صفحات متخصصة

العميد معاش محمد أحمد الريح: قال لي قوش “منْ يرفض الكلام نصل معه لدرجة أن نحضر زوجته” (١)

رصدطلال الخضر

العميد معاش محمد أحمد الريح الفكي، من مواليد 1942 بالمتمة، نشأ في مدينة عطبرة التي عرفت بالنضال، التحق بالكلية الحربية العام 1961 وتخرج فيها العام 1964، وفي 1980 عُين رئيساً لأركان القوات المحمولة جواً. اعتقله الإسلاميون في يوم 20/8/ 1991 وقادوه إلى (بيت أشباح) حيث انهالوا عليه ضرباً بالعصي وخراطيم المياه، وحرموه من شرب الماء لثلاثة أيام حتى يبس لسانه وعجز عن النطق، كان طعامه في المعتقل قطع خبز رديئة مغمورة بماء مالح، تعرض الرجل للتعذيب من قبل أشخاص أصغر منه سناً بكثير، ومن حولهم قادة النظام المباد مثل صلاح قوش ونافع علي نافع  اللذان وفرا أدوات التعذيب، ومنحوهم صلاحيات واسعة للتصرف بأرواح المعتقلين وأجسادهم، فعذبوهم من غير رحمة، ولم يراعوا لكونه ضابطاً في القوات المسلحة السودانية، يتقلد رتبة عسكرية رفيعة وسيرة مهنية مشرفة.

اعتبرت هذه الحلقة من برنامجبيوت الأشباحالذي يبث عبر تلفزيون السودان، والتي نوثق لها هنا، استثنائية، فقد تم تسجيل الحلقة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولأن القصة يرويها أحد ضباط قوات الشعب المسلحة والذي تم اعتقاله خارج إطار القانون.

*بداية المعارضة*

يبدأ العميد ود الريح سرد حكايته بالترحم على أرواح الشهداء الذين سقطوا في ساحة الاعتصام، متمنياً أن يعود الجرحى والمفقودون إلى أهلهم سالمين. يقول مستعرضاً سيرته المهنية: “نقلت إلى القيادة الشمالية بشندي ثم بعد ذلك نقلت إلى سلاح المدفعية عطبرة، وسافرت في بعثة إلى المدرسة الملكية البريطانية والتحقت هناك بكتيبة مدفعية بريطانية لفترة من الوقت وتلقيت التدريب العملي“.

يستطرد: “ذهبت إلى دورة متقدمة في جمهورية ألمانية الاتحادية، بعدها عملت في الجيش الألماني لفترة طويلة“. وتابع: “تم تعييني رئيساً لأركان القوات المحمولة جواً، حتى قامت مواجهة بين قادة القوات المسلحة والرئيس الأسبق جعفر نميري انتهت إلى إحالة وزير الدفاع والقائد العام آنذاك السيد الفريق أول عبد الماجد حامد خليل و22 من القادة، كنتُ واحداً منهم“.

 بعد أن أُحيل العميد ود الريح إلى المعاش عمل في التجارة مدة سبع سنوات، وحين عادت الديمقراطية وتقلد السيد الصادق المهدي، رئاسة الوزراء قرر إعادة بعض الضباط. يقول الفكي، كنتُ من ضمنهم ولم يكن لدي رغبة في العودة لكن بسبب صداقتي العميقة مع القائد العام الفريق أول آنذاك الشهيد فتحي أحمد علي رحمه الله أصر علي فرجعت. يواصل: “بعد شهرين حدث انقلاب الإسلاميين فأحالوا مئات الضباط  إلى المعاش، بعدها بدأت المعارضة في الخارج، ذهب قادة الأحزاب  إلى القاهرة وهناك كونواالتجمع الوطني الديمقراطي، كنا في الداخل. قررنا منذ أول عشرة أيام أن نعارض الانقلاب وأن نقف ضده، اجتمعنا وأدينا القسم كضباط، انضممنا للتجمع بعد أن اتصلوا بنا“.

 *راكل المصحف*

 يذكر العميد ود الريح أنه في يوم الثلاثاء 20/8/ 1991 أنه كان عائداً من واجب عزاء، ناداه جاره المسن من شرفة  منزلهيا محمد شخص ما يدق الباب يريدك“. يطل العميد الفكي من البلكونة، يرى ضابطاً يعرفه، يرتدي زياً مدنياً، هو عاصم كباشي.

-“أيوا يا عاصم“.

-“عايزنك ياخ“.

– “دايرنك تمشي معانا جهاز الأمن“.

– “جداً، أصلي العصر أنا متوضئ“. 

– “عايزين نفتش البيت“. 

 ينظر العميد الفكي من البلكونة، يجد أن الشارع مغلق ومحاصر بسيارات عليها مسلحون.

– “يا عاصم، الزفة دي كلها جايبنها لي أنا؟ أنا قريب من نقطة الصافية لو جاءني عسكري من نقطة الصافية وقال لي أرح بمشي معاه“.

  قاد سيارته رفقة رجل مسلح. في شارع الموردة، عادة يجلس وقت العصر بعض ضباط الجيش، يتوقف بالقرب منهم، يجد العميد معاش محجوب، فيطلب منه أن يذهب للبيت لطمأنة الأولاد

في مبنى الجهاز خطفوا  مفتاح السيارة،كنت  عدت بها من الجمارك، مليئة بالاسبيرات وإطارات سيارات، وفي درجها طبنجة ونقود، قلت لهم: هذه طبنجتي، لكني نسيت النقود“.

 يروي: “أصعدوني إلى سيارة، أخذوا عمامتي عصبوا بها عيني بقوة، وكنتُ أحمل شنطة بها ريالات وأدوية وسجادة صلاة ومصحف، قادوا السيارة بيت الأشباح واسمهالواحة، كنت أعلم بشأن هذا المنزل، عندما نزلت حلوا عن عيني العمامة“.

يصف العميد ود الريح المنزل أنه مقسوم لنصفين، نصف يشكل مأوى والنصف الآخر زنازين على شكل حرفيو، بينهما حائط بباب واسع. انتزعوا الشنطة وسجادة الصلاة، وقالوا هيا أدخل. يدخل إلى الزنزانة، يلمح أفراداً مختبئين في العتمة، ظهروا فجأة وانهالوا عليه ضرباً بالعصي والسياط، يشعر بالذهول ويتساءل في نفسه، ما الذي يحدث؟.

 يدفعونه صوبطشتمملوء بالطين ليسقط عليه، لكنه يقفز من فوقه ويتجنب السقوط. “بعدها أدخلوني في زنزانة وأغلقوها علي، كانت الزنزانة جديدة فيها آثار بقايا بوهية وجير وأوساخ“. 

يقول العميد ود الريح إنه عند الساعة 5:30، سمع الأذان، فأدرك أنه مسجد القوات المسلحة،صليت المغرب، اتكأت على الحائط وأخذت أقرأ من المصحف، جاء شخص اسمه المستعارحسينفتح الزنزانة وركل المصحف صائحاًإنتو بتعرفو مصحف يا ملحدين يا كفرة، إنت قايل جايبنكم هنا عشان تقرو مصحف“. يتابع: “استغربت وقلت له، إن شاء الله ربنا رجليك اللتنين يقطعهم ليك“. “والله علمت أنه ذهب إلى الجنوب فداس على لغم قطع قدميه الاثنتين“.

*التعطيش*

يستطرد العميد ود الريح: “لم يكن قد دخل أحد غيري هذه الزنازين ولكن بعد الساعة الثامنة سمعت أبواب الزنازين تفتح، يدفعون إلى داخلها أشخاصاً آخرين، لم يكن مسموحاً لمعتقل بالوقوف، أحياناً أنهض فأرى ضباطاً أعرفهم وآخرين لا أعرفهم ورأيت مدنيين. في التاسعة أو العاشرة امتلأت هذه الزنازين، فتحوا الباب أخرجوني مع بعض المعتقلين ربطوا أعيننا وأحضروا عربة أعتقد أنهابوكس، حملونا مثل جوالات الفحم ورمونا داخلها، كانوا يكدسوننا فوق بعضنا البعض، منبطحون على بطوننا ويرمون من فوقنا خمسة أشخاص، غطونا بأغطية سوداء. يمر عساكر فوق رؤوسنا، ولو رأوا أحدنا يرفع رأسه يضربوه بـالدبشك“. نقلونا إلى جهاز الأمن، أنا نقلت إلى مكتب، أدخلوني معصوب العينين يداي مقيدتين بقيد حديدي، أجلسوني على كرسي وقتاً طويلا، ربما حتى الواحدة ظهراً، فتحوا عيني فرأيت عاصم كباشي يجلس أمامي، قال لينحن لجنة التحقيق الحا تحقق معاك، نريد أن نعرف أي شئ عن تنظيم أنا السودان، إياك أن تلف وتدورقلت له: أنا لا أعرف أي شئ عن هذا التنظيم“.

 يتابعدخل آخر اسمه ود الحاج، عرفت لاحقاً أنه ضابط في الجيش منتدب بجهاز الأمن، ولد ردئ لا يمكن أن أجد كلمة لوصفه ولا كلمة طيبة فيه، انهال باللكمات على وجهي وكنت مقيداً لا أستطيع حماية نفسي، ضربني بالخرطوم الأسود على رأسي حتى أصبت بالدوار. قال لي: “إنت لسع شفت حاجة“.

يدخل شاب يرتدي زياً مدنياً، يجلس على الطاولة ويحيي العميد ويخيره أنه رئيس لجنة التحقيق.

نريد أن تخبرنا عن عناصر (منظمة أنا السودان)

لن أقول لك أي شئ،  لا أعرف عنهم أي شئ

يقرر ألا يتكلمأعادوه الصباح إلى الزنزانة.

 يقول العميد ود الريح إنه منذ الاعتقال، ولثلاثة أيام لم يعطونا ماءً،نشف لساني ولم أعد أستطيع أن أتكلم، في اليوم الثالث مساءً أحضروا ماءً فيكوزوكانت أيدينا مقيدة على شراعات الزنازين، يقترب منك من يحمل الكوز لا يدخل بين فرجات قضبان الزنزانة يدلق في فمك جرعة ماء ويمضي“. 

يستطرد: “استمروا يأخذوننا بالليل إلى جهاز الأمن ويسألونا وحين لا نجيب يضربوننا، يعيدوننا إلى الزنازين شبه موتى، أعطوا الأولاد في بيت الأشباح مطلق الحرية في التعامل معك والتصرف فيك، وحين لا تفيدهم بشيء يرسلون معك ورقة فيها توجيهات بكيفية التصرف معك، هم يطبقون هذه التوجيهات وبزيادة، ومن المحتمل أن تموت تحت التعذيب، وفعلاً هناك أشخاص ماتوا ودفنوا سراً لا يعرف أهلهم  شيئاً عن مكانهم“.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى