الرأي

بَعَدْ يَا مايُو!

الإثنين
لو أمكن للفرح أن يعانق الأسى لقلنا ذلك عن لقاءات تلفزيون السُّودان بمناسبة الذكري الثَّانية للثَّورة، في التَّاسع عشر من ديسمبر المنصرم،حيث استضيف شباب الاعتصام النَّاجين، مِمَّن امتزجت فرحة ذِّكرياتهم الغامرة بمشاعر حزنهم العميق لفقدهم أحباباً استشهدوا حرقاً، أو غرقاً، أو بالرصاص الغادر، أو بالهرَّاوات القاتلة، أو غُيِّبوا قسـراً، أو أقعدتهم الجِّراح الغائرة، أو دُفنوا أحـياء في مقابر جماعـيَّة. أكَّدوا أنهم ما خرجوا لإسقاط الحكومة، ولا لتفويض العسكر، ولا لإعادة البشير، إنَّما، على العكس تماماً، لتأييد حمدوك، ولاستكمال الهياكل، ولتصحيح المسار، ولتقويم السُّلطة، ولطلب العدل، ولتحقيق السَّلام، وقبل هذا وذاك لإصلاح حال الاقتصاد المائل.
قيل لهم إن البرهان شدَّد على أن «القوَّات المسلحة هي الحامي والضَّامن للثَّورة»، فقالوا ليتها كانت حمتنا، فجر الثالث من يونيو 2019م، ونحن، بعدُ، في حرمها، وضمنت أرواحنا، وأمَّنت جرحانا، وحفظت مفقودينا! وأردفوا: مع ذلك خرجت مواكبنا، سلميَّة، لا لتحصب الجُّنود، ولو بحصاة، أو تقول قولة سوء واحدة في حقِّهم، بل وأحبطت كلَّ مساعى استعداءها على دورهم «المرجو» في حماية الانتقال! قالوا:كان يقيننا تامَّاً بأن هذا الاستعداء إنَّما يستهدف، بالأساس، هدم الثَّورة ذاتها، لا إصلاح مسيرتها على الصُّعُد كافَّة. وليس أدلَّ على ذلك من هتافنا الجَّهير تمحور حول كلِّ ما طاله المطل، والتَّباطؤ، كالمعيشة، والعدل، واستكمال الهياكل، أجهزة ومفوَّضيَّات؛ وشعارنا القاطع مثل حدِّ السَّيف، والعالي لا يقبل القسمة على اثنين: «الجوع ولا الأخوان»! كلُّ اهتمامنا انصبَّ على استحالة التَّراجع عن تصفية مخلَّفات الدَّولة العميقة، وبقاياها في مفاصل السُّلطة؛ وقالوا: جاهرنا برفض الهيمنة العسكريَّة على مصائر الانتقال، لأن العين المجرَّدة باتت لا تعجز عن رؤية مظاهر هذه الهيمنة، وهي أبرز تلك المخلَّفات! وقالوا: لأن القوَّات المسلحة قدَّمت نفسها جزءاً لا يتجزَّأ من «ديسمبر»، ولأن «ديسمبر» ما اندلعت، أصلاً، إلا لاستعادة «مدنيَّة» السُّلطة، فهذه القوَّات ينبغي ألا تكون مظنونة بأن تُستثار لمطلبنا بإقصاء الهيمنة العسكريَّة!ونفوا، وفق هذه الرُّؤية المبينة،أدنى شبهة تعارض بين «مدنيَّة» السُّلطة و«مهنيَّة» العسكر، وشدَّدوا على ضرورة تجاوز خلافات الثَّوريِّين، وشقاقات القوى الحزبيَّة، وإعادة الاصطفاف مجدَّدا على منصَّة المجابهة للثورة المضادَّة، ذوداً عن الحريَّة، والسَّلام، والعدالة.
قالوا، وقالوا، لكن، ما كادوا يكملون قولهم المسالم، حتَّى انقضَّت عليهم نفس «القوَّات»، ليستشهد نفس من كان، قبل قليل، يشعل الشَّوارع بالأناشيد، إحياءً لذكرى الشًّهداء!

الثُّلاثاء
لم أتشرَّف، بعدُ، بمعرفة الجِّهة الماجدة التي تقف خلف فضائيَّة «سودان بكرة»، لكنني ألاحظ ، يوماً عن يوم، تقدُّمها المطرد، وتحسُّن برامجها، ولعلَّ أهمَّ ذلك إكثار مخرجيها من «الرُّؤيويَّة/ المشهديَّة visuality»، وتفليلهم من «طق الحنك» السَّائد في أغلب القنوات، يحوِّلها إلى إذاعات سيِّئة الإخراج! لقد استحقَّت هذه القناة شعارها تماماً: «نبض الثَّورة»، ففكرتها تتطابق مع رسالتها في نشر الوعي، تلفزيونيَّاً، وسط الأجيال الجَّديدة، حيث تمثِّل ذاكرة حيَّة لوقائع «ديسمبر»، وأحداث الاعتصام، وغلبة المزاج الشَّبابي على بثِّها، شكلاً ومضموناًً.

الأربعاء
قبل أيَّام وافق الفريق أوَّل البرهان على ترقية اللواء عبد الله عثمان يوسف، إلى رتبة الفريق وإحالته للمعاش. إلى هنا والأمر عادي تماماً. لكن غير العادي هو اتِّخاذ الإجراء أثناء محاكمة اللواء عبد الله نفسه، المتَّهم الخامس والعشرين أمام محكمة انقلابيِّي 30 يونيو! نربأ بأنفسنا أن نعلِّق على وضعه كمتَّهم. ولكنَّا نتساءل عمَّا إنْ كان هذا القرار عسكريَّاًً أم سياسيَّاً؛ وعن مغزى توقيته؛ وعن موقف القوانين، واللوائح، والنُّظم؛ و .. نترحَّم على روح طيِّب الذِّكر الفريق مزَّمل سليمان غندور.

الخميس
طوال تاريخهم لم ينتبه غالب الإسلامويِّين السُّودانيِّين، بل ولم يُبدوا، حتَّى، رغبة في الانتباه، إلى أنهم، فضلاً عن افتقارهم لأخلاقيَّات البحث، العلمي يفتقرون، أيضاً، لأساسيّات القواعد الفكريَّة لبناء المواقف السِّياسيَّة.ولننظر، مثلاً، في ترديدهم الببغائي لتهمة «الإلحاد» يحاولون إلصاقها بخصومهم الشِّيوعيِّين، دون اعتبار لحقيقتين تقتضي الاستقامة الفكريَّة إجلاءهما؛ أولاهما أن الماركسيَّة تشترك مع كلِّ الفلسفات الماديَّة الأخرى في الاشتمال على رؤية ناقدة لـ «الدِّين»، ضمن السِّياق العام لتطوُّر النَّزعات «الإلحاديَّة» في الفلسفة الماديَّة الأوربيَّة بأسرها، والتي رفدت واسترفدت خصائص عقلانيَّة الثَّقافة اليونانيَّة، وطبعت بطابعها العام مشهد التَّطوُّر العلمي في الغرب، ووسمت، في عقابيل القرون الوسطى الأوربيَّة، ومطالع عصر الحداثة البرجوازيَّة، الاصطدام العنيف بين المجتمع الذي ملأت أشرعته رياح التَّغيير الثَّوري البرجوازي، وبين الإكليروس الكنسي المدافع عن الأوضاع الإقطاعيَّة البالية، وما انتهى إليه ذلك الصِّراع من انتصار تاريخي للبرجوازيَّة، آنذاك، ومن خلفها مجموع الشُّعوب الكادحة تحت رايات الحريَّة، والإخاء، والمساواة، والعلمانيَّة، والدِّيموقراطيَّة .. الخ. ولا يوجد، بالتَّالي، سبب واحد لتخصيص الماركسيَّة وحدها بالهجوم، تحت شعار «محاربة الإلحاد»، سوى أنها، وعلى عكس الفلسفات الأخرى، لم تعتبر هدفها الأساسي «نفسير الطبيعة»، الميدان التَّقليدي للمواجهة بين «الفلسفة» و«الدِّين»، وإنما اعتبرت مهمَّتها الأساسيَّة «تغيير المجتمع»، كما في قول ماركس الشَّهير. وإذن فـ «التَّغيير» هو كلمة السِّر في الهجوم المنهجي عليها وحدها من قِبَل القوى الاجتماعيَّة المتضرِّرة من هذا «التَّغيير»! في هذا الإطار يمكن اكتشاف مغزى التَّناقض المفضوح بين موقفين تاريخيَّين للبرجوازيَّة من «الدِّين»: موقفها قبل انتصار ثوراتها الكبرى، حيث اعتمد مفكروها العداء لـ «الدِّين» كأيديولوجيَّة في الحرب على حلف الإقطاع والإكليروس الكنسي، وموقفها بعد انتصار تلك الثَّورات، حيث راحت تستخدم نفس أسلحة الإكليروس الأيديولوجيَّة «الدِّينيَّة» ضدَّ الماركسيَّة! وربَّما تصبح المفارقة أكثر جلاءً بالنَّظر إلى كون الماركسيَّة، على ماديَّتها، تتميَّز، عن سائر الفلسفات الماديَّة الأخرى، بأنَّها الأكثر بعداً عن الاشتغال بـ «نقد الدِّين»، بل إن مشروعها انطلق، أصلاً، من نقد «نقد الدِّين» الذي راج، وقتها، في الفلسفة الغربيَّة، كنظريَّة «الإلحاد البرجوازي» لدى فويرباخ الذي فسَّر عذابات الإنسان بما أسماه «الاستلاب الدِّيني»، زاعماً أن «الدِّين» هو مصدر «استلاب» الإنسان، ومن ثمَّ فإن إلغاء «الدِّين» سيؤدى، تلقائيَّاً، لإلغاء «الاستلاب»، مِمَّا عدَّته الماركسيَّة وعياً زائفاً، وخرجت بفكرتها الرَّئيسة التي تلفِتُ إلى «العلاقات الاقتصاديَّة الجَّائرة» في المجتمع الطبقي، الرَّأسمالي تحديداً، باعتبارها هي، لا «الدِّين»، أصل الدَّاء، جاعلة مهمَّتها الأساسيَّة نزع القناع عن «الاستلاب» alienation في أشكاله غير المقدَّسة، حتَّى يمكن جذب الصِّراع الاجتماعي من السَّماء إلى الأرض، وتحويل نقد «الدِّين» و«اللاهوت» إلى نقد «الحقوق» و«السِّياسة»، وهذا بالتَّحديد، لا «الإلحاد»، هو ما شكَّل المدخل الأساسي للشِّيوعيِّين السُّودانيِّين، إلى الماركسيَّة، الأمر الذي لم ينتبه إليه الإسلامويُّون، أو لم يعنهم، أصلاً، في لجَّة حزازتهم، الانتباه إليه! ومن ثمَّ فإن اهتمام الحزب لم يتركَّز على الماركسيَّة من زاوية الصِّدام بين «الفلسفة» و«اللاهوت»، وإنَّما من زاوية مشكلات نموَّ وتقدُّم حركة الجَّماهير الكادحة، لتحسين ظروف حياتها، باتِّجاه خلق «الوجود المغاير»، وتوسيع نفوذ الحزب في أوساطها، وتعميق أثره الإيجابي على الوعي الاجتماعي العام. الحقيقة الثَّانية أنه، على الرُّغم من أن الماركسيَّة ظلت تشكِّل أهمَّ مصادر الحزب المنهجيَّة والنظريَّة في ما يتَّصل بأسئلة التَّقدُّم والحداثة، خصوصاً في حقول الاقتصاد، وتحليل وتفسير الظَّاهرات، والعلاقات الاجتماعيَّة، على ضوء قوانين الدياليكتيك والمادِّيَّة التَّاريخيَّة، إلا أنه ظلَ يحْذَرُ من التَّعاطي معها كمذهب مغلق، وإنَّما كمرشد للنَّشاط الثَّوري، مِمَّا يستوجب تطبيقها على الواقع بأسلوب خلَّاق يتغذَّى، ليس من بطون الكتب، بل، قبل ذلك، من المرجعيَّة التَّاريخيَّة لشعوبنا. لذا أَولَى الحزب انتباهه، دائماً، لدور «الدِّين» في حياة هذه الشَّعوب، ومن ثمَّ للجَّوانب السَّالبة في النَّمط السُّوفييتي للبناء الشِّيوعي في الحزب والدَّولة، وعدم تقديره لهذا الدَّور؛ ولعلَّنا نشير، على هذا الصَّعيد، إلى الإفصاح الباكر للقيادي حسن الطاهر زروق حول الأمر، حيث استبعد أن تتطابق التَّجربة السُّودانيَّة مع التَّجربة الرُّوسيَّة السُّوفيتيَّة، قائلاً: «قد نستفيد من التَّجربة، ونتفادى سلبياتها، مثل .. عدم تقدير دور الدِّين في حياة الشُّعوب» (السُّودان الجَّديد؛ الأوَّل من سبتمبر 1944م)؛ كما ظلَّ يحرص، كذلك، في مواجهة الجُّمود العقائدي، على طَرْق سكك التَّفتُّح الفكري المفضية لإثراء التَّطبيق الماركسي على الواقع السُّوداني، في ضوء ما يتوفَّر له من خبرات عمليَّة، وما يجد من حكمة حتَّى في طرح التَّيَّارات الفكريَّة الأخرى. وتعتبر ضرورة التَّجديد في حقل الماركسيَّة، نظريَّاً وعمليَّاً، من أهمِّ ما دعا إليه المؤتمر الخامس للحزب، في يناير 2009م، وما نبَّهت إليه، تحديداً، الفقرة الموسومة بـ «الماركسيَّة وتجربة النَّمط السُّوفييتي»، ضمن «التَّقرير السِّياسي» الذي قدَّمه إلى ذلك المؤتمر محمد إبراهيم نقد، السِّكرتير السِّياسي السَّابق للحزب، حيث أشار إلى مناداة مؤسِّسي الاشتراكيَّة العلميَّة بـ «الاستفادة من الومضات الإيجابيَّة في التَّيَّارات الفلسفيَّة والفكريَّة الأخرى»، ضارباً المثل باستناد ف. إنجلز، في مؤلفه «أصل العائلة»، إلى أعمال الأنثروبولوجي الأمريكي لويس هنري مورغان؛ كما شدَّد التَّقرير على أن «الماركسيَّة ليست فصل الخطاب، أو الكلمة النِّهائيَّة التي تُطوى بعدها الصُّحف، وتجفُّ الأقلام»، حيث أنَّها تقتضي، بحسب منهجها نفسه، «النَّظر إليها في تاريخيَّتها، لا كنصوص مذهبيَّة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها»، وهنا أيضاً يضرب التَّقرير المثل بالاختراق النَّظري الذي حققه لينين في «إسهامه بنظريَّة الاستعمار، باعتباره المرحلة الأعلى في تطوُّر الرَّأسماليَّة»، إذ من المعلوم أن ذلك الإسهام «كان محكوماً بعصره، حيث اعتبر الإمبرياليَّة رأسماليَّة محتضرة، لكن الرَّأسماليَّة استطاعت أن تمدِّد عمرها، وتنجز الثَّورة العلميَّة التِّقنيَّة، وتُسخِّر إنجازات هذه الثَّورة في تطوير إنتاجيَّة العمل» (راجع: المؤتمر الخامس ـ التقرير السِّياسي؛ ص 17، 18 ، 19).

الجُّمعة
لو لم يصدر فيصل محمَّد صالح، وزير الإعلام، وناطق الحكومة، أوَّل تصريح رسمي مشهود، ومفصح، وبذلك الأسلوب الاحترافي البعيد عن الإثارة، لما كان أحد قد علم، أصلاً، بالجَّانب شديد الحساسيَّة من حادثة استشهاد بهاء نوري، وهو الجَّانب المتعلق بوقوعها في أحد مراكز قوَّات الدَّعم السَّريع، أثناء تحقيق أجري معه، ثمَّ نُقل جثمانه إلى قسم الصَّافية بالخرطوم بحري، وتحويله، من هناك، إلى مشرحة أم درمان (مواقع وقنوات وصحف؛ 26 ديسمبر 2020م)، ولما ثار، من ثمَّ، بالمتابعة، وبمثل هذه الحِدَّة، التَّساؤل حول سلطات، واختصاصات، وصلاحيات الدَّعم السَّريع، في القبض، والتَّحرِّي، والتَّحقيق! ولما ثار التَساؤل المشروع: لماذا مشرحة أم درمان بالذَّات؟! ولما تحتَّم أن يصدر الفريق حميدتي، قائد الدَّعم السَّريع، أمراً برفع الحصانة عن عناصره موضع الشُّبهة، الذين قاموا باعتقال الشَّهيد، وتسليمهم للنيابة العامة لأغراض التحقيق معهم! ولما انفجر الشَّارع، كلَّ هذا الانفجار المدوِّي، بعد أن بلغ السيل الزُّبى، وتناقلت الصَّحافة، وأجهزة الإعلام، داخل وخارج السَّودان، فضلاً عن مواقع ومنصَّات التَّواصل، تفاصيل الحادثة، وتصريحات ذوي الشَّهيد، وأصدقائه، وزملائه! بل ولما أصدر مجلس الدِّفاع والأمن قراراته القاضية بحظر تدخُّل أيَّة جهةٍ، بخلاف الشُّرطة والنِّيابة، في أعمال القبض والتَّحري .. شكراً فيصل!

السَّبت
التفكير الميكانيكي وحده هو الذي يعتبر «الأيديولوجيا» المحضة، كتركيبة نظريَّات ونظم وعقائد، مكوِّناً وحيداً لـ «الوعي الاجتماعي»، بمعزل عن «السَّايكولوجيا الاجتماعيَّة»، في حين أن «الوعي الاجتماعي» مقولة سوسيولوجيَّة، تفوق «الأيديولوجيا» المحضة وسعاً وعمقاً، من حيث الطابع المعقَّد وغير المنتظم لتشكيل طبقاته layers، ومن حيث شموله للدِّين، والفلسفة، والعلوم الاجتماعيَّة والطبيعيَّة، ولحياة الشَّعب النَّفسيَّة، والعاطفيَّة، والأخلاقيَّة، بحيث أن ما يندرج ضمنه من المضامين، ومن بينها موضوعة «المزاج»، أكثر مِمَّا يندرج ضمن «الأيديولوجيا» المحضة بما لا يقاس. غير أن هذا لا يعني، قطعاً، أن «السَّايكولوجيا الاجتماعيَّة» لا تتأثَّر بـ «الأيديولوجيا»، إنَّما يعني، فقط، أنَّها تمتاز عنها بالسَّبق، من النَّاحية التَّاريخيَّة، وبالتَّجلي في مستوى الخصوصيَّة الدَّقيقة للنَّسيج الثَّقافي والنَّفسي الذي يشكِّل، على نحوٍ عفوي، جماع المشاعر العامَّة، والانفعالات، و«الأمزجة»، والأذواق، والعادات، والسُّلوكيَّات، مِمَّا يمكن أن ينسب إلى جماعةٍ ما، أو إلى طبقة أو فئة اجتماعيَّة، أو إلى شعب أو أمَّة .. الخ. ولأن «مزاج» الشَّعب لا يتمظهر كحالة معزولة عن مستوى «وعيه الاجتماعي» خلال الحقبة التَّاريخيَّة المعيَّنة، فإن الذين يولون اعتباراً خاصَّاً لاستقصاء هذا «المزاج» في العمل السِّياسى، في بلادنا، يلاحظون، ولا بُدَّ، أن مؤشِّراته ظلت تسجِّل، منذ فجر الحركة الوطنيَّة، ميلاً قويَّاً باتِّجاه «تكاتف» الصَّفِّ الوطني، ونفوراً واضحاً من «الشِّقاق» حول القضايا الأساسيَّة كالحرِّيَّات، والسَّلام، والدِّيموقراطيَّة، والعدالة، وتجنُّب التَّمزُّق، والتَّبعيَّة للأجنبي، مِمَّا يتجلى في الأهازيج الوطنيَّة، وتعبيرات الوجدان الشَّعبي. ولعلَّ في ذلك تفسيراً أوليَّاً سديداً لخلود «عزة الخليل»، مثلاً، على الصعيد الإبداعي، وانطفاء العشرات غيرها من القصائد التى سعت لتمجيد أحوال سياسيَّة أضيق من «مزاج» الجَّماهير، ولا أبرِّئ نفسى، فقد كنت مِمَّن حسبوا «نحاس» مايو «ذهباً» أوَانَ غَرارةٍ ابداعيَّةٍ باكرة! وهكذا، فإن محاولة التَّعرُّف على «الإرادة» الشَّعبيَّة العامَّة، بالاستناد، فقط، إلى أنماط القياسات الميكانيكيَّة المبسَّطة، لدرجة انعكاس علاقات الانتاج من البنية التحتيَّة infrastructure إلى الفوقيَّة superstructure، وإهمال الحالة الرُّوحيَّة ـ الثَّقافيَّة ـ الأخلاقيَّة التى تلعب الدَّور الأكثر حسماً في تحديد «مزاج» الجَّماهير، لهي محاولة محكوم عليها بالفشل الذَّريع، بل إنها لتتساوى، فى نتائجها النِّهائيَّة، مع عدم الإقرار، أصلاً، بجدوى التعرُّف على هذه «الإرادة» لدى تحديد الخيار أو الموقف السِّياسى. وباستطاعتنا إيراد ما لا حصر له من النَّماذج، على أننا سنكتفي، هنا، بنموذجين ساطعين: الأول هو حساب الشِّيوعيِّين غير الدَّقيق لـ «المزاج» الشَّعبى العام الذي تلقَّف «اتفاقيَّة الحكم الذَّاتي»، أواخر فبراير 1953م. فعلى الرُّغم من أن تلك الاتِّفاقيَّة التي وقَّعتها الحكومتان البريطانيَّة والمصريَّة مع كلِّ الأحزاب السُّودانيَّة، ما عدا «الحركة السُّودانيَّة للتَّحرُّر الوطني ـ حستو»، قد أرجأت، ولمدَّة ثلاث سنوات هى فترة الحكم الذَّاتي، تحقيق مطالب الشَّعب بالجَّلاء النَّاجز، وحقِّ تقرير المصير، وبناء وطن ديموقراطي حر، وضربت، فوق ذلك كله، قيوداً إضافيَّة على الحريَّات، ووفَّرت للحاكم البريطاني العام من السُّلطات والصَّلاحيَّات ما يمكِّنه من تدعيم النُّفوذ الاستعماري، وممارسة شتَّى أساليب الضَّغط على البرلمان، إلا أن «المزاج»، والرأي العام قد التفَّ حولها، بقوَّة، إلى حدِّ عدم الاستعداد لتقبُّل معارضتها، بالغاً ما بلغت دوافع هذه المعارضة من الوطنيَّة، كموقف «حستو»، مثلاً، والذي تضمَّنه كتيِّب «الاتفاقيَّة في الميزان» للشَّهيد قاسم أمين. فبصرف النَّظر عن معقوليَّة الأساس الذى انبنت عليه تلك المعارضة، انطلاقاً من هاجس الحدب على تجنيب الدِّيموقراطيَّة والحريَّات، في الدَّولة الوطنيَّة المستقلة، مزالق المؤامرات الاستعماريَّة، وبرغم نضالات الشِّيوعيين المشهودة فى سبيل الاستقلال، وإسهامهم في استنهاض الجَّماهير باتِّجاهه، ودفعهم لبناء المنظمات النقابيَّة والمهنيَّة والفئويَّة، وما لازم ذلك من دواس ضروس خاضوه، على شحِّ إمكاناتهم الماديَّة، مع آلة الإدارة الاستعماريَّة وأجهزة مخابراتها، وسقوط أنبل أبنائهم، كالشَّهيد قرشى الطيِّب، في سوح معارك «الجَّمعيَّة التَّشريعيَّة» ، بل وعلى الرُّغم من أن الإدارة البريطانيَّة أقدمت، فعلاً، وبين يدي البدء في تطبيق الاتفاقيَّة، خلال النِّصف الثَّانى من عام 1953م، على سنِّ «قانون النَّشاط الهدَّام»، والمادَّة/105 التي تحرِّم على الموظفين العموميِّين الاشتغال بالسِّياسة، تمهيداً لدولة بوليسيَّة تُفرغ الاستقلال من معناه، ومع كلِّ ما تحمَّل الشِّيوعيُّون في معركة إلغاء ذلك التَّشريع، فإن موقف «حستو» من الاتفاقيَّة اعتُبر، فى الحساب الختامي، مفارقاً لـ «المزاج» الجَّماهيري الذي انفتح لاستقبالها بالتَّرحاب، ما حدا بالحزب لممارسة النَّقد الذَّاتي العلني، لاحقاً، وتعديل موقفه من رفضها إلى قبولها خلال ما لا يزيد على أسبوع واحد (دورة اللجنة المركزيَّة، مارس 1953م). أمَّا النموذج الثانى فهو الأداء السِّياسي غير المحسوب، والذى انتهجته الأحزاب التَّقليديَّة، بالمصادمة لـ «المزاج» العام للجَّماهير تخرج به، في كلِّ مرَّة، على صهوات انتصاراتها المؤزَّرة، لتجابه ذات القضايا السِّياسيَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، عبر الفترات التَّاريخيَّة التي أعقبت يناير 1956م، وأكتوبر 1964م، وأبريل 1985م؛ أى «مزاج» التَّشوُّق الدائم لاستمرار «وحدة» نفس القوى التى نازلت الاستعمار، ودكتاتوريتي عبود والنِّميري، و«تجانس» مواقفها حول إعادة البناء، وإيقاف حرب الجَّنوب، والتَّصدِّي لتحدِّيات التَّنمية، وتعميق مفاهيم الوحدة، والسَّلام، والدِّيموقراطيَّة. ومن نافلة القول أن ذلك «التَّجانس»، لم يكن ليعني التَّطابق، بالضَّرورة، بقدر ما يعني إحسان التَّدافع على قاعدة مشروعيَّة التَّعدُّد، بحيث تتكامل الجُّهود حول تلك القضايا الأساسيَّة، وعلى رأسها بناء الدَّولة الدِّيموقراطيَّة الحديثة. لذا فإن «وحدة» الارادة الشَّعبية التي تجلت في لحظة إعلان الاستقلال من داخل البرلمان عام 1955م، والتي ما زال يستحلبها الوجدان الجَّمعي، كأنضر لحظات تاريخه المعاصِر، هي، إذن، جوهرة التَّاج في تكوين «مزاج» الجَّماهير. غير أن استدارة القوى التَّقليديَّة، مجدَّداً، عقب ثورة أكتوبر 1964م، إلى ذات الممارسة الشَّكلانيَّة للدِّيموقراطيَّة، والتي سبق أن وفَّرت المقدِّمات اللازمة لانقلاب أرستقراطيَّة الجَّيش فى 1958م، هو الذى أفضى بها إلى مصادمة «جبهة الهيئات»، وحلِّ حكومة أكتوبر الأولى، ومعاداة القوى الصَّاعدة في مناطق الانتاج الحديث، وتدبير حلِّ الحزب الشِّيوعي، وطرد نوابه من البرلمان، والاستهانة باستقلال القضاء، والانشغال، عموماً، بالتأسيس لدكتاتوريَّة مدنيَّة من فوق ما أسمته «الدُّستور الإسلامي»، مثلما أعجزها الأثر الضَّاغط لذهنيَّة القطاع التَّقليدي على هشاشة التَّجربة الدِّيموقراطيَّة عن أن تتجاوز تشرذمها الحزبي، وصراعاتها الدَّاخليَّة، وانشقاقات أجنحتها، ومكائدها في الاستقطاب، بكلِّ ما يلزم من مصادمات فتَّت فى عضد التَّكاتف المرغوب فيه، وأضعفت التَّجربة الدِّيموقراطيَّة، وسمَّمت مناخ الفعل السِّياسى، وأسلمت الجَّماهير إلى يأس مُمِضٍّ، و«مزاج» إحباط ثقيل، باسم نفس الدِّيموقراطيَّة البرلمانيَّة التى «هبَّت الخرطوم فى جُنح الدُّجى» لاستعادتها بالمُهَج والأرواح في أكتوبر، مِمَّا فتح الأبواب على مصاريعها، مرَّة أخرى، لشيوع «المزاج» الذى استقبلت به الجَّماهير انقلاب البكباشى جعفر نميري فى مايو 1969م، أملاً في طريق آخر لـ «الخلاص»، أو كما أنشد محجوب شريف: «بعد يا مايو ما يئسنا»! والمبدعون ليسوا منظِّرين أو محللين سياسيِّين، فهُم إنَّما يعبِّرون عن «مزاج» الشَّعب عفو الخاطر، لا عن البرامج السِّياسيَّة تمكُّثاً! فهل نتشاءم بأن الأمر يمضي الآن، كما مضى دائماً؟!

الأحد
سأل إعرابي الإمام الشَّعبي عن كيفيَّة مسح اللحية في الوضوء، فأجابه: خللها بأصابعك، لكن الرجل ألحَّ قائلاً: أخاف ألا تبتلَّ إن خللتها! فقال له الشَّعبي: إذن انقعها من أوَّل الليل!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى