الرأي

المصالحة والمضي قدماً 

عبدالله بشير

لا مستقبل بدون صفح
ديذموند توتو
سنوات الحرب الأهلية الطويلة في السودان أحدثت دمار شاملا في كل المجالات، والتدمير الذي أحدثه العنف في النسيج الاجتماعي لا يصدق. وقسم السكان عن طريق إضعاف الثقة الاجتماعية بين الأفراد، وقضى على المعايير والقيم والمؤسسات الاجتماعية التي كانت تضبط التعاون والعمل الجماعي بين المجتمعات. واستخدمت الأنظمة الاستبدادية سياسة فرق تسد من أجل السيطرة على الأطراف والبقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة. وكانت الدولة عنصرا أساسيا في تلك النزاعات. لذلك نجد أن النزاعات في السودان معقدة بصورة يصعب تخيلها، إذ أن النزاعات في السودان تأخذ بعدين، ولا يمكن تحقيق سلام شامل وتصالح اجتماعي بدون معالجة العبدين كحزمة واحدة. البعد الأول هو صراع الدولة مع المجموعات الرافضة لسياستها، الحرب الأهلية الداخلية بينها وبين المعارضين. أما البعد الثاني؛ فهو صراع المجموعات العرقية فيما بينها سواء كان ذلك في المناطق التي تسيطر عليها قوى الكفاح المسلح، أوالمناطق التي تقع تحت سيطرة الحكومة، وفي كليهما الدولة متورطة في تلك النزاعات، وذلك بدعم جماعات عرقية معينة ضد أخرى. وبدلا من أن تكون الدولة محايدة على الأقل في الصراعات التي تنشأ بين المجموعات العرقية فيما بينها، إلا أن الدولة نفسها تتآمر ضد سكانها من أجل مكاسب سياسية! لعمري تلك خسة ما بعدها خسة وسوف تظل نقطة سوداء في تاريخ الدولة الوطنية. لذا رأينا أن الوقوف على هذه الحقائق قد يساعد على إعادة بناء النسيج الاجتماعي وتحقيق المصالحة؛ فبعد الفراغ من معالجة القضايا السياسية لابد من الالتفات إلى قضية المصالحة الاجتماعية، التي بدونها لن يتحقق استقرار. وأشير هنا بأنني كنت قد تناولت في مقالات سابقة مسألة العدالة الانتقالية، وشرحت فيها كيفية التعامل مع الموروث المتراكم عبر عقود من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وإعادة فرض المساءلة القانونية، وإصلاح مؤسسات الدولة التي كان لها يد أو كانت يد الحكومة في تلك الانتهاكات، ومنع تكرار ذلك مستقبلا…أما في هذه المقالات سوف أركز على العدالة الإصلاحية.. وأعني بها تلك التي تعالج التصدعات الاجتماعية وتقود إلى إعادة الوئام في المجتمع، مع إيراد بعض النماذج في محيطنا الأفريقي، وتبيان كيف عالجت تلك الدول بنوع من الحكمة والبصيرة الانقسامات العرقية، وحققت المصالحة والاستقرار.
والمصالحة التي أعنيها هنا، هي إصلاح العلاقات التي تضررت نتيجة لسنوات من الانقسامات والاحتراب. والمصالحة بين المجتمعات التي باعد بينها النزاع، وذلك لا يتم بتقليص الانتماءات بين الجماعات المتخاصمة. بل بإيجاد سبل للدخول في علاقات جديدة تتجاوز سنوات النزاع، وتتجاوز الماضي الأليم. وذلك بإحياء قيم المجتمع وإعادة بنائه من جديد، والتركيز على معالجة الانقسامات الاجتماعية، وإصلاح أي إقصاء وظلم حصل في الماضي. وذلك يعني أن جوهر المصالحة تكمن في النظر معا نحو المستقبل، وإيجاد تصور مشترك للمستقبل، ومعالجة نقاط النزاع بصورة مرضية لجميع الأطراف، والتصالح لابد أن يشتمل على منظور أوسع من الخطابات والاجتماعات السياسية الشكلية؛ فالسلم الدائم لا يتم التخطيط له على مائدة التفاوض مع مسؤولي الدولة فقط. بل هنالك مؤسسات اجتماعية راسخة تكونت نتيجة لسنوات من التراث، وهنالك تاريخ مشترك وعيش في مكان واحد بين الجماعات المتخاصمة، وذلك يتطلب حكمة وبصيرة في معالجتها ووعي كامل بجميع التعقيدات. والصراع في السودان وإن كان يوحي بأنه صراع بين الدولة ومجموعات ترفض سياستها، ولكن تلك نصف الحقيقة. النصف الآخر هو أن الدولة ورطت بعض أو استخدمت بعض القبائل في العديد من النزاعات، نيابة عنها، وهنالك خصومات أخرى بين الجماعات نفسها التي تقاتل الحكومة نتيجة الطموح السياسي بين قادتها أو اختلاف الأهداف بينهم. وبالتالي حتى إذا تم تسوية النزاع سياسيا بين الدولة والجماعات التي تقاتلها؛ فلن يؤدي ذلك إلى استدامة السلام، مالم يتم ترميم العلاقات ومداواة المشاعر وتضميد الجراح ومعالجة العلاقات التي تضررت في تلك المناطق. وذلك يستوجب توسيع نطاق تفكيرنا عن التحول والمصالحة الاجتماعية. ونأخذ الجوانب الأساسية فيه والتي تتمثل في الحاجة للتغير أو الرغبة فيه، ووضع الهدف الأساسي من المصالحة. لأنه من المعروف إذا تعرض فرد أو جماعة لأي ضرر؛ فإن هذا الفرد أو الجماعة سيسعي في هذه الحالة لرفع الضرر عنه بكل الطرق. لكن الطرف الآخر المسؤول عن ذلك الضرر يريد في الوقت نفسه أن يبقى الحال كما هو دون جبر الضرر أو رفعه. ونظرا لأن الناس مختلفون. بالتالي أساليب ومحاولات فض النزاع قد تتنوع، تنوع ثقافات وأديان ومعتقدات البشر أنفسهم، معرفة ذلك يحملنا إلى السمات المسببة للخلاف التي تميز الطبيعة البشرية(أنانية- تحيز-وغير ذلك من الصفات). عليه قد تجد أن أحد طرفي النزاع يخالف غرض الطرف الآخر؛ فكل طرف من الأطراف يؤسس وجهة نظره وفقا لرؤيته لأسباب النزاع، بموجب ذلك يوجه إدانته لخصمه، أما تجاوزاته والانتهاكات التي ارتكبها، لا يذكرها أو لديه مبرر لها. في هذه الحالة عند إجراء المصالحة لابد من الانطلاق من أسباب الخصومة؛ فإذا كانت أسباب الخصومة على سبيل المثال اختلاف القيم بين الطرفين-فرضها من طرف ورفضها من الطرف الآخر، أو سبب الخصومة ناتج عن صراع على حقوق الرعي والموارد الطبيعية، في هذه الحالة فإن هدف المصالحة يجب أن ينصب على المصالح المشتركة التي تجمع المتخاصمين والعمل على إنهاء الصراع بالتصالح والتسامح ودفع الطرفين إلى تفهم الطرف الآخر. أما إذا كان الخلاف أو أسباب النزاع هو الاختلاف حول التمثيل أو المشاركة في السلطة؛ طريقة حل النزاع في هذه المسألة يجب أن يكون الهدف منها التوصل لمشاركة عادلة في السلطة. والمضي قدما والنظر نحو المستقبل بجدية، والتأكد على أهمية توسيع دائرة التفكير بتحديد الالتزامات والمسؤوليات قدر الإمكان وتفادي التفكير الضيق في التعامل مع أخطاء الماضي.
إن هذه المسائل دائما تحتاج إلى ماهو أكثر من مجرد عقاب لمجرمي الماضي، التحول في هذا الشأن عملية إصلاح طويلة المدى(إصلاح ذات البين) أو يمكن تسميتها بالعدالة الإصلاحية. التي تقود إلى ترميم العلاقات وتحويل المواقف من حالة العداء إلى حالة التعايش والتعاون. بالتالي أي هدفين متعارضين في عملية المصالحة ينبغي استبعادها، بمعنى يجب التركيز على هدف واحد في حالة السعي للمصالحة، مثل الثأر والنسيان، والمضي قدما. الثأر يعني العقاب وهو محاولة لتحقيق العدالة، أما النسيان يعني التسامي فوق الجروح ويعني أيضا تخطي العدالة العقابية. هنالك مثالان جيدان لتوضيح هذه المسألة. المثال الأول هو تجربة جنوب أفريقيا. حيث تجاهل معظم البيض خاصة في الجانب الناطق بالأفريكانز جلسات لجان الحقيقة والمصالحة. وحجتهم في ذلك بأن النسيان والمضي قدما خير من نكئ الجروح القديمة. أما المثال الثاني هو تجربة موزمبيق؛ فبعد ثلاث عقود من الحرب الأهلية التي حصدت أكثر من مليون نسمة والآلاف ممن تعرضوا لأبشع صور التعذيب والوحشية، بعد توقيع اتفاق السلم تم إعلان عفو عام عما ارتكبه الطرفان من انتهاكات إبان سنوات الحرب، وكان كلا الطرفين يعرفان حق المعرفة مدى مسؤوليتهما وحجم جرمهما؛ كما تفهم الطرفان أن الثأر(العدالة العقابية) قد يؤدي إلى ثأر مضاد وإلى دوامة من الانتقام المتبادل. من ثم قرر أهالي موزمبيق التعامل مع الماضي بأعراف التداوي التقليدية والمصالحة والتعافي على المستوى المحلي والمضي قدما.
الأعراف المحلية تلعب دورا مهما ومؤثرا في إرساء دعائم الاستقرار والمصالحة، وتلك الأعراف والتقاليد هي التي حفظت العلاقات بين الجماعات داخل الدولة الواحدة لآلاف السنين. إلا أن دخول الاستعمار الغربي حول من طريقة فض النزاعات في إفريقيا. كما قال كينيث أومجيجه. حيث ذكر: قبل الاستعمار كان لدى مختلف مجتمعات إفريقيا مفهومها التقليدي والعرفي الخاص بها في المصالحة وفض النزاعات. وتلك الأعراف متصلة بثقافة الناس ورؤيتهم الكونية التي تحتوي على مضمون ديني عميق(فلسفة الألوهية والحياة الجماعية والوجود). قبل الاتصال بالغرب كانت الديانات الإفريقية التقليدية والإسلام تشكل الثقافة ورؤية العالم والحضارة في شتى بقاع القارة ولو أن جيوبا من الثراث المسيحي الأرثوذكسي ترجع إلى القرن الأول الميلادي وجدت في مصر وإثيوبيا(*). لقد أثر دمج الاستعمار لدول إفريقيا بالحضارة الغربية من بينها السودان بالطبع على طبيعة معالجة النزاعات في تلك البلدان، لأن حضارة الغرب ولازماتها من لبرالية متعددة الأوجه وعلمنة ثقافية، أزاحت تلك الأعراف التقليدية وقللت من دورها كفاعل أساسي في عمليات المصالحة وفض النزاعات. والتأثير الراديكالي الذي أحدثته ثقافة الغرب دفع البعض إلى القول بعدم صلاحية تلك الأعراف في مواجهة البنى الاجتماعية الحديثة. لكن ذلك القول مشكوك في صحته فكريا وعمليا. لأن الواقع أثبت أن التراث يتسم بتنوع هائل ودينميات متشابكة لها تأثير كبير على المجتمعات حتى تلك التي تمدنت. وحتى بعد انتهاء الاستعمار هنالك العديد من الأنماط التراثية الثقافية والدينية لا تزال تعلب دورا أساسيا في عدد كبير من المجتمعات والمناطق. وحتى تلك العلمنة الثقافية التي جاء بها المستعمر(تمت أفرقتها بعد خروج المستعمر) في قول سديد للصديق حامد آدم. والناظر للدول الإفريقية يجد أن التراث الأفريقي هو الذي يلعب دورا أساسيا في جميع مجالات الحياة، يكاد المرء أحيانا لا يجد أي أثر لتلك العلمنة الثقافية الأوربية في العديد من الدول الإفريقية اليوم. 
الفلسفة الأهم التي تشكلت على أساسها الأعراف التقليدية في عمليات المصالحة وإصلاح ذات البين في أفريقيا تتلخص في مفهوم “الابونتو” وتعني الشخصية الجماعية وتلخصها الأقوال المأثورة للزولو والهوسا. يقول الزولو(امونتو نجامنتو نجابانية) “أنا إنسان لأني أنتمي وأشارك وأتقاسم”.و يقول الهوسا(أبونتو أونجامنتو نجابانية أبانتو) “الإنسان إنسان بمن حوله”.هذه الفلسفة يتشاركها معظم إن لم يكن كل القبائل الإفريقية، وهي فلسفة مسيطرة ومتعددة الأبعاد تحض على قيم التصالح والتسامح والتعاون الجماعي والسخاء والاحترام والتضامن والعفو والمشاركة، هذه الفلسفة تتجاوز مسألة فض النزاعات. وإنما تشتمل على مفهوم أوسع له جذور عميقة داخل تربة المجتمعات الإفريقية، وهذه الفلسفة عكس فكرة استحالة فض بعض النزاعات المتأصلة في بعض النظريات الغربية. وتجدر الإشارة هنا بأن منظومة العدل التقليدية التي طبقت في جنوب إفريقيا ما بعد التمييز العنصري، لجنة الحقيقة والمصالحة، والتي طبقت بدرجات متفاوتة، في مختلف البلدان الأفريقية المنقسمة بعد الحروب والنزاعات؛ كبوروندي ونيجيريا وسيراليون وجنوب أفريقيا ويوغندا…. كانت مستمدة فلسفيا من عرف(الابونتو). لذلك نجحت تلك الدول في إعادة الاستقرار بعد سنوات من الصراع. أما الدول التي طبقت فلسفة المصالحة التي تطورت من تقاليد أوربية خالصة، ما لبث أن عادت تلك النزاعات من جديد. ولا زال هناك أدبيات سائدة في دراسات السلم تقوم على فكرة أن القيم والأعراف والمؤسسات التي نشأت عن مواريث غربية تتمركز حول أوروبا فيما بات يعرف(بالتراث المسيحي اليهودي) لها طابع كوني يمكن نقلها بسهولة إلى سائر المجتمعات(**).هذا الادعاء بالتأكيد غير صحيح، المجتمعات الأوربية طورت مفاهيم خاصة بها، تأسيسا على تراثها الثقافي والديني. كما لأفريقيا أيضا تاريخ طويل من الأعراف والمؤسسات والقيم المحلية التي نشأت وترعرت محليا في عمليات فض النزاعات، وكانت تحقق قدرا كبيرا من من النجاح في حفظ النظام وضمان التعايش السلمي بين الجماعات قبل قدوم المستعمر حتى. وفي ذلك يقول ديدي ياكوبو(فض النزاعات في معظم
المجتمعات الإفريقية كان يحكمه مبدأ الإجماع والمسؤولية الجماعية والتضامن الجماعي، وكان هذا يعني أن الجماعات كانت مسؤولة بشكل جماعي على التناغم والوئام الناجمين عن أفرادها). لقد أثبتت التجارب أن التسويات الساسية التي تتم بين النخب الساسية في السودان بالذات، أثبتت فشلها وعدم صمودها طويلا. لأنها في الأساس تقوم على افتراض أن التمثيل السياسي وحدة كافي لإحلال السلام، وذلك افتراض غير صحيح، ونتائج الاتفاقيات السابقة تؤكد ذلك، السلام الدائم والمصالحة الوطنية تتطلب في المقام الأول إشراك الأطراف المتأثرة بالنزاع حتى يكون لها تأثير في واقعهم الحياتي اليومي، بحيث تعالج مظالمهم وتضميد جروحهم وتصلح فيما بينهم. وخبرة الزعماء المحليين سوف تساعد على القيام بعمليات أشمل وأكثر تأثيرا على المجتمع، وتهيئة الظروف للتعايش الاجتماعي من جديد، وإعادة بناء الثقة الاجتماعية التي انعدمت نتيجة لسنوات من الاحتراب. 
الأعراف التقليدية لا تزال حية وتصلح لإقرار السلام واستدامته والحفاظ عليه. والبلدان التي دمجت الأعراف التقليدية مع المناهج الحديثة لإدارة النزاعات حصل فيها استقرار جيد. وهذه النتيجة توصلت إليها دراسة أجراها معهد الولايات المتحدة للسلم، في تسعينيات القرن الماضي، في دول القرن الأفريقي(السودان والصومال وأثيوبيا). وخلصت تلك الدراسة إلى أن تآكل سلطة الحكام والساسة التقليديين هو المسؤول جزئيا عن عديد من النزاعات المستمرة في تلك الدول. وأشار التقرير بأن المشكلة تكمن في أن النخبة الحديثة “البرجوازية الصغيرة” أفلحت في اغتصاب السلطة من الساسة التقليديين الذين يحظون باحترام كبير وواسع من قبل المجتمع، أكثر مما تحظى به النخبة السياسية الحديثة، التي استغلت تلك السلطة في تغليب مصالحها الشخصية الضيقة، وخلقت بذلك نزاعات عديدة لشعوب تلك البلدان. كما لاحظت الدراسة أن الحروب الأهلية في تلك البلدان تسهل إدارتها متى ما تم الاستعانة بالأعرف التقليدية، وأن السلطات التقليدية شيوخ عمد زعماء العشائر، والتنظيمات النسائية والمؤسسات المحلية والاتحادات المهنية والشابية والطلابية لها أدوار مهمة في دعم جهود بناء السلام واستدامته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى