الرأي

النِّيَاق المرُوقَل سدُوهِنْ

إستراحة
محمد أحمد الفيلابي
لعله كان يعني مسيرتهم الإنسانية الملهمة، والموحية والمؤكدة أن قلب هذا الشعب النابض بالحب سيأتي في كل مرة بثورة تخلخل كيان المستبدين، وتظهر متانة نسيج الإنتماء، وتمشي على ما ردده الأجداد، وترجمه القدال:
النياق المروقل سدوهن
تكربت.. تكربت.. ولا بزدريهن نبيح الكلاب
وجاءت الترجمة الثانية إبان ديسمبر الظافرة (……. ما بنخاف.. ما بنخاف).
وهكذا كانوا.. محجوب شريف.. الدوش.. أبوذر.. حميد.. القدال (يرحمهم الله جميعاً) .. وعلى ذات الدرب يمشي أزهري .. هاشم.. الكتيابي.. وآخرون (أطال الله في أعمارهم).
مضوا وسط الأشواك ليلتقطوا لنا أزاهير الكلم.. أعلمونا أن (الكلاب) التي تنبح في أثرهم لن تخيفهم.. ولن ينكسروا مهما ووجهوا بالاستبداد. وعلمونا أن الكلمة أمضى الأسلحة على الإطلاق..
برحيل الصديق القدال يتأكد يتمي مجدداً.. فقد جاء بعد رحيلهم بمن في ذلك أم أولادي 2010، وسبقهم صديقي عبد الملك.. وكانوا قد شكلوا سياج  روحي الذي (شلعته) الأيام.
قال لي ونحن في سرادق عزاء (حميد) وهو يشير إلى جموع الشباب والشابات (تيتم هؤلاء)، ورددتها أمامه ومسيرة تشييع محجوب تمتد من بيته في الثورة حتى المقابر .. (وهؤلاء تأكّد يتمهم مجدداً).. وأدرك أنني أعنيه وأعني ذاتي.. الأمر الذي جعله يذكر في تقديمه لكراستي الشعرية (هي دي الحياة) 2015:
“……….. تمتزج أشعاره في هذه الديوان بقيم ومبادئ وخبرات، منها ما فُطر عليه، وفيها ما هو مكتسب من خلال تجاربه الإنسانية كأب وكمعلم ومتطوّع، ومدرب. وفي تجربته الشخصية كزوج، وكأب رأي بأم عينيه من المعاناة والمكابدة وشاهد زوجته الراحلة، عليها شآبيب رحمة الرحمن الرحيم، تنساب ماء رقراقاً يتقطر من بين يديه. رأى شقاء الأطفال والأرامل والفقراء في أطراف السزدان المترامية من خلال عمله الطوعي، وجعل من كل ذلك قوة عاتية، وطاقة دفّاقة لفتح كوى التنوير والمعرفة لهؤلاء كي يرتقوا بحيواتهم”.
وما لم يقله في ذلك التقديم أنهم كانوا دافعي للفعل وللكتابة، ولـ(مسح) عدسة شوفي في كل مرة.. مثلما كانت أشعارهم بمثابة الأُطُر التي أضع فيها  أي صورة تقع تحت بصري..
شكراً لـ(بيت العنكبوت) الذي عرفنا على هذا الزخم من الكتابات والأصوات.. و(بيت العنكبوت) رمز لبعض بيوت العزّابة منذ أواخر السبيعينيات، حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي.. البيوتات الفقيرة، تلك التي كان قوامها الكتب والمجلات الأدبية والقصاصات، و(شرائط الكاسيت)، والتلاقي العفوي بحملة راية التنوير، وشعلة النضال من مثقفي تلك الحقبة..  في تلك الغرف المكدسة بالأحلام ننغمس بين الصفحات، وتحت مطر الأصوات المبدعة. حيث تعرفنا على درويش ودنقل وبسيسو، ورفاقهم ورفيقاتهم.. و(دوزنا) خطونا على إيقاعات مارسيل وأميمة خليل، وأشعار هؤلاء بدارجيتها الحميمة، تلك الموغلة في المحلية (حميد)، والقريبة إلى روح البادية فينا (القدال)، والمزيج المبدع بين الدارجية والفصيحة في جزل محبب (محجوب)، والمعبأة بالنضال الثوري (هاشم)، والمشحونة بالدراما والمرئيات (الدوش وحميد والقدال .. معاً).
من تلك الدور كنا ننسرب ليلاً لمتابعة جلسات الغناء (مصطفى سيد أحمد)، والقراءات الشعرية، ولم يكن يهمنا كم نمشي من مسافات، بقدر ما كان يهمنا كم تلقينا من الإبداع. ونفلح في إقتناء التسجيلات، وتجدنا نحفظ من أشعارهم أكثر مما نحفظ من كتاباتنا الخاصة.. بل كنا نحجم عن فتح كراساتنا في حضرتهم، ليقيننا الراسخ أن كل دقيقة مع هؤلاء تساوي الكثير.
بكى حميد مصطفي، وبكى أزهري و القدال حميد.. وبكيناهم جميعهم في محجوب، فمن يبكيك بذلك القدر أيها القدال؟
هذا الصباح مضينا إلى بيته في غيبته – لأول مرة، وفي الطريق أكتشفنا أن الإذاعات (تنوني) كما تفعل في الأيام العادية، أيكون الأمر  (إشاعة) في هذا الزمن الذي تقتل فيه الأقلام، ورؤوس الأصابع على الكيبوردات في كل يوم عزيزاً، ثم تنكشف الكذبة.. وفي قرارة نفسي تمنيها (كذبة) رغم أن الخبر جاء في التلفزيون الرسمي. وهناك وجدنا الوجوم على الوجوه.. والخبر اليقين أن الجثمان سيصل منتصف الليل عبر الميناء الجوي، ومن هناك إلى (حليوة)..
يرحمك الله صديقي مُحُمّد طه ود دفع الله.. ويلهمنا من بعدكم صبراً يكفي لنقف على أرجلنا حتى نلحق بكم..
يا حميد أخوي.. ها الأيام تراهن
كل ما نقول خلاص.. الليلة نلقى نداهن
يفجعنا الفقد.. بس ما بنقول إلاهن
كليمات اليقين مافي حاجة سواهن
(إنا لله وإنا إليه راجعون)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى