الرأي

الطشاش في بلد العَمَى

ياسر يوسف

(١)

الكاتب المحافظ ديفيد بروكس قال إنه لا يطيق متنطعي اليسار إلا أنه يتعلم منهم، والأستاذ الحاج وراق، ومعه جمعٌ أنا فيه، لا يطيق المتنطعين، إلا أنه حريٌ بالجميع التعلم منهم. والمتنطعون هم من نظروا إلى الثورة السودانية كقاصمةٍ تطيح بالدكتاتورية والامبريالية والسعودية في آن.

أثار هؤلاء حفيظة الأستاذ وراق فقال فيهم، في ندوته بدار حركة بلدنا، إنهم (مطششين) مهووسون بمقاومة امبريالية الغرب، والأخير، في قوله، حليف للتيار الديمقراطي في السودان وأجندته في بلادنا إنما هي التحول الديمقراطي و الحكم المدني، كما أن الغرب سدٌ في وجه أجندة الانقلاب العسكري الإقليمية (تمثلها كما حدد في محاضرته السعودية والإمارات ومصر).

(٢)

لا شك أن لأجندة الغرب التقاءً مع التيار الديمقراطي في بلادنا، فقد لعب الغرب دورًا هامًا في إفشال الانقلاب الذي قام به المجلس العسكري بفضّه اعتصام القيادة العامة، ووفّر عبر تفاهم قصر حجار غطاءً لتظاهرات ٣٠ يونيو  ٢٠١٩. كذلك، الموقف الأمريكي المُعلن من الانتخابات يتناقض مع الموقف المُضمر للسلطة الانتقالية والراغب في تأجيل الانتخابات أزمنةً مديدة.

لكن هل يمكن الاستنتاج من هذا أن مصلحة الغرب في السودان هي الديمقراطية، هكذا بإطلاقها وبلا إضافات؟

(٣)

رغم رفْضِه الانقلاب، فقد ترك الغرب الحكومة المدنية تُرذل في أزمة اقتصادية خانقة، فلا أطعمها ولا تركها تأكل من خَشاش الأرض، فتفاقمت الجائحة المعيشية والسخط الشعبي ليُشكلا تهديدًا وجوديًا للتحول الديمقراطي وسُبّة في جبين الحكم المدني الذي يزعم الغرب دعمه. لكن دعك مما لم يفعله الغرب للحكومة وانظُر فيما فعله فيها:

* في العلاقات الخارجية ورغم إعلان الحكومة وحاضنتها افتقادهما التفويض (الديمقراطي) اللازم للتطبيع مع إسرائيل، أجبرت السلطة الأميركية الحكومة على بدء علاقات ثنائية مع إسرائيل.

* في الإصلاح القانوني دفعت الإدارة الأمريكية الحكم المدني إلى إجراء تعديلات قانونية واسعة ضمن مطلوبات ما يعرف بـ(خطة المسارات الخمسة+١) والتي كانت إدارتا أوباما وترمب قد فرضتها على سلطة البشير، والقاضية بتعديل قوانين السودان فيما يلي الحريات خصوصًا الدينية والفردية منها، أمرٌ أقبل عليه وزير العدل الحالي بحماسٍ عزّ نظيره.

* أما في أم القضايا، الاقتصاد، فيمكن القول، بـ(تنطع) كامل، أن السلطة الأمريكية تمارس تجاه السودان ذات السياسة النيوكولونالية التي اتخذتها حيال دول العالم الثالث في العقود الماضية. سياسةٌ تَقبُر أي أملٍ في تنمية حقيقية. قوام تلك السياسة فرض التقشف الحكومي، واعتزال الدولة قيادة التنمية، والتحرير الانتقائي للاقتصاد وفتح البلاد أمام المال الأجنبي لينهل من مقدرات البلاد بثمن بخس. النتيجة هي أن جهاز الدولة في السودان يشن عدوانًا على التنمية والإنتاج المحلي، وقد بدأت المناظر والفيلم قدام: في شأن فتح البلاد للاستثمار في الخام قال وزير الاستثمار إنه سيرد الاستثمارات الأجنبية التي نُزعت أو قُلصت في بدء عهد الثورة وسيحميها بقوة القانون (السوداني ٢١ فبراير). وقال وزير المال كلامًا شبيهًا وكذا قائد الدعم السريع في خطابه في مروي في ١٩ فبراير، وابتدرت شركات أجنبية أو مختلطة الاستثمار في المواد الخام (في الصمغ والماشية والزراعة، هولندية وايطالية وإماراتية وسودانية، سونا للأنباء ٢١ فبراير و٢٥ فبراير، فايننشال تايمز ٢٦ يناير). أما فيما يلي تشجيع الإنتاج المحلي واستيراد مدخلات الإنتاج ووعد وزير المال تثبيت سعر  صرف الدولار الجمركي، فقد جاء رد مديرة صندوق النقد الدولي في بيانها في ٨ مارس حاسمًا وآمرًا بإلغائه. وفي حين تدعم الولايات المتحدة مزارعيها بعشرات البلايين من الدولارات سنويًا حماية للزراعة المحلية، تخنق الحكومة السودانية صغار المزارعين، فتجبرهم على بيع شوال القمح بسعر احتكاري يبلغ ١٣ ألف جنيه، في حين أن سعره في السوق الموازي يفوق الـ ٢٠ ألف جنيه. أما الذرة فتحتكر الحكومة الشوال بي ٧ آلاف جنيه في مقابل سعر تكلفة ١٢ ألف جنيه (السوداني ٢٥ مارس). أما الشركات الأجنبية وشركاؤها المحليون ففي نعيمٍ مقيم من مئات آلاف الأفدنة الرخيصة. 

الاسترسال الهام هنا أن هذه السياسات المطبقة في دول الجنوب عجزت عن تخفيض الفقر والجوع حول العالم حسب إحصاءات المنظمات الدولية نفسها، وكانت في محصلتها النهائية في صالح اقتصاد الغرب بشكل حاسم ولذا تحرص الولايات المتحدة على تطبيقها (كتاب The Divide ل جيسون هيكل يجمع الإحصاءات الحديثة من المنظمات الدولية في هذا الشأن).

(٤)

الطشاش في بلد العمى شوف، لا ينبغي أن تعمى بصائرنا عن رؤية حقيقة الموقف الغربي الذي لا يريد الديمقراطية فقط، بل قائمة مطلوبات تصحبها. وما جمّله الأستاذ وراق في حديثه عن أن الغرب (حليف) و(شريك)، أسماه الدكتور حيدر إبراهيم بتبعيةٍ كاملة لأمريكا، قال إنها لن تحقق “التنمية والنهضة والتقدم” (الديمقراطي، ٢٠ أبريل)، بل ذلك ما استيقنه الأستاذ وراق نفسه في ندوته حين قال إن المجلس العسكري يريد استبدال رئيس الوزراء بزرزور محلي لا يحظى بدعم غربي، مما يعني ضمنًا أن الأفضل لنا الاحتفاظ بالزرزور الغربي الذي يجلس على رأس الحكومة الآن، فقدر البلاد أن يحكمها الطير.

لا أمضي مع الكتور حيدر في قوله فلتذهب قروض الدول الغنية إلى الجحيم (وقد ذكرني صديق أن آخر ثورة سودانية ناطحت الدول الكبرى انتهت بخليفة المهدي قتيلاً، وأضاف أن الاستسلام الآن ذروة الوطنية)، لكن أقول نحتاج توصيفًا أمينًا لواقعنا ولإرادة الغرب لا تعميه التمنيات حتى نتعامل معه. واقعنا الذي يقعده الفقر والانقسام الأهلي والإقليم المضطرب مما يجعل الإرادة الوطنية غايةً إن كانت لا تنال الآن، فهي سفينة العبور في غدٍ آتٍ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى