الرأي

المدنية البريئة والحشد خارج السياق

رؤى مغايرة
صباح محمد آدم

خلال الديمقراطية الثالثة للعام 1985 -1989 أخذ الإعلام المحسوب على نظام الجبهة الإسلامية وصحفه منحى غريبا وقتها في قضايا يمكن أن تكون عادية يفيض بها التقرير السنوي للمباحث الجنائية ويتم نشره سنويا في الصحف دون أن يثير ضجة كبيرة وسط الناس وإنما تتم فقط متابعة بعض القضايا الغريبة ويصاحبها بعض الأحيان تحليل نفسي واجتماعي ويتم ذلك باجتهاد من صحفي حصيف وكنت من المهتمين بمثل هذه القضايا وأبعادها الاجتماعية والمؤشرات التي تدلل أن ثمة خللا اجتماعيا يحدث ينبغى التنبيه له والكتابة حوله بموضوعية وواقعية.
وقتها استوقفتنا نحن الصحفيين قضية كانت مثيرة نوعا كونها ترتبط بفتاة من أسرة خرطومية معروفة وبما أن القضية كان لها بعد اجتماعي إثني فقد كانت الصحف وقتها تتبارى في الكتابة عنها في ظل ذلك لم ننتبه بأن للقصة أبعادا سياسية خطيرة كما لها أيضا تداعيات اجتماعية وثقافية كونها لفتاة مراهقة والأحاديث تشير إلى حالة اختطاف وأخرى إلى أن الفتاة هربت مع شاب تربطهما علاقة حب وكان بغرض الزواج كل الصحف كتبت عن حالة الغموض التي تشوب عملية الاختفاء ووجهت اتهامات كثيرة لأشخاص في الدوائر الرسمية مشيرة لعلاقتهم بالقضية، الأمر الذي سبب صدمة كبيرة للقراء والمتابعين في الدوائر الاجتماعية المختلفة .
وكان الأمر سيمر عاديا فالقضية أصبحت رهن التحقيق والاستمرار في نشر أحداثها يضر أولا بسير القضية نفسها مما قد يعيق عمل أجهزة الشرطة التي أزعجها كثيرا تداول الموضوع في وسائل الإعلام، والأمر الثاني أسرة الفتاة (الضحية) نفسها ولكن كان واضحا أن هنالك من يتربص بالتحول الديمقراطي وأخذ يوظف صحفه الصفراء وكتابه (الأرزقية) لمداومة الكتابة عن الموضوع بصورة تتنافى والمهنية، وهو تنظيم الجبهة الإسلامية الذي فرغ أحد كبار أعضائه من ذوي النفوذ مستغلا قرابته بأسرة الفتاة والرجل لم يخيب ظن التنظيم فكان يوميا يسجل عددا من الزيارات للصحف ويعقد مؤتمرات صحفية في استغلال واضح لأسرة الفتاة ووالدها وبما أن للرجل نفوذ واضح على الأسرة لمكانته الاجتماعية والاقتصادية لم يكن عليهم إلا الرضوخ .
نظام الجبهة الإسلامية وقتها كان هدفهم استهداف الديمقراطية خاصة وأن ثمة إرهاصات للوصول إلى سلام يوقف الحرب في جنوب السودان، وجدلا كبيرا كان يدور حول إلغاء قوانين سبتمبر المشؤومة التي كانوا عرابيها وبدأت القوى السياسية والقوى الحديثة التي قادت انتفاضة أبريل تنتح على أجواء الحرية والديمقراطية، وكأن المشهد اليوم يعيد نفسه في محاولات يائسة حيث أنه بعد أن سقط النظام البائد وكشف فساد جميع أفراده للعلن بدأوا يستخدمون ذات الآليات المعطوبة بنفس المنهج القديم وهو إثارة الناس ليس بنشر الموضوعات بمهنية أو عقلانية وهو بلا شك حق مكفول للناس وإنما ابتداع الأساليب لتخويف الناس من الفوضى حيث كل يوم تظهر قصة أو فيديو يبثونه بالشراكة مع بعض الأرزقية الذين صنعوهم من (جداد إلكتروني) وما أكثرهم يختلقون القصص والحكايات التي يتم بثها بشكل يومي لتخويف الناس من المدنية بعد أن فشلوا في دعواتهم المتكررة للتظاهرات مستغلين الأزمات الخبز والبنزين وانصرف الناس عنهم لأنهم خبروه 30 عاما من المهانة حيث هتف الناس (الجوع ولا الكيزان) الآن يدقون على وتر حساس فتاة تترك منزل أسرتها وتنشر فيديو وتنشر كلام بسيط حول حقها في الزواج بعد أن رفض أهلها تزويجها بمن تريد وهي ترى عدم الحاجة لولي الأمر لعقد الزواج، وتدعو بسذاجة كل الفتيات لأن يحذون حذوها وما أن ينشر أي فيديو من هذا النوع حتى يتحرك جدادهم الإلكتروني بكثافة ملقيا اللوم على المدنية والحريات وكأن الحريات عيب وليست حقا وكأن أي جريمة تحدث مهما كانت سببها البيئة الديمقراطية والحريات التي نعيشها حاليا، متناسين أنهم أنفسهم رغم معاناة النساء من أفعالهم لازالوا يتمتعون بالديمقراطية والحرية شأنهم شأن الآخرين وكفل لهم حق الدفاع عن أنفسهم وسيادة حكم القانون تشمل الجميع أصبحوا يتمتعون بحرية لم يكونوا يتمتعون بها في عهدهم البائس وتناسوا أيضا أن السودان شهد في عهدهم أسوأ وأفظع جرائم الاغتصاب قد حدثت في ظل النظام الإسلاموي البغيض الذي حكمت فيه محكمة واحدة في شرق النيل على شيخ اغتصب 23 طفلا في إحدى الخلاوي ومن ثم قبع في السجن عدة شهور فأفرج عنه المخلوع بدعوى باطلة وهي كبر سنه وتناسى أنه ألقى في سجونه بمن هم أكبر منه سنا جرمهم أنهم عارضوه. وتناسى هؤلاء أنه في ظل دولتهم الإسلامية تم اغتصاب الفتيات صغيرات السن والنساء في مناطق النزاعات وفي معتقلاتهم إمعانا في الإذلال والتخويف .
إن آليات النظام البائد لازالت تعمل بنفس الذهنية والمنهجية معتقدين أن الشعب السوداني (مسكين ونساي كما كان يقول شيخهم الترابي) وأنه ستنطلي عليهم مثل هذه الخدع والتدليس ونشر القصص والحكايات الملفقة وأن عقارب الساعة لن تعود للوراء وهم يعملون خارج السياق الزمني والتاريخي حيث أن المعلومة سرعان ما تصل للناس والحقيقة مهما حاولوا تلوينها ستظل هي الحقيقة والناس تعلم تماما أن مفهوم الدولة المدنية الذي يحكم العالم حولنا هو يعني دولة المؤسسات وسيادة حكم القانون والحريات التي نستمتع بها حاليا رغم الإرث الثقيل نتيجة سياساتهم المدمرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى