الرأي

النموذج السوداني

لؤي قور

عام ونيف مرت، منذ أن أطلق السيد رئيس الوزراء توصيف “النموذج السوداني”، على الفترة الانتقالية التي تمر بها البلاد ما بعد الديكتاتورية. ووصفه بأنه نموذج قائم على “الشراكة”، بين المدنيين والعسكريين، وبأنه نموذج فريد، وغير مسبوق. أملته الواقعية وموازنات القوى، وبأن مدى نجاحه أو فشله مُرتبط بكسب القائمين على أمر إنفاذه. وأن وصوله إلى تمام مقصده ومسعاه في التحول الديمقراطي، رهين بوحدة قوى الثورة، وتناغم العمل بين الشُركاء. على الرغم من التحديات التي يواجهها ذلك النموذج، والتي تترى كل حين. لكنها في ذات الوقت تصنع السابقة والتجربة. يعظم فيها دور من يرتضي هذه الشراكة ويوظفها بما يخدم الهدف المُعلن، وهو إنفاذ التحول الديمقراطي للبلاد. ويتضاءل فيها دور من يريد أن يلوي عنق الحقائق، أو يقول بما يتنافى مع لغة السياسة، واستثنائية المرحلة. ويخسر فيها دون شك من يتوقف في محطة “نعم ولكن”، تلك الرمادية والباهتة. فيرفض كل شيء، ويتجاوزه كل شيء. وذلك لأن الثابت الوحيد في هذه المرحلة، أن السودان لن يعود لسابق عهده، كما قال الراحل العظيم د. جون قرنق ذات لحظة فارقة (sudan will not remain the same again).

محطات كثيرة مر بها قطار الانتقال منذ ذلك الحين، فصعدت قضايا فرعية على أعلى قائمة الأولويات أحياناً، وتضاءلت أهمية أخرى كان يلهج الناس بالحديث عنها صباح مساء. فقد مرت الفترة الانتقالية بلحظات مد وجذر، وتعرضت لانتكاسات وهزائم صغيرة. لكن القطار كان يمضي على كل حال، وبسرعات متفاوتة أملاها واقع يتمثل في جدة التجربة، وطبيعة المرحلة، والعلاقة بين الشركاء. فضلاً عن تباينات الرؤى السياسية بين مكونات الحرية والتغيير. على الرغم من خبرتها الطويلة في العمل التحالفي مع بعضها. فكان هناك “التجمع الوطني الديمقراطي”، الذي تأسس في أكتوبر من العام “1989” وبعد أقل من  أربعة أشهر على انقلاب الإنقاذ. فضم أحزاب سياسية، ونقابات، وقيادات القوات النظامية الشرعية، وشخصيات وطنية مستقلة، وفصائل مسلحة كانت تخوض حرباً ضد النظام. ووقعت كل هذه المكونات على ميثاق “التجمع”، وأعلنت انضمامها له وتأييدها لمبادئه منها (الحزب الاتحادي الديمقراطي، الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، تجمع الأحزاب الإفريقية، الحزب الشيوعي، الحزب القومي السوداني، المجلس العام للاتحادات النقابية، القيادة الشرعية للقوات المسلحة، مؤتمر البجا، قوات التحالف السودانية، التحالف الفيدرالي الديمقراطي، تنظيم الأسود الحرة) وغيرها. بالإضافة للشخصيات الوطنية المستقلة، وممثلو المناطق المحررة. بهدف تغيير نظام الحكم الشمولي، وإقامة بديل ديمقراطي تعددي، يكفل الحريات العامة، ويصون الوحدة الوطنية، ويحقق السلام العادل والشامل. ويقضي على أسباب الحرب، ويعمل على إعادة بناء السودان الجديد الموحد الديمقراطي، يتصدى بالحلول الناجحة للمشاكل المزمنة.

وفي وقت لاحق كان للأحزاب الوطنية السودانية تجربة ثانية في العمل السياسي التحالفي ضمن تحالف “قُوى الإجماع الوطني”، الذي تأسس في سبتمبر من العام “2009”، برئاسة الزعيم الراحل “فاروق أبو عيسى”. وضم سبعة عشر حزباً مُعارضاً. منها (حزب الأمة، الحزب الشيوعي، حزب البعث العربي الاشتراكي)، بجانب آخرين. وخرج هذا التحالف على الناس بوثيقة “البديل الديمقراطي”، التي صارت بمثابة الهادي لتحالف “قوى الحرية والتغيير”، وهو يخط وثيقته الدستورية على ذات النهج والمبادئ. وهناك تجربة ثالثة ناجحة في تحالف “نداء السودان”، الذي ضم حركات مسلحة، وأحزاب مدنية. وتوصلت هذه التحالفات لقرارات مصيرية، وأجابت على بعض الأسئلة الصعبة، والتي لا تحتمل أجوبتها سوى الصواب. صحيح أن إسقاط الديكتاتورية كأولوية، وتطاول عهدها حتى خبرت كل أساليب التماطل وشراء الوقت، كانت عوامل جعلت السمة البارزة لأنشطة هذه التحالفات هي إسقاط الإنقاذ. لكنها في ذات الوقت دليل حي على أن للمكونات السياسية السودانية خبرة في العمل التحالفي الناجح مع بعضها البعض، وأن ملامح هذه الخبرة لم تظهر في “تحالف قوى الحرية والتغيير”. على الرغم من تماسكها “الظاهري”، والذي يُحسب لها حتى الآن فيما يتعلق باحتواء خلافاتها وتناقضاتها. إلا أن التوافق على برنامج حد أعلى للبناء يستوجب مزيداً من الوحدة والتماسك، والتحدث بلسان واحد. ومُسايرة المُستجدات التي طرأت وتطرأ على الساحة السياسية داخلياً وخارجياً، على غير ما يحدث الآن من تشاكس وتباين في وجهات النظر بين مكونات التحالف الحاكم، وأيضاً الخلافات التي تطرأ بين المدنيين والعسكريين بين فينة وأخرى، من قبيل المُساجلات التي تمت الأسبوع الماضي بين السيد “والي ولاية الخرطوم”، وفصيل من قوات الشرطة. أو التوترات بدعاوى تغول كل مكون على صلاحيات الآخر، أو لغير ذلك من الأسباب، الموضوعية أحياناً، من قبيل عدم اكتمال إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والشرطية حتى الآن، ومدى مشاركة المدنيين في هذا الجانب. بالإضافة لأسباب “ذاتية”، يغذيها “الفلول”، أملاً في إحداث أكبر شرخ ممكن بين شركاء الانتقالية. مدفوعين في ذلك برغبة عارمة في الانتقام من كُل شيء، وكُل أحد.

وهناك المستجدات على صعيد العلاقات الخارجية، والتي تشهد الجديد كل يوم، وضرورة ملاحقاتها وقيام كل طرف من أطراف التشكيلة الانتقالية بواجبه تجاهها. وأن يستوعب المدنيون قواعد اللعبة، ويلعبوا وفقها، بدلاً عن إضاعة الوقت في مناقشات “سلفية” تتناسل فيها الأسئلة دون إجابات. وفي هذا فإن الواقعية مطلوبة، ومن الضروري التحدث بوضوح، عن أن السودان لا يعيش عهداً ديمقراطياً في سنوات الانتقال الوئيدة هذه. بل يؤسس فيها لديمقراطية قادمة بعد سنوات، وهي – أي الديمقراطية القادمة – رهينة بأداء التشكيلة الانتقالية، في ردم الهوة السحيقة، ما بين الديكتاتورية المقيمة، والنظام الديمقراطي. ولتحقيق مكاسب شعبية، يظهر فيها قيادات “تحالف قوى الحرية والتغيير” كفاعلين، بدلاً عن التوقف عند محطات بعينها. وأن لا يقبع معظمهم في منزلة بين المنزلتين باتباع أسلوب “الحرد”، والخطاب الحاد بمعنى “نريد كل شيء أو لا شيء”. فقد حان الوقت ليمارس ساستنا السياسة،  ويمضوا بنا على طريق الانتقال الوعر والطويل. وأن يُحسنوا كتابة ما يليهم من فصول في سفر “النموذج السوداني”، الذي يتخلق كل يوم، وتتغير ملامحه كلما أصبح صباح. وهي سمة التحول والإنتقال، في كل وقت وحين.    

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى