضمنان سيطرة التنظيم، حول غالب مؤسسات الدولة الرسمية إلى (مقطعيات) معزولة عن بعضها البعض، تديرها مجالس إدارات من المحازبين والمؤلفة قلوبهم لينعموا فيها بالامتيازات و(النهب المصلح)، ولا تتبع بصورة مؤسسية واضحة لوزراء محددين، وإنما لوزارة شؤون مجلس الوزراء أو رئاسة الجمهورية، مما يضعف المتابعة والمساءلة، ويعني عملياً إدارة هذه المؤسسسات عبر خلايا التنظيم والأمن الشعبى.

والآن، ورغم التغيير، لا تزال عشرات المؤسسات (مقطوعة) عن هيكل الدولة المؤسسى، وفيما كان التنظيم سابقاً يشكل العقل المركزي لهذه (المقطعيات) فانها حالياً بلا عقل موحد، فتخبط خبط عشواء، بلا تنسيق وبلا مساءلة نظامية.

  • وكذلك فيما يتعلق بالتناقض الرئيسي الذي أودى بالنظام المعزول، وهو تضخم الأجهزة الأمنية العسكرية بما يفوق قدرة الاقتصاد على تحمل أعبائها، خصوصاً بعد فقدان إيرادات النفط. وتلك مفارقة نظام شمولي حاول السيطرة على كل مناحي الحياة، بما في ذلك (خويصة) النفس، فبنى نموذج (الدولة العولاق)- الدولة متضخمة الوظيفة الأمنية والكفؤة في جز الرقاب لكن الضامرة والعاجزة عند تقديم الخدمات، فسقطت تحت ضغط تشوه بنيتها وعجزها.

والآن، تتصرف السلطات الانتقالية وكأنه يمكن حل الأزمة الاقتصادية الاجتماعية في إطار الدولة العولاق، وبدلاً عن اصلاح أمني عسكري، يشمل ضمن ما يشمل توحيد وتقليل حجم القوات وإخراجها من منافسة القطاع الخاص في السوق، لا تزال هذه الأجهزة تتمدد، وترغب في مزيد من التجنيد، بل وان حركات سلام موقعة على اتفاق سلام جوبا تجهد حالياً في استقطاب أٌناس عاديين ليس لهم سابق علاقة بها حتى تجندهم في صفوفها بإغراء ضمان وظائف في الأجهزة العسكرية الأمنية، مما يفاقم الصرف على هذه الأجهزة، خصماً على التنمية والخدمات، خصوصاً في مناطق الهامش، كما يفاقم كذلك معاناة الفقراء في كل أنحاء البلاد.

التوظيف في الأجهزة العسكرية حل سهل، لكنه على حساب الاقتصاد، وعلى حساب العاملين في الأجهزة الأمنية العسكرية نفسها لأنه سيؤدي في المدى القريب إلى تدهور مستوى معيشتهم بفعل تدهور الاقتصاد، هذا في حين الحل الصحيح، الذى يتطلب تخطيطاً وجهداً، تقليل حجم القوات، بناءً على معايير موضوعية وقومية، ومن ثم تمليك المسرحين مشاريع منتجة، من صندوق تمويل مخصوص لهذا الغرض، يوفرالتمويل السخي من الموارد المحلية والدولية، كما يقدم الدعم الفني والارشادي، بناء على دراسات متعمقة لأفضل المشاريع التي توفر للمسرحين معيشة كريمة..

  • والخلاصة: لا يمكن حل الأزمات التي أودت بالنظام المعزول في إطار بنية النظام نفسها- في إطار عقليته وسلوكه القيمي والمؤسسي والإداري. ان الثورات تنتصر حين تتحول قيمها إلى سلوك ومؤسسات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى