الرأي

العقل المغلق يضيق القاعدة الاجتماعية (2/2)

الحاج وراق
•    العقلية المغلقة عقلية ميكانيكية اختزالية، تحاول فتح مغاليق الظواهر بمفتاح واحد ووحيد، وبالطبع لا يوجد مفتاح واحد لكل الأبواب، إلا إذا كان كما يقول طرابيشي مفتاح لص أو بوليس(!). وربما تفيد العقلية الميكانيكية الاختزالية في فهم الظواهر البسيطة ولكنها تضر عند مقاربة الظواهر المعقدة، وغالبية الظواهر الاجتماعية ظواهر معقدة، ومن بينها قضايا الانتقال في السودان – حيث يترافق الانتقال الديمقراطي مع انتقال من الحرب إلى السلام، ومن دولة فاسدة طفيلية خربة ومفلسة إلى دولة نزاهة وإنتاج ورعاية اجتماعية، وكل ذلك في ظل خراب البنيات التحتية وبنيات التعليم والصحة والبيئة وخراب الخدمة العامة والمدنية، وفي ظل عزلة عن العالم المتمدن.
•    كان الموقف من نظام الإنقاذ – خصوصا بعد ارتكابه الإبادة الجماعية ونقضه اتفاق السلام وتمزيقه البلاد – يتطلب موقفا بسيطا قاطعا لا لبس فيه، فإما إسقاطه لفتح الطريق لاستعادة عافية البلد أو التعايش معه ومن ثم قبول التكلفة الباهظة لـ(جزامه) الآيديولوجي السياسي الذي يهدد بتقطيع كافة أوصال البلاد.
وأما الآن، فما من قضية من قضايا الانتقال الكبرى يمكن الإجابة عليها إجابة بسيطة (إما أو). الإجابة الصحيحة يفترض أن تحقق الاستقرار السياسي اللازم لانتقال آمن ومستدام، وبالتالي لايمكن أن تكون إجابة طرف واحد، مهما ادعى من ثورية وتطهر، الإجابة الصحيحة إجابة توافقية بين القوى الاجتماعية الرئيسية المناصرة للانتقال، بما يعني أنها إجابة تحمل مشتركات جميع أقوام السودان، غض النظر عن عقائدهم أو ثقافاتهم أو إثنياتهم أو نوعهم، وبالتالي فلا بد وأن تكون إجابة مركبة تقوم على الإضافة وليس على اختزالية (إما أو).
•    خذ كمثال الموقف من الحكومة المدنية القائمة والتحالف الحاكم لقوى الحرية والتغيير، هذه مكونات رئيسية من قوى الانتقال، ولذا لا يمكن أن يكون الموقف الصحيح إسقاطها، وإلا تطابق الموقف الثوري مع الثورة المضادة لفلول النظام المعزول، والثوري الصادق حقا لا المزايد لابد يعيد فحص موقفه حين يجده يتطابق مع مواقف الثورة المضادة! وكذلك فإن أداءها في ملفات عديدة أبرزها إيقاف تدهور الاقتصاد وتوفير الخبز والمواصلات.
ومواجهة جائحة كورونا وإغاثة منكوبي السيول والفيضانات – كان أداءا دون المستوى.. صحيح أن الحكومة (مشلهتة)، فهي تئن تحت ثقل الديون داخليا وخارجيا، وما من شركة من شركات استيراد السلع الاستراتيجية إلا ولديها دين على الحكومة – منذ النظام المعزول -، كما يدين البنك المركزي بما لا يقل عن مليار وأربعمائة مليون دولار للبنوك الخاصة، ولذا (تتشلهت) الحكومة في توفير السلع الرئيسية، من اليد إلى الفم. وهذا إضافة إلى الدين الخارجي الموروث الذي يزيد 56 مليار دولار!.
إذن فشلهتة الحكومة في حدود معينة مفهومة ومبررة.
ولكنها في المقابل لم تنظم هياكلها ومؤسساتها بحيث تضمن المتابعة والمساءلة، وليس من إشارات تؤكد أن إدارات قطاعاتها المختلفة تعمل بالتنسيق الكافي. ومع الشلهتة وعدم إحكام النظم المؤسسية تلجأ الحكومة لملاحقة كبير مستشاري رئيس الوزراء وضغطه الإداري مما يثير ردة فعل سلبية ضده. ولم تنظم الحكومة هياكلها بحيث تستفيد من الدعم الإقليمي والدولي وإيصاله بالسرعة والكفاءة اللازمتين. كما تتعامل ببيروقراطية لا مبالية تجاه مبادرات نوعية للقطاع الخاص المحلي والأجنبي. ولم تعبئ، لا هي ولا حاضتها السياسية الحرية والتغيير، الجهد الطوعي في الداخل والمهاجر بحيث يساهم في سد الفجوة الهائلة ما بين الإمكانيات والتطلعات. وهذا على سبيل المثال لا الحصر من وجوه وسمات ضعف الأداء الحكومي.
وهكذا لا يمكن (الطبطبة) على الحكومة المدنية أو تأييدها بالحق والباطل.
وإذا كان التحريض غير المسؤول على الحكم الانتقالي، والدعوة لاسقاطه بدعوى ضعف الأداء، يشكلان استدعاءاً للانقلاب – انقلاب الثورة المضادة أو انقلاب أي مغامرين آخرين -، وبالتالي قذفا للبلاد نحو المجهول، إلا أن (الطبطبة) على الأخطاء تشجع على استمرارها، ومن ثم تؤدي إلى تآكل الرصيد السياسي للانتقال الديمقراطي، مما يعني فتحا لطريق الانقلاب والردة. واتخاذ الموقف المتوازن والمعتدل بين هذين التطرفين، على مشقته ومشقة الاستمرار فيه، هو الذي يمكن أن يشكل إجابة مركبة صحيحة.
•    لقد كان لقادة الثورات الفكرية والأخلاقية في التاريخ الإنساني عقائد ما، لكنهم اكتسبوا عظمتهم بقدرتهم على تخطي الانغلاق العقائدي لصالح الإنسان. وتؤكد هذه تقاليد الروحانية المسلمة السودانية التي عبر عنها الشيخ فرح ود تكتوك حين قال: (الرحمة بي خلق االله أهم من الغيرة على دين الله)، و ذلك لأنه أمسك بجوهر الدين كدين للرحمة.
وما أشد حاجتنا، أفرادا وقوى سياسية ومنظمات مدنية، لمثل هذه الرحابة الوجدانية والعقلية.
إن شرط عبورنا وانتصارنا أن ينتصب الإنسان السوداني – باعتباره المركز والمرجع – فوق التعصب الآيديولوجي والأنانية الحزبية، وفوق سخائم وأهواء النفوس من إئتمار بالسوء وشح وحسد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى