حوارات

المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء فايز السليك لـ (الديمقراطي): عندما ضاق بنا الاستبداد أخذت حقيبة خفيفة ويمَّمت وجهي شرقاً

حوار- إحسان عبدالعزيز
** فايز السليك، من القيادات الإعلامية والسياسية الشابة التي أضناها الترحال والسفر الطويل في رحلة البحث عن الوطن المفقود طوال ثلاثين عاما.. التقيته أول مرة بمدينة أسمرا في العام 98.. ويقول فايز في ذلك “عندما ضاق بنا الاستبداد يممت وجهي شرقا”. كان حينها شابا يافعا يشق طريقه بكل الثقة في النفس نحو أحلام جيله في وطن حر معافى.. مقاتل لا يشق له غبار في صفوف قوات التحالف السودانية، إعلامي متميز في إذاعة “صوت الحرية والتجديد”، وفي صحيفة الفجر، وبين هذا وذاك “رؤى” إصدارة إعلام التحالف السياسية المتميزة، ثم مراسلا لعدة صحف ومنها “الحياة اللندنية”. كتب عن التجمع الوطني الديمقراطي بقلم جريء وتابع حتى اتفاقيات السلام.. نيفاشا والقاهرة ثم اتفاقية أسمرا للشرق.. عاد كإعلامي ضمن قافلة القائد عبد العزيز الحلو لعودة أول لواء من الجيش الشعبي من الجبهة الشرقية للخرطوم في السابع من يوليو/2005.. أصبح بعدها مديرا لتحرير صحيفة أجراس الحرية.. وبقى بالوطن حتى 2011 ليعاود الترحال مرة أخرى لذات الاستبداد ثم يعود للوطن بعد الثورة ويشغل الآن مستشارا إعلاميا لرئيس الوزراء.. كان لنا معه حوار امتد من الشرق حتى العاصمة مرورا بعدة محطات مليئة بالشجن والأمل.. بالحب والإحباط، كرحيل النوارس حتى بلوغ المراسي.. فإلى مضابط الحوار:


* البدايات.. سياسياً وإعلامياً؟!
ــ بداياتي؛ كانت صُحفية، هذا ما كنت أعمل له، منذ المدرسة المتوسطة، حين كان الأساتذة يسألوننا عن أحلام المستقبل.. وماذا تتمنَّى أن تكون؟! كنتُ أردد قصيدة المدرسة “يا ترى ماذا أصير عندما أغدو كبيرا؟!”. كانت تعجبني فكرة أن أكون صُحفياً؛ وهي فكرة تولَّدت في داخلي منذ متابعة الأخبار العالمية، وأخبار الرياضة، والسياسة، والثقافة. وكان الفضل لخالي مصطفى؛ الذي كان يُرسل لي الصُحف من الخرطوم ــ مع أي عائدٍ من هناك ــ وكنت أحب الصُحف الرياضية أكثر. ثم تطورت الأفكار؛ فظهرت ميولي لكتابة القصة القصيرة، فقررتُ دراسة الإعلام، حتى يكون مدخلي للأدب. لكن؛ بعد استيلاء الإسلاميين على السلطة ــ عن طريق انقلابهم العسكري المشؤوم ــ فكرتُ في أن إسقاط النظام؛ لن يتم إلا عبر عمل منظم. فقررتُ الانضمام لتنظيم مؤتمر الطلاب المستقلين، لما كان يطرحه من شعارات حول الهُويَّة، الاقتصاد التعاوني، والاشتراكية السودانية، ورفض الدولة الدينية. كانت الجامعات؛ منابر المقاومة الوحيدة، مع بداية أشرس هجمات الاستبداد ــ حينها ــ وشهدت تلك المرحلة؛ بداية إنشاء بيوت الأشباح ــ سيئة السمعة ــ وشاهدنا خلال تلك الفترة القبيحة، كيف يدخل ما يُسمُّون بـ”المجاهدين”، إلى سوح الجامعات ــ بما في ذلك أساتذة إسلاميين لا الطلاب وحدهم ــ فكثيراً؛ ما يتحوَّل النشاط السياسي، إلى سوحٍ للاستعراض العسكري بالأسلحة، والسيخ، وهتافات لكتائب “الخرساء والفجر المبين”.
حضرت مقاطعة امتحانات طلاب جامعة الخرطوم؛ وكيف اقتحمت مليشيات الإسلاميين ــ حينها ــ داخليات الطلاب، واقتادت البعض منهم بقوة وصلف، لأداء الامتحانات!! وكيف كانوا يخزنون السيخ في مسجدي “البركس، والجامعة”!!.
وأذكر أنه في العام 1995م؛ كنَّا نُشارك بجامعة الجزيرة في ركنٍ للنقاش، وكان ــ وقتها ــ يعد الإسلاميون عُدَّتهم للذهاب إلى الجنوب. سخر متحدثون من الفكرة؛ فنشروا القوات لحصارنا، لكن لم يتراجع المتحدثون منَّا. وبعد عشرين عاماً؛ التقيت بأحد الإسلاميين ــ الذين تركوا التنظيم ــ وهو خريج تلك الجامعة؛ ومن الذين وجهوا نقداً للتجربة، وحكى كيف كان ملتزماً ومؤمناً بفكرة الجهاد، وغيرها من شعارات الدجل حينئذٍ!! فرويت له قصة ركن النقاش في جامعة الجزيرة؛ فقال إنه كان من المشاركين في تلك الفوضى، وكان بإمكانهم قتلنا جميعاً، لأننا كنَّا ــ من وجهة نظرهم ــ خوارج، وهم مجاهدون. كان ذلك؛ خطاب التغييب وتغبيش الوعي ــ في الحركة الإسلامية ــ وهي ذات الحركة؛ التي أعلنت علينا الجهاد داخل سوح العلم، ووضعت أسماءنا ضمن قائمة إهدار الدم لكل من ينتقدها.
عموماً؛ تقاطعت الاهتمامات، ما بين السياسة، والأدب، والصحافة. ومعروف؛ أنه توجد تقاطعات كثيرة بين هذه الاهتمامات. ويكفي أن أشير؛ إلى أن أبرز كتَّاب الرواية عالمياً، مثل: غابريال غارسيا ماركيز، وإرنست همنغواي، كانوا صُحفيين.
السياسة والصحافة ــ عندي ــ يُكملان بعضهما البعض؛ فأنا مع الصحافة الحرة والموضوعية. وفي ذات الوقت؛ لا أخفي انحيازي التام للصحافة الديمقراطية، والتي تتبنَّى قضايا الشعوب، وتنافح الدكتاتوريات بلا مساحيق. ومع أنني؛ لا أمارس ــ حالياً ــ أي نشاط سياسي مباشر، أو صُحفي، إلا أنني أتعاطى السياسة، بطريقة بعيدة عن العمل التقليدي. مثلما سوف أظل صُحفياً؛ ولسوف أعود إلى بيتي ــ بعد انتهاء الفترة الاستثنائية هذه ــ لأنني لا أميل إلى العمل الرسمي. أنا صُحفي مُسيَّس، وسياسي لا أمارس السياسة ــ بشكلها التقليدي ــ مع احترامي التام لكل السياسيين، لإيماني بضرورة وجود كيانات منظمة.
لكن؛ ولمَّا لم تكن المساحة متاحة للعمل في صحافة النظام، الذي سيطر على كل شيء ــ في أزمنة التمكين والهوس الديني ــ وكان يصعب ممارسة العمل السياسي ــ بسهولة ــ خارج أسوار الجامعات، مع وجود مشاكل النشر للكتابات الإبداعية. وكذلك؛ يواجه التعبير السياسي قيوداً، ظهرت عند اشتغالي في صحيفة ” الخرطوم” ــ التي كانت تصدر من القاهرة ــ وقبلها التعاون مع ” الشرق الأوسط”. مثلما تعاونتُ؛ في الصحافة الفنية، والاجتماعية، كمحاولة لتمرير آراء، ومواقف سياسية وفكرية، وأجندة تقاوم الاستبداد. ضاقت الفرصة؛ فأخذت حقيبة خفيفة ــ ربما منحني لها صديق، أو قريب ــ ويمَّمتُ وجهي شرقاً. فسافرت إلى إريتريا عن طريق الإمارات العربية المتحدة في العام 1997م.
* تجربة الجبهة الشرقية.. وقوات التحالف السودانية.. ماذا أضافت للمقاتل فايز السليك؟!
ــ بعد أن سُدَّت مسالك التعبير ــ منتصف التسعينيات ــ سافرتُ إلى إريتريا؛ وكانت تجربة ثرَّة في مجالات السياسة والإعلام المعارض. التحقتُ بالتحالف الوطني السوداني؛ عملت في “إذاعة الحرية والتجديد”، وكانت إذاعة صبيَّة متوهِّجة، وكتبتُ عدداً من البرامج، وقدَّمت بعضها، مثل “أوراق مقاتل”. وهو برنامج؛ يحكي لوعة وشوق مقاتل إلى وطنه، أهله، والده، والدته، حبيبته، أو زوجته، الأصدقاء. تعمل الرسالة؛ على تصوير واقع النضال في شرق السودان، وتعبئة الناس ضد نظام الإنقاذ. وكان هنالك ــ أيضاً ــ برنامج شهير حمل اسم “في رحاب الوطن الجميل”. وعملت كذلك؛ في “أمانة الإعلام”، بوحدة النشر والبحوث، وأصدرتُ نشرة فكرية باسم “رؤى”، تهتم بنشر مساهمات المناضلين، وإدارة حوار حول الهُويَّة، وعلاقة الدين بالدولة، والخطاب السياسي.
وعلى المستوى المهني؛ قدَّمتني التجربة إلى صحيفة محترمة، هي “الحياة” اللندنية، كمراسل لها من أسمرا، وذلك لست سنوات. وتحية خاصة؛ للراحل الأستاذ أبو القاسم حاج حمد، الذي ساعدني في الالتحاق بالصحيفة، التي ساهمت في تغيير مسار حياتي هناك، ومثَّلت لي إضافة وخبرة في التحرير والكتابة، وفي معرفة كثير من التفاصيل، بعد أن غطيت ــ صُحفياً ــ التطورات العسكرية، والسياسية، والسلمية، في “شرق السودان، الجنوب، دارفور، النيل الأزرق، جنوب كردفان، الحرب بين إريتريا وإثيوبيا”. وتجوَّلتُ بعدَّة مناطق؛ في أقصى جنوب السودان، حين كنَّا دولة واحدة، وزُرت مناطق سيطرة حركة تحرير السودان في دارفور، وكانت أول زيارة لصحيفة عربية إلى دارفور. مثلما منحتني التجربة؛ فرصة التعرُّف على قياداتنا السياسية عن قُرب، ومعرفة طرق تفكيرهم وعملهم، وكنت أكثر سعادة بتعرُّفِي على قائد عظيم كدكتور “جون قرنق دي مبيور”. وأشير إلى الراحلين ــ فقط ــ أمثال الأستاذ الأنيق التجاني الطيب، أو شيخ الصُحفيين ــ كما كنتُ ألقبه ــ والإمام المهذب السيد الصادق المهدي، والرجل الشهم الدكتور عمر نور الدائم. وأب مناضلي الهامش؛ الأستاذ أحمد إبراهيم دريج، ورائدة النضال النسوي الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم.
هذه تجربة ثرَّة؛ بكل إيجابياتها وسلبياتها. بالطبع؛ ليست كلها إيجابيات، فثمَّة أزمات خاصة ألقت بظلال سالبة. لكنها؛ أيضاً تعتبر إضافة لمسيرتي وتجربتي الشخصية. ويكفي أنني ــ في لحظات ــ ضِقت مرارات بسبب مواقفي السياسية. وحتى على المستوى الأسري؛ ظللتُ منقطعاً سنوات عن أهلي، بل خلال سنتين لم يعرفوا عني شيئاً. وظل والدي يذرف الدمع ــ كلما جاءت الأخبار ــ من هناك ــ عن الحرب بين إريتريا وإثيوبيا، وسط شائعات بوجودي ضمن مجموعة ماتوا غرقاً. كل هذا؛ عرفته بعد عودتي إلى السودان، وما كان لي طريقة اتصال. كنَّا نعيش شظف العيش؛ ونتقاسم “الحلو والمر”. وهنا؛ تحية خاصة للصديق العزيز إسماعيل محمد علي وادي، الذي قاسمنا ظروفاً صعبة، ودفع ثمنها. وشكراً للأصدقاء؛ من خريجي مدرسة مؤتمر الطلاب المستقلين ــ في الخليج والمهاجر ــ خاصة الصديق الدكتور محمود تاج الدين، الذي لم يقطع تواصله رغم خروجنا من التحالف. والتحية للصديق الجميل؛ خالد محمد طه، الذي فتح لنا بيته خلال أحلك الظروف. ولعشرات من الأصدقاء والصديقات الإريتريين، الذين احتملونا بكل تفاصيلنا، ومنحونا الدفء والمحبَّة الصادقة.
* انسلاخك عن التحالف الوطني/ قوات التحالف السودانية.. الأسباب؟!
ــ كانت تجربة التحالف؛ من التجارب المهمة في حياتي، فالتجربة ليست كلها شراً مطلقاً. وليست كلها أخطاء، يكفي أنها ضمت آلاف الشباب المخلصين، مثلما شارك فيها وطنيون، بمالهم، وجهدهم، ووقتهم، بعد أن ظلوا يقتطعون من مرتباتهم الكثير من أجل دعم المعارضة. ذكرت أسباب تركي للتحالف ــ في استقالة مكتوبة ــ وقبلها؛ كنتُ قد كتبتُ مذكرة طويلة لرئيس التنظيم، العميد (م) عبد العزيز خالد، ونائبه العميد (م) عصام الدين ميرغني. تحدثتُ فيها عن ضعف التنظيم؛ وضرورة تطويره، وبناء المؤسسات الديمقراطية. وهي ذات الأسباب؛ التي جعلتني أستقيل مع الصديقيْن بكري الجاك، وعبد البارئ العجيل. رافضين انتهاكات حقوق الإنسان؛ والقبضة المركزية في التنظيم، والمشاكل الإدارية والسياسية. وقد ظللتُ أُقدِّم رؤاي ــ بطرق مختلفة ــ كانت تركِّز على أهمية احترام المقاتلين، إثراء الحوار، والانسجام مع قوى التجمع الوطني الديمقراطي، وضبط الخطاب السياسي، وتجنب الدخول في عداءات ومناوشات مع الرفاق في العمل المعارض. هذه الأسباب ــ كما هي ــ ويجب وضعها في حيِّزها الزماني والمكاني. مثلاً؛ أنا ومعي بعض خريجي تنظيم مؤتمر الطلاب المستقلين، جئنا إلى التجربة باعتبارها امتداداً للمؤتمر، فيما جاء آخرون ــ من قوى سياسية أخرى ــ ربما بفهم مماثل، أو لغيره من الأسباب. فهذا الوضع جعل الأمر معقداً؛ فتحوَّلت المنظومة إلى صراعات ما بين القادمين من المؤتمر، والكيانات الأخرى، وما بين العساكر والمدنيين، وما بين المدنيين أنفسهم. لم يكن الجميع ــ منسجماً ــ فقد تعامل معنا الرفاق كمنتمين لحزب المؤتمر مثلاً، وهكذا. ليس أمامي إلا القول؛ إنها كانت تجربة جمعتني مع رفاق عملنا سوياً ــ خلال فترات صعبة ــ وهم يعملون في سياق مختلف تماماً. لذلك أرى أن استقالتي تاريخ، وقراءة شخصية، ربما تحتاج إلى نقاش أكثر عمقاً. وأتمنى أن يستوعب الأصدقاء والصديقات ــ في التحالف ــ أن ذلك كان درساً وانتهى، وأن ظروف العمل ــ هنا ــ تختلف تماماً عن ظروف العمل خلال التسعينيات. وبالتحالف مجموعة من الشباب والشابات الذين يحملون هم الوطن، مثلما كان فيه مجموعة من المقاتلين الأشاوس، والذين قدَّم البعض منهم روحه ــ دون انتظار لأي ثمن ــ وكان يمكن أن يكون أي مناضل ــ من الموجودين حالياً ــ مشروع شهيد. أعتقد؛ أن تجربة العمل المعارض بأسمرا، وشرق السودان، في حاجة لدراسة عميقة، ومسح الغبار الكثيف على تاريخ قدَّم فيه كثيرون نماذج للوطنية والفداء. وللأسف؛ أصبح بعضهم نسياً منسياً.
* وماذا عن تجربتك في الحركة الشعبية.. وأين تقف الآن في ظل الانقسام الذي حدث بها؟!
ــ كانت الحركة الشعبية تجربة ثرة؛ ارتبطتُ بها فكرياً وسياسياً، فقد جذبتني شعارات “السودان الجديد”، أيام النضال منذ عام 2000م. وبعد استقالتي من التحالف والوحدة ــ آنذاك ــ مثلما ربطتني علاقات قوية مع كثير من قياداتها. فكرتُ بعد الحرب؛ في جبال النوبة، والنيل الأزرق، وانفصال/ استقلال جنوب السودان، أن أتفرَّغ للعمل التنظيمي مع الحركة ــ لأول مرة ــ لأنني لم أكن مفرغاً منذ تركي للتحالف. وقد أدرتُ حينها حوارات عميقة مع الرفيقيْن ياسر سعيد عرمان، وفاقان أموم، حول كيفية توصيف علاقتي ــ حين كنَّا في أسمرا ــ إلا أنه بعد انفضاض سامر الفترة الانتقالية، وانقضاء أيام العسل، قررتُ التفرغ تماماً للعمل التنظيمي. ومع ذلك؛ حالت عوامل كثيرة دون ذلك. وقد رأيت بذور الانشقاق كامنة في العمل التنظيمي والسياسي للحركة، وكتبت عن ذلك مقالاً في عام 2013م. وفي كتابي “الزلزال.. العقل السوداني ذاكرة مثقوبة وتفكير مضطرب”؛ تنبأت ببروز تيار قومي في جبال النوبة، ما لم تتم معالجة قضايا كثيرة تنظيمية وسياسية. عموماً؛ من الصعب تقييم وإعادة تقويم تجربة كبيرة ــ مثل تجربة الحركة الشعبية ــ خلال أسطر، أو خلال فترة زمنية محددة. فهي تجربة مزيج من أفكار حركات التحرر الوطني الإفريقي؛ ومن أفكار القوى السياسية السودانية، وتظل مثالاً واضحاً، قدَّم آلافاً من الشهداء فداءً لشعارات آمنوا بها. وهي تجربة لحركة سودانية أصيلة نبتت في أرض سودانية محددة، ثم بدأت في الانفتاح والتمدد، ثم مرت بفترات انحسار كذلك.
حالياً؛ أحتفظ بعلاقاتي الشخصية مع الرفاق في الطرفين، منذ أن كنَّا في القاهرة، وقد تعاملنا بلا أطر، وبمفهوم قومي سوداني، بعيداً عن الانحيازات، والانتماءات الفكرية والحزبية. وما قلته عن التحالف؛ أقوله عن الحركة الشعبية، باعتبار أنها القوة الأكبر.
* من خلال كتاباتك.. عُرِفت بعشقك للمدينة الوديعة أسمرا.. ماذا تعني لك؟!
ــ إريتريا بأكملها؛ تبقى مدينة في القلب والذاكرة.. البحر الأحمر وعروسه مصوع”.. والفاتنة أسمرا. وأنت صديقتي إحسان عبد العزيز؛ كنت هناك، وتعلمين مقدار أسمرا ــ لمعظم السودانيين الذين عاشوا فيها أيام النضال المسلح ــ نحن من كنَّا هناك؛ كنَّا نحس بدفء المشاعر، وحميمية العلائق، وحبهم للسودان وللسودانيين. لا تشعر البتة بالغربة؛ ولا يقتحمك الإحساس بالعزلة، وهي مشاعر لا يحسها إلا من كان هناك، فالشعب الإريتري وديع، وطيب، وولوف. ومن السهل إقامة علائق تستمر طول العمر؛ فلا أزال مرتبطاً وجدانياً بالمدينة الوديعة، أو مدينة الربيع، وتربطني علاقات على مستويات رسمية وشعبية. ولي أصدقاء في الحكومة؛ وبعض أصدقاء معارضون، وفي إريتريا قبائل مشتركة مع السودان، لا تفرِّق بينها سوى الأوراق الثبوتية التي توضِّح دولتهم التي ينتمون لها جغرافياً، ولا نقول هويتهم. فهناك قبائل التقري، بفروعها المختلفة من “بني عامر، وحباب، ومارية، وغيرها.. تتمدد من بورتسودان وكسلا، إلى اغوردات، وكرن، ومصوع. مروراً بافعبت، ونقفة. فيما يتوزع الحدارب “الهدندوة” بتفرعاتهم وبيوتاتهم، ما بين همشكوريب وكسلا، والقاش وستيت إلى داخل إريتريا في إقليم القاش بركة من قرمايكا وساوا وملوبير إلى اغوردات وغيرها من قرى ومدن غرب إريتريا وشمالها الغربي. وهناك قبائل الرشايدة؛ على ساحل البحر الأحمر، والحدود المشتركة، من قرست إلى مستورة. هذا إضافة إلى مجموعات صغيرة هنا وهناك مثل الهوسا والبلين. هذا الواقع الثقافي؛ جعل من وجود أسر تحمل الهوى والهُويَّة للبلديْن، وإن فصلت الحدود بينها. لكن؛ لن تفصل الحدود ــ غير شك ــ ما جرى في الشرايين والأوردة.
شخصياً؛ مَدِين لأسمرا بالكثير. مهنياً مثلاً؛ اشتغلت في صحيفة “الحياة” اللندنية”، وشاركت في تغطية كثير من الأحداث، العنيفة والسلمية. واجتماعياً؛ خرجت منها بكنز علاقات. ويكفي أن أجمل قطعتين مِنِّي، لهما جذور هناك، ابني وصديقي وحبيبي “نورس”، وحبيبتي الجميلة “مراسي”.
من أسمرا؛ تعلمتُ الكثير. وللمفارقة؛ أنني علمتُ بعضاً من مكوِّنات، وتفاصيل، وخصوصية الشرق من هناك. فقد جمعتنا أيام النضال بقيادات، ومناضلي مؤتمر البجا، وجبهة الشرق، والأسود الحرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى