الرأي

تعليم ذوي الإعاقة (٣) : عبد الناصر سعيد قاهر المستحيل

جعفر خضر

يحتفي العالم باليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة، الذي يصادف ٣ ديسمبر من كل عام، ويحمل شعار هذا العام عبارة (إعادة البناء بشكل أفضل: نحو عالم شامل للإعاقة ويمكن الوصول إليه ومستدام بعد جائحة كوفيد – 19)
وقد تناولنا في المقالين السابقين معهد الأمل لتعليم الصم ومعهد النور لتعليم المكفوفين، سيعطي هذا المقال لمحة لتعليم ذوي الإعاقة الحركية.
حسب التعداد السكاني الخامس في السودان والذي تم في العام 2008، فقد بلغت نسبة الأشخاص ذوي الإعاقة (4.8%) من إجمالي عدد السكان. وبناء على هذه النسبة فإن عددهم الآن في السودان يزيد عن ٢ مليون نسمة.
والعدد في حقيقة الأمر أكثر من ذلك، إذا وضعنا في الاعتبار أن الأمم المتحدة ترى أن ما يقرب من 15 في المائة من نسبة سكان العالم يعانون من شكل من أشكال الإعاقة. وتتواجد نسبة 80 في المائة منهم في البلدان النامية.
وإذا وضعنا في الاعتبار الحرب الأهلية التي ظلت دائرة في السودان طوال عهدنا الوطني، لجزمنا أن عدد ذوي الإعاقة في السودان يفوق ال٢ مليون بكثير.
لا يوجد معهد خاص لتعليم ذوي الإعاقة الحركية. إنهم يتعلمون في المدارس العادية وهذا جيد، لكنه لا يعني أن ليس هنالك مشكلات تواجههم.
إن المدارس عموما بكل أنحاء البلاد غير مرحبة بذوي الإعاقة، لأن تشييد المدارس عادة لا يراعيهم .
إن جل هذه المدارس تفتقر إلى مزلقانات للكراسي المتحركة وتفتقر إلى المراحيض الملائمة. ونجد أن ولاية القضارف تعاني من شح المراحيض إذ أن هنالك معدل ٢.٥ عين لكل مدرسة حسب الكتاب الإحصائي التربوي للعام ٢٠١٩، مما يعني أن كثيرا من المدارس بلا مراحيض، ويمكن أن نستنتج أن نسبة المراحيض الملائمة لذوي الإعاقة الحركية تساوي صفر في المائة.
نتناول قضية ذوي الإعاقة الحركية من خلال مسيرة الأستاذ عبد الناصر سعيد الذي تغلب على كل الصعاب التي واجهته في صمود ومثابرة منقطعة النظير.
أصيب عبد الناصر، الذي يسكن حي أركويت بمدينة القضارف، بإعاقة حركية في طفولته الباكرة، اضطرته لاستعمال الكرسي المتحرك.
عندما بلغ سن التمدرس ألحقته أسرته بأقرب مدرسة، وهي مدرسة سواكن الأساسية بنين، التي تقع في الحي المجاور.
كان عبد الناصر يصل إلى المدرسة على عجلة ذوي إعاقة، محلية الصنع، مدفوعا بأصدقائه وزملائه، ولم يكن أي فصل من فصول المدرسة مهيأ لدخول العجلة، لذلك كان يدخل محمولا بأيدي زملائه الأطفال.
كم وقع عبد الناصر من عجلته أثناء حركته من أركويت إلى سواكن، أو أثناء مساعدته في دخول الفصل، ولكنه لم يتوقف عن عزمه في مواصلة تعليمه قط.
تنقل عبد الناصر من فصل لفصل، وكل الفصول سواء، ولم يفكر أحد في إجراء إصلاحات في مداخل الفصول، وهم يرون عبد الناصر ومعاناته أمام أعينهم؛ أو لعل بعضهم فكر وتعلل بضيق ذات اليد.
لم تكن مدرسة أبايو الثانوية بأحسن حالا من مدرسة الأساس، عتبات بعضها فوق بعض.
لكن الزملاء والأصدقاء كانوا أكثر قوة بحكم العمر، ولذا قلت مخاطر دخوله وخروجه من فصول المدرسة.
جلس عبد الناصر لامتحان الشهادة السودانية من مدرسة أبايو ضمن المساق العلمي، نجح ودخل كلية الحاسوب بجامعة القضارف. لكن أحد الأساتذة المسؤولين قرر أن عبد الناصر، بحكم إعاقته، غير قادر على الدراسة في كلية الحاسوب، واقترح تحويله إلى كلية مناسبة.
تقبل عبد الناصر كلام الدكتور، ظنا منه أن الدكتور بحكم علمه أدرى بالمصلحة والصواب، ولم يدر عبد الناصر وقتها أنه لم يكن دكتورا وإنما دكتاتورا!.
ولكن الدكتور تماطل في التحويل حتى انقضى السمستر الأول، فتقدم عبد الناصر باستقالته من الجامعة، وجلس لامتحان الشهادة السودانية مرة أخرى ولكن من منازلهم وفي المساق الأدبي، ليتفوق ويدخل كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بجامعة القضارف مرة أخرى.
ولم يكن حال قاعات الجامعة بأفضل من فصول الأساس والثانوي حيث تنعدم المزلقانات، وتستمر معاناة دخول القاعات والخروج منها، والتي ترهق ذوي الإعاقة إرهاقا نفسيا مضنيا.
تخرج عبد الناصر بدرجة البكالريوس من قسم العلوم السياسية في العام ٢٠١٣، ولا يزال عاطلا عن العمل حتى الآن، رغم أنه تقدم للوظيفة مرتين.
ولتنتبهوا للجملة القادمة!!
إن عبد الناصر طوال سنوات مرحلة الأساس الثماني، وسنوات الثانوي الثلاث، وسنوات جامعة القضارف الأربع – لم يستخدم حماما قط! لم يستخدم حماما في هذه المؤسسات التعليمية!!
كان دائما يشرب الماء بمقدار ويأكل بمقدار وفقا لحسابات يعرفها هو، ليقضي حاجته في بيتهم الكائن بحي أركويت!!
مع نهاية مرحلة الجامعة امتلك عبد الناصر كرسي كهربائي، وقد أحدث هذا الكرسي نقلة كبرى في حياته، فقد سهل حركته وانفتح على مجتمعه والعمل العام.
ابتدر فكرة صيانة مدرسة أركويت الأساسية في العام ٢٠١٤ في عهد مدير المدرسة الهمام الأستاذ محمد أحمد موسى، فتم توفير كراسي للمعلمين وصيانة الكنب والشبابيك والأبواب.
وعمل مع رفاقه شباب الحي على تصحيح أوضاع مؤسسات الحي ومحاربة الفساد، فووجه بحرب شعواء من أوكار الفساد!!
كون مع صديقه دكتور عبد الله حامد ورفاقهم مجموعة “قراءة من أجل التغيير” التي أثمرت “مبادرة الوعي أولا”، وكان عبد الناصر هو من اقترح اسم المبادرة.
نظم الشباب ورشة مكافحة المخدرات، وبنوا مسرحين في مدرستي الأولاد والبنات، وزينوا جدرانها بالرسومات والآيات القرآنية.
أصبح عبد الناصر سكرتير لجنة الخدمات والتغيير بحي أركويت التي بنت فصلا مسلحا ومكتبا في مدرسة الأولاد، وكان هو صاحب المبادرة.
وقد أصر عبد الناصر على بناء مزلقانات في المباني الجديدة، وبالفعل تم بناؤها.
لن يعود عبد الناصر ليدرس مرحلة الأساس مرة أخرى، ولكنه ينظر إلى مستقبل الأجيال القادمة، والجمرة بتحرق الواطيها.
وبنت لجنة الخدمات الآن اثني عشر عمودا في مدرسة البنات كهيكل لفصل ومكتبين اثنين ومنتظرين التكملة من الحكومة.
وقاموا بإعادة تأهيل المركز الصحي الذي ظل مغلقا لأربع سنوات وقد فتح أبوابه لسكان الحي قبل أسابيع.
إن عبد الناصر هو أحد مؤسسي “مبادرة الشعلة للأشخاص ذوي الإعاقة” وهو من أطلق عليها هذا الاسم. كما أنه ممثل “مبادرة الوعي أولا” في تجمع القوى المدنية، وممثل التجمع في المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير بالولاية.
إن عبد الناصر – حفظه الله – شعلة من النشاط. وهو يحمل امتنانا كبيرا لأصدقائه وزملائه الذين كانوا سندا له في مسيرته الزاخرة بالوعي والعمل.
رغم ضعف وعي أكثر المسؤولين بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، إلا أن عبد الناصر ورفاقه ينحتون في الصخر لصيانة هذه الحقوق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى