الرأي

العبادي 16: سحر هاروت سكن حورِن..!!

مسألة

د.مرتضى الغالي
..وهذه وقفة قصيرة في محطة )التضمين( وفي سياق الأساليب البلاغية وعلوم المعاني والبيان والبديع عند العبادي واستخدامه للتعبيرات الفصيحة التي يطعمها بالدارجية (التعبيرات والصياغات وليس فقط مجرد الكلمات الفصيحة).. وهي تعبيرات مختارة مُنتقاه من تراث العربية والمرويات المأثورة والمثل السائر والتجارب الإنسانية….وهذه التضمينات مبثوثة في شعره وهي أكثر من أن تحصي..! منها على سبيل المثال العابر القول بأن (فلاناً أورد فلاناً حياض الموت).. يقول العبادي في أغنية (تذكارا احرمني الهجود ومسّخ عليَ كل الوجود):
الخُضرة ضاربه علي بياض          خديك زي زهر الرياض
دا الخلى دمعي انا في فياض    (وأورثني من الموت حياض)..!
وهذه أغنية عجيبة يقول فيها:
الليل سجا وطلع البَدُرْ      في غصن بانه على قَدُر
في خدو نيشانين خُدُر     ولَماهو خـزنه ملانه دُر ..!
وفيها:
ليك غصن في غاية الوفاق     لي ضميرا ما اغوا النفاق
الجـيد نفـور يأبى العـناق       والدُقّه تقبض في الخِناق
(الدقّه من عقود الزينة التي تدور على العنق في تلاصق تام معه ولا تتدلي على الصدر):
ومنها
شافتني قطبت وانزوَت      اللي الجمال والزوق حوَت
جذبا الرِدف لامن هوَت       سـندنّها لمّا اسـتوت..!!
القائمات (بالإسناد) وزيرات يحرسن الفتاة الراقصة…!
نعود للتضمين ومن الأمثلة السائرة لمن ساء حظه بعد نعيم أن يقال (قلب الدهر له ظهر المِجَن) والمجن هو (الترس) يقول العبادي:
حن قلبو حين ليلو جنْ       والهموم حافاتنو جن
والله يا نايرات الوجن          صد دهري و(قلب المِجن)
ثم سحر هاروت الذي ذكره العبادي في أغنية ( شموس عفة):
حليل الدور حليل حورن      (سحر هاروت) سكن حورن
فؤادي الضلّ مسحورن       لابسات روحي في نحورن
منذ مطلع هذه الأغنية يضع العبادي محبوباته في مكانة سامية:
شموس عفة وبدور دورن بها الدنيا وزها خدورن
حليلن.. لا متى ازورن..؟!
وفي هذه الأغنية يتناول العبادي معنى مطروق عن تأثير النسيم على جسم المحبوب من باب المبالغة في رقة الجسم ونعومته..ولكنه العبادي يقول أن هذا التأثير يحدث لمجرد أن يومئ النسيم (إيماءة فقط) للحبيبة وليس إذا لامسها:
ﻣﻮﻓّﺮ ﻓﻲ ﺍلأﺩﺏ ﻗَـﺴﻤﻮ             يضوﻱ ﺍﻟﻌﺘمه ﻓﺮ ﺑﺴﻤﻮ
النسيم ﻟﻮ (أﻭﻣﺎ) ليه ﻴﻘﺴﻤﻮ     ﻳﺄﺛﺮ ﻣﺮّﻭ ﻓﻲ ﺟﺴﻤﻮ..!
وفي ذات معنى سحر هاروت يقول عبيد في اغنية (جاهل صغير مغرور):
ناعس لواحظ حور     هاروت لو رآهن…مثلي صار مسحور
ويقول علي المسّاح في (زمانك والهوى اعوانك):
هاروت سحرو ماخوذ من سحر عينانك:: ظلموك لو يقولوا الدر شبيه اسنانك..!
***
استهلالات العبادي لقصائده الغنائية فيها إبداع وابتكار لا يخفى: (شموس عفة) و(برضي ليك المولى الموالي) و(موفورة النفل) و(يا حليل رياضنا الغنا) و(من فروع الحنة وزهرة التفاح) و(الضاوي جبينا) و(يا ليالي الوصل مرّه) و(تذكارا احرمني الهجود) و(شيخ ريا حسبك من فخر) و (جيبولي بس عقلي الودر) و(ببكي وبنوح وبصيّح)..و(يا سايق الفيات)..!!
والتضمين شائع في أغاني الحقيبة ويكون التفاوت في إعادة صياغة ما يتم تضمينه من أقوال وتعبيرات مأثورة وأحياناً آيات قرآنية وأحاديث وهلمجرا..وحتى الشعر الشعبي السوداني فيه مثل هذا التضمين الذكي و”عكير الدامر” يقول في المدح:
وكت الفـتنة طـوّقت الرجال زي تيله       روحك سمتها وشافوك ماك راتيلا
اجر فضلك مثبّت حوض لبن في نتيلا     في القران ورَد (لا تظلمون فتيلا)..!
**
لا يغيب عن الملاحظة حالة الإعجاب والمحبة المتبادلة بين العبادي وود الرضي الذي يقر بأستاذية العبادي كما أشرنا سابقاً..رغم ضخامة ما طرقه ود الرضي من غناء وأشعار في أبواب متفرقة من الأحوال الاجتماعية والمدح والفخر والحكمة والوصف والتأمل والاخوانيات والمداعبة وهلمجرا..ومن آيات ذلك الود تشطير العبادي العجيب لأغنية ود الرضي (متى مزاري) وقد جاء التشطير بصياغات فخيمة زادت من رونق القصيدة الأصلية..ومن عينة ذلك إضافته البديعة لمربع ود الرضي الذي يقول:
ياما عاشق وما هوَّ وافي     وياما شاعر يقصد عوافي
مثلهم من يعشق قوافي     ومثلنا من يعشق عفيف
وهو مربع فيه نقد وذم وتعريض بشعراء وعشّاق وبنوع من الشعر.. نفخ العبادي في هذا المربع النقدي مزيداً من الوهج ..وأصبح بعد تشطيره يتدفق بالحيوية و(العفرته) وروح المشاغبة:
يا ما عاشق وما هوّ وافي     ديمه (بالف) وللزيغ يوافي
قلبو اسود من الخوافي        وياما شاعر يقصد عوافي
مثلهم من يعشـق قوافى     فيها يجمع كل النوافي..
يملا قولو وتاخدو السوافي ومثلنا مَن يعشق عفيف..!
انه يشبه سواد القلب بخوافي أجنحة الغربان.. والخوافي هي الريش الأسود تحت الجناح..وريش الخوافي يقبع في المؤخرة على عكس (ريش القوادم)..! والشاعر العربي يقول:
قضى ثم ولى الحكم من كان بعده :: وليس ذُنابي الريش مثل القوادم
ثم يمضي العبادي (ويكمل الباقي) ليقذف بقوافي الذين ينتقدهم ود الرضي إلى الرياح السافيات..!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى