تحقيقات

بحث في إرشيف السي آي ايه.. نميري..رئيس على حافة السقوط (1-2)

المخابرات الأمريكية أوصت بالتضحية بنميري مقابل الحفاظ على مصالحهم في السودان
تحقيق- محمد عبد العزيز
عند الرابعة من فجر الخامس من أبريل 1985 خرج القنصل الأمريكي بالخرطوم مستر ميلتون من مكتب مدير جهاز الأمن الفريق عمر محمد الطيب، قبل أن ينفجر غضباً أمام ضابط أمن رفيع قائلاً: “”لماذا تنتظرون.. لقد انتهى الوقت، لقد نصحت مديركم باستلام السلطة وسنقوم بمساندته”.
مدير جهاز الأمن تعرض لضغط رهيب من الولايات المتحدة لتولي السلطة بعد تصاعد الأحداث في الخرطوم عندما غادر الرئيس جعفر نميري إلى أمريكا في رحلة استشفائية، فيما تعاظم قلق واشنطن التي خشيت من ضياع حليف استراتيجي في المنطقة الملتهبة وحرب باردة في جولة الحسم، حرص عملاء (CIA) في الخرطوم على جمع كل التفاصيل والمعلومات في سبيل رسم صورة واضحة المعالم لمتخذي القرار في واشنطن، باعتبار أن بقاء نميري في السلطة رهين بدعم أمريكي لمواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية.
خارج السيطرة
تقديرات أجهزة المخابرات الأمريكية أشارت الى أنهم من الممكن أن يضحوا بنميري مقابل الحفاظ على مصالحهم في السودان وهو ما اعتمدته الإدارة الأمريكية، لينصب العمل بشكل أساسي على توفير نظام بديل يحافظ على المصالح الأمريكية، فكانت هناك العديد من الخيارات على رأسها تولي قيادات في النظام الحاكم السلطة، ليرد اسم عمر محمد الطيب كخيار أول.
يضم أرشيف وكالة المخابرات الأمريكية (CIA) نحو 400 وثيقة عن الرئيس الأسبق جعفر نميري تزاوج بين المعلومات والتحليلات، إلا أن الملاحظة الأبرز في جملة تلك الوثائق أن (CIA) بدأت منذ مطلع العام 1981 في التشكيك في قدرة نميري في السيطرة على زمام الأوضاع في السودان، وأشار تقرير بعنوان (Nimeiri in Trouble) إلى أن الرئيس السوداني بات يفتقد القدرة على السيطرة على مجريات السلطة في السودان بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية ووصول البلاد لحافة الإفلاس بجانب تزايد السخط الشعبي.
بعده بستة أيام بدأت (CIA) تتوقع حدوث تغيير في السودان مفضلة استلام السلطة من قبل قيادات رفيعة في النظام موالية للغرب للحفاظ على مصالحهم، وحذر تقرير للوكالة من أنه في حال استلام السلطة من قبل صغار الضباط أو زعماء المعارضة السياسية فإن ذلك يمثل تهديداً لمصالحهم.
في العاشر من نوفمبر 1983 خلص محللو (CIA) وشركاؤهم في أجهزة الاستخبارات الأمريكية الأخرى إلى أن استمرار نميري في السلطة بالسودان بات مهدداً أكثر من أي وقتٍ مضى، وهو ما يمثّل مؤشراً خطيراً لقرب زوال حليف مهم للولايات المتحدة في جزء مهم من العالم، وأشاروا في تقييم استخباراتي خاص للوضع في السودان إلى أن الدوافع الشخصية لنميري جعلته يتخذ قرارات كارثية دون مراعاة للعواقب السياسية المحتملة مثل إلغاء اتفاقية أديس أبابا وإعلان تطبيق الشريعة.
ورجحت المخابرات الأمريكية تدهور الأوضاع الأمنية في جنوب السودان وهو ما يعرض الأمريكيين ومصالحهم هناك لهجمات عن طريق جماعات جنوبية متمردة سيصبح من الصعب تحديد المسؤول عنها. (توقعات لما سيحدث في جبل بوما بعد أربعة أشهر فقط).
استنتاجات جاهزة
الاستخبارات الأمريكية أخفَت عن نميري ما يحدق به، لقد رصد عملاء الاستخبارات الأمريكية في الخرطوم مؤشرات التذمر في وقت مبكر؛ الأمر الذي دفع المحللين المسؤولين لفرز المعلومات وتحويلها إلى استنتاجات جاهزة تقدم إلى مراكز اتخاذ القرار الأمريكي، الذي يمكنه إشراك الحليف المعني بما لديه من معلومات إذا ما أراد ذلك، وهو ما لم يحدث، بل كان للأمريكان اتجاه آخر.
تقارير أجهزة الاستخبارات الأمريكية أشارت الى أن نميري ما يزال يمتلك العديد من الأسباب للتشبث بالسلطة وعلى رأسها رغبته القوية في البقاء بالسلطة واستعداده لمواجهة أي تحديات تعيق طريقه، وتلفت السي اي ايه الى أن نميري مقاتل شرس، وقد اكتسب من خلال بقائه في السلطة لسنوات مهارات سياسية جعلته متجاوزا لخصومه.
ولفت التقرير الى أن نميري منشغل حاليا بصحته وانغماسه في التزامه بتغييرات راديكالية إسلامية، في الأثناء ما تزال العديد من العوامل المساندة لنميري وتحد من خطورة أي انقلاب على حكمه أبرزها جهاز أمني كفؤ وفعال إلى حد معقول ، مع قدرة على تفريق أو توقع المظاهرات الشعبية دون إراقة دماء من خلال تحديد زعماء التظاهرات و اعتقالهم، أما العامل الثاني فيتعلق بالتنافس بين النخب المعارضة، أما العامل الثالث فيتعلق بالامتيازات الاقتصادية التي يتمتع بها ضباط الجيش.
مدير الجهاز عمر محمد الطيب عقد اجتماعاً ساخناً بقيادة الجهاز يوم الأربعاء مع تصاعد حركة الاحتجاجات وطرده من اجتماع لقيادات الجيش، فاجتمع بقيادات الجهاز الأمنية حتى الثالثة صباحاً، وشهد الاجتماع مهاجمة قيادة الجهاز للطيب على خلفية تهريب الفلاشا ودعا الاجتماع لإعلان حالة الطوارئ وحل الحكومة وتكوين حكومة من التكنوقراط والقوات النظامية، إلا أن الطيب ثار عليهم وأنهى الاجتماع ليخرج غاضباً ليلحق بضيف مهم ينتظره في مكتبه.
توقعات ومآلات
في الأول من فبراير 1985 أعد عملاء الـ(CIA) تقريراً خاصاً عن تطورات الأوضاع في السودان تم تصنيفه بأنه عالي الأهمية بعنوان (السودان: آفاق على المدى القصير لنظام نميري)، تم وضعه بمشاركة وكالات الاستخبارات الأمريكية المختلفة.
أشار التقرير صراحة في مطلعه إلى أن فرص نميري في البقاء في السلطة تضاءلت لأقصى حد، وبات بقاؤه رهيناً بمواجهة الأزمة الاقتصادية والسياسية وتصورات خصومه على استناده لدعم أمريكي مصري، بجانب ولاء الجيش والأمن له.
ويشير التقرير إلى أن نميري ما يزال سياسياً ماهراً وعلى استعداد للرد بقوة على التحديات ومن الممكن أن يقوم باتخاذ سياسات مفاجئة للارتداد واستعادة التوزان في سبيل البقاء بالسلطة.
ورجح التقرير استمرار عزلة نميري وحالة الهوس الديني، إلا أنه أشار صراحة إلى أنه من الصعب السيطرة على حالة الغضب المتنامي وسط ضباط الجيش الناقمين من انهيار اتفاق السلام وتدهور الأوضاع الاقتصادية وتطبيق الشريعة مما يزيد من احتمال انقلاب عسكري، محذرين في ذات الوقت من أن يقوم بهذا الانقلاب صغار الضباط الراديكاليين، وهو ما يعزز من تدخل ليبيا وعودة السوفيت مما يقضي على المصالح الأمريكية، مقللين من فرص ذلك.
ومضت الـ(CIA) للتأكيد على أن نميري فقد السيطرة على مقاليد الأمور منذ العام 1983، عبر تقرير حاسم يقوم على تحليل الوضع والإشارة لتزايد الأزمات في ظل تضاؤل الحلول، ويمضي لتشريح الأوضاع في الجنوب بعد تجدد النزاع وعودة التمرد، قبل أن يستعرض الأوضاع الاقتصادية المتردية، فيما يستعرض مواقف المعارضة وقدراتها، ليعرج على ولاء القوات النظامية (جيش، أمن، شرطة) كلٌّ على حدة، بجانب ميزان العلاقات الخارجية بين العداوات والصداقات، قبل أن يختتم بالسيناريوهات المتوقعة.
اختراق كامل
تظهر تقارير الـ(CIA) معلومات دقيقة وتحليلات صائبة أكدتها مقبلات الأيام، وهو ما يكشف عن أنها كانت مخترقة للسودان في ذلك الوقت بدرجة كبيرة حد الاطلاع على تمرد وتذمر طيارين في الجيش السوداني من تنفيذ عمليات في الجنوب، وتقدير حجم عضوية الحزب الشيوعي، بل ووضع قائمة بأسماء الضباط من خارج هيئة القيادة المرجح قيامهم بانقلاب عسكري.
عملاء المخابرات الأمريكية (CIA) أشاروا إلى أن تفاقم الأزمات الاقتصادية سيراكم المشكلات السياسية والأمنية، فبسبب قلة التمويل، باتت الحكومة عاجزة عن توفير الاحتياجات والخدمات الأساسية، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بواقع 2% في العام المالي المنتهي في يونيو 1983. ورغم النجاح الذي حققته الحكومة في السيطرة على الموازنة العامة والعجز، فقد ارتفع معدل التضخم ليبلغ 41%.
بلغت ديون السودان الخارجية 9 مليارات دولار، وهو مبلغ يفوق إجمالي الناتج المحلي لعام كامل، ولكي يسدد السودان ما عليه من التزامات مالية للدائنين، كان عليه أن يدفع نحو مليار دولار سنويا فوائد على الديون، وهو مبلغ يفوق إجمالي صادراته السنوية مما يتعين على السودان الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لا لكي يكون مستعدا للوفاء بمتطلبات الصندوق عام 1984، لكن لتجنب التخلف عن التزاماته لسنوات. لكن فرص إجراء تغييرات هيكلية تحتاج إليها البلاد على المدى البعيد لكي تتعافى اقتصاديا باتت باهتة.
وتقول الـ(CIA) إن نميري يعتقد أن أمريكا والسعودية قادرتان على انتشاله من أزمته الاقتصادية، إلا أن السعودية تبدو زاهدة في ذلك، بينما طلب نميري صراحة من أمريكا التوسط للسودان لدى صندوق النقد الدولي والمانحين، متوقعة أن يجدد طلبه لدى زيارته لواشنطن بجانب طلب معدات عسكرية مقابل تسويق بعض الإصلاحات الاقتصادية.
وحذر التقرير الاستخباراتي من أنه في حال توقف الدعم الأمريكي فإن السودان يرد بعدم الاعتراف باتفاقية (كامب ديفيد)، وقد يعلق التدريبات العسكرية السودانية الأمريكية المشتركة التي تتضمن وجودا في بورتسودان.
(نواصل…)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى