صفحات متخصصة

السوق السياسي: مُقدّمة لواضعي السياسات

برنامج أبحاث العدالة والأمن
السوق السياسي: مُقدّمة لواضعي السياسات
لـ”أليكس دي وال”
ترجمة ــ طارق الأمين بخيت
مُقدّمة:
هذا الموجز مُقدّمة لازمة للتعرف على مفهوم “السوق السياسي” باعتباره نِظاماً للحكم.
ثمة عُنْصر من عناصر السوق السياسي؛ في أي عمل سياسي يتضمن معاملات مالية، في ظل الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية المستقرة؛ يخضع السوق السياسي لحُكم القانون والنُظم المؤسسية، لكن الوضع معكوس في أجزاء أخرى من العالم (مثل العديد من بلدان إفريقيا والشرق الأوسط الكبير) إذ لا تزال سياسة المعاملات المالية تهيمن على أنظمة الحكم، لذا لا نشهد بروز أنظمة مؤسسية، بل نرى تكريساً لأسواقٍ سياسية متوائمة بشكل كبير مع قدرات القادة السياسيين الساعين للبقاء في عالم مضطرب.
بينما تبين أطُر العلوم السياسية السائدة كيفية انتقال وتطور البلدان الضعيفة والهشة إلى أنظمة مؤسسية، يهْدُف مفهوم السوق السياسي للإجابة على تساؤلات حول كيفية عمل أنظمة الحكم في عالم اليوم، وتأثير التدخلات الخارجية على النظام السياسي الواقعي على المدى القصير.
ما هو السوق السياسي؟
السوق السياسي؛ وصف لنظام الحكم، ومنهج لتحليل فعالية السلطة داخل هذا النظام. لا يقتصر الإطار النظري للسوق السياسي على تصنيف مجتمعات بعينها (تحديداً مجتمعات الدول الهشة) وحسب، بل يُقدّم مجموعة من الأدوات لفهم الكيفية العملية لفعالية تلك الدول، وطريقة استجابتها المتوقعة للتدخلات الخارجية، والتغيرات السياسية والاقتصادية الأخرى.
السوق السياسي؛ هو نظام للحكم يتم إدارته على أساس المعاملات الشخصية، التي يتم خلالها تبادل الخدمات، والولاءات السياسية، مقابل منافع مادية، ومكافآت تُقدّم بطريقة تنافسية، حيث يقوم الحاكم بمقايضة النخب السياسية حول الأموال المطلوبة (نقداً أو عبر تيسير الوصول لموارد مربحة بشكل كبير مثل العقود) مقابل الدعم والتأييد السياسي، بينما تمارس النخب السياسية الضغط على الحاكم باستغلال قدراتها في حشد الأصوات، وإخراج الحشود أو إلحاق عنف مدمّر.
وبالتالي، يُعد السوق السياسي صيغة حديثة ومتكاملة دولياً من سياسات توارث السلطة. فبينما تُقدّم الأنظمة التقليدية مساومات محدودة وتستخدم أموال محلية (غير قابلة للتحويل) ومكافآت رمزية تمنح وجاهة اجتماعية، تتم المعاملات في السوق السياسي بالعملة الصعبة (الدولار) وتجري فيه المساومات بوتيرة أسرع تجعل من السوق السياسي مُنافساً أو مُقابلاً لعملية بناء الدولة والتطوير المؤسسي.
تتم إدارة السوق السياسي وفقًا لـ”الميزانية السياسية” و”ثمن الولاء” و”نماذج العمل السياسي، ومهارات السياسيين”. يُمكن أن تتم إدارة السوق السياسي بشكل محكم وصارم، كما في حالة النظم الاستبدادية التي تُديرها نخبة سياسية- تجارية. ويمكن أيضاً ألا تخضع إدارته لضوابط في حالة وجود مزاد للولاءات بين مجموعات مسلحة، تتدافع للحصول على الموارد أو قد تأخذ أنماطاً أخرى مشابهة. اكتسبت الأسواق السياسية بعداً إقليمياً بحيث بات من الصعب حبسها داخل بلد بعينه. فالحاكم لبلد ضعيف سيكون بالطبع خاضعاً لجيرانه الأقوياء.
كيف نشأت الفكرة؟
نشأ مفهوم السوق السياسي؛ نتيجة التواصل مع النخب السياسية في دول القرن الإفريقي. ويستمد مفاهيمه الأساسية من اللغة السائدة التي تستخدمها النخب السياسية السودانية عند تعاملها، على نحو خاص، مع مناطق الهامش المتأثرة بالنزاعات والحروب (مثل دارفور). وقد لاقى إطار السوق السياسي قبولاً فورياً لاتساقه مع تجارب العديد من السياسيين والمهتمين بالعمل السياسي في عدد من دول شمال وشرق إفريقيا، حيث تم تدوين هذه التجربة في كتابي (السياسة الواقعية للقرن الإفريقي: المال، الحرب، والسلطة).
يقوم إطار السوق السياسي على تقاليد غنية في التحليل السياسي والاقتصادي لإفريقيا والشرق الأوسط، تشمل الإرثية المُحْدثة (neopatrimonialism)، الغنائمية(clientelism) ، ونُظم الاستباحة والنهب (kleptocracy) والتسويات السياسية والهيمنة التقليدية على التنمية والدولة العميقة. لكن يتميّز إطار السوق السياسي عن هذه الأطر من حيث تركيزه على الطبيعة النقدية والتنافسية للعلاقات القائمة بين الراعي والزبون، وعلى الطبيعة المتغيرة للمساومات المبرمة، وتكيُّفها مع بيئة مضطربة وفعالية نظام الحُكم بشكل شامل، واندماج أنظمة الولاء على الصعيد المحلي والدولي.
ما هي المفاهيم الرئيسية لتحليل السوق السياسي؟
الميزانية السياسية:
تشير الميزانية السياسية إلى الأموال التي يمتلكها السياسي، والتي يمكنه التصرف فيها دون محاسبة أو مساءلة، وهي التي يتم صرفها عادة لتسخير الولاءات والتحالفات أو شراء الخدمات السياسية، كما يمكن استخدامها من أجل الإثراء الشخصي، أو صرفها في المشاريع البذخية التافهة. ورغم تداخلها مع الميزانية الرسمية (العامة) واعتبارها هامشاً للفساد، إلا أنها تختلف عنها من ناحية تدوير أموال الميزانية السياسية خلال نظام يقوم على المحسوبية، حيث تعتبرها الطبقة السياسية أموالاً مشروعة. في هذا الصدد هناك سعى لتطوير وسائل لتحديد مصادر التمويل السياسي (والضوابط المتعلقة بتلك الأموال) وتقييم وتتبع حجم الميزانيات السياسية.
ثمن الولاء:
يشير مفهوم ثمن الولاء إلى المقابل المطلوب للحصول على الولاء والتعاون السياسي، أو أي خدمة سياسية محددة من أحد أعضاء الطبقة السياسية. يمكن أن يختلف هذا الثمن وفقاً لظروف السوق، فيرتفع إذا زاد عدد المطالبين أو اللاعبين المتنافسين في السوق، وينخفض إذا قلّت المنافسة السياسية. في هذا السياق، تظل المهمة الأساسية للقائد السياسي الاستفادة من الميزانية السياسية بأكبر قدر ممكن من الكفاءة، لضمان وتأمين الولاءات السياسية الكافية للحفاظ على السلطة واستدامة أي مشروع سياسي. عليه، فإن معرفة حجم الميزانيات السياسية وسعر الولاء سوف يسمح لنا بالتنبؤ بفعالية وجدوى بقاء الفاعلين السياسيين.
خطة ومهارة العمل السياسي:
يمتلك بعض الفاعلين السياسيين شبكات أوسع ومهارات سياسية أكبر، وسمعة أفضل من غيرهم، فضلاً عن امتلاكهم أهدافاً سياسية متباينة. يمكن عرض استراتيجيات أصحاب المشاريع السياسية، والقائمين على إدارة الشأن السياسي من خلال تبني نماذج إدارة الأعمال القياسية، للمنافسة الصناعية واستراتيجية الأعمال، مثل “القوى الخمس” لمايكل بورتر، التي تقوم عليها المنافسة الصناعية. عند التحليل الأخير يُمكن أن يختفي تدريجياً القائد السياسي غير الماهر، إذ أن انقطاع صلة قادة العمل السياسي بالوقائع قد تتسبب في الخراب والفوضى، حيث إن أكثر أسباب النزاعات المسلحة والأزمات السياسية شيوعاً قد تُعزى لأخطاء قادة العمل السياسي.
هيكل ونظام السوق السياسي:
تتشكل الأسواق السياسية بطرق مختلفة، حيث تشمل عناصرها الرئيسية: تنظيم الدخول ومدى التكامل الإقليمي وهيكل ووتيرة المساومات، وشبكات ودوائر المعلومات. إن معرفة تلك العوامل، إلى جانب تحليل ظروف السوق السياسية السائدة، يمكن أن تسمح لنا بإجراء تقييم للتوقعات السياسية وكيفية استجابة النظام السياسي للهزات والتدخلات الخارجية.
الاضطراب:
وهي نوعية الفوضى التي يتسم بها نظام حكم ما، والتي تتقلّب خلال فترات زمنية قصيرة، لكنها رغماً عن ذلك تحافظ على نمطٍ مستقرٍ على مدى فترات زمنية أطول، وتستجيب للصدمات الخارجية والداخلية بطرق يمكن التنبؤ بها على نطاق واسع. تم إعداد إطار السوق السياسي لتوضيح كيفية عمل أنظمة الحُكم في بيئة إقليمية، وعالمية تتميز بالاضطراب المستمر خلافاً لأنظمة الحُكم المستقرة.
الهيمنة الذكورية:
السوق السياسي ذكوري بامتياز، حيث إن جميع الفاعلين الرئيسيين فيه هم تقريباً من الرجال كما أن غمار الناس (بما في ذلك جُل النساء والشباب تقريباً) يُعاملون كسلع لا أكثر.
السوق السياسي والشعبوية الأخلاقية والتبادلية العامة:
السوق السياسي؛ هو أحد أنماط “المنطق الثلاثي” الذي طوره برنامج أبحاث العدالة والأمن، إضافة إلى “الشعبوية الأخلاقية” و”التبادلية العامة”. تُمثّل الشعبوية الأخلاقية الدور الاجتماعي والسياسي الذي تمثّله هويات وقيم إقصائية متجذّرة أخلاقياً. في العادة تنبع تجليات حركات الشعبوية الأخلاقية من مخزون محلي راسخ محدد للغاية، وتستند أيضاً على مظاهر ثقافية عالمية معاصرة كالتطرف المسلح.
أما التبادلية العامة؛ فهي خطاب وممارسة الحياة العامة على أساس قيم وقواعد تُجسّد احترام الأفراد، التي تبرز في صور متنوعة تشمل الممارسات الفردية، التي تُعلّي من قيم النزاهة، والاستقامة، والقيم الاجتماعية للعدالة، والكياسة والاندماج والحوار. تنشأ الشعبوية الأخلاقية نتيجة أزمة مشاركة ترتبط في الغالب مع صدمة مجتمعية كبيرة كالاحتلال، والحرب الأهلية، والفشل الاقتصادي لدرجة انهيار الحكم المؤسسي، أو نشوء حكومة استبدادية، أو ثورية تطلق العنان للانتهاكات الواسعة. تعرّضت جميع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط الكبير لصدمات مجتمعية من هذا النوع، قامت على إثرها العديد من الخطابات الشعبوية.
عادة ما تلي تلك الصدمات الكبرى إعادة تشكُّل للعلاقات المجتمعية الأساسية، دون تكرار لأنماط التبادلية القائمة، بحيث يتنافس الأفراد بقوة على الأعراف والرموز والطقوس الاجتماعية، وتبرز حركات سياسية شعبوية جديدة. قد يتم إعادة تشكيل المؤسسات التي تم تحطيمها بذات النمط الخارجي، ولكن بحيوية وعلاقات اجتماعية وسياسية مختلفة. غالباً ما تنمو الشعبوية الأخلاقية جنباً إلى جنب مع السوق السياسي، إذ يغذي كل منهما الآخر: فبينما يستدعي أصحاب المشاريع السياسية السرديات الشعبية المعنوية (خطاب الشعبويين الأخلاقيين) لحشد الدعم وإقصاء الآخرين، يستخدم الشعبويون الأخلاقيّون استراتيجيات إدارة الأعمال من أجل البقاء والازدهار. من المدهش، مثلاً، مدى وضوح الاستراتيجيات التنظيمية لتنظيم القاعدة وداعش القائمة على أساس السوق. في مثل هذه الظروف، فإن إعادة تنشيط المشاركة السياسية تتطلب حساسية تجاه الصدمات التي وقعت مؤخراً وكيفية التعامل معها، مع التنبه إلى أن جهود إعادة بناء المؤسسات من خلال منطق السوق السياسي والشعبوية الأخلاقية قد يتم إعادة توظيفها وتوجيهها إلى غايات أخرى.
إلى أي مدى يتسم السوق السياسي بالعنف؟
غالبا ما تتسم الأسواق السياسية بالعنف بطريقة أو بأخرى. فالعنف بالنسبة لها هو آلية للمساومة، والذي قد يقع نتيجة محاولة أحد الفاعلين الهامشيين إبراز مطالبه أو المساومة على رفع السعر، أو نتيجة لاختلاف الحاكم معه في مطالبته ومحاولة تقليل هذا السعر. يمكن أيضاً أن ينشأ العنف خلال محاولة تحطيم جمهور أحد المتنافسين أو أصحاب المطالب، وبالتالي تقليل شأنه وقيمته في السوق. كما يمكن أن ينشأ العنف نتيجة خطأ تقدير القادة السياسيين للسوق أو إساءة فهم المنافسين.
لا ينبع الصراع المسلح في السوق السياسي من عداوة عميقة أو اختلاف حول مسائل لا يمكن تسويتها. فالأعداء هنا خصوم ظرفيون. فكما أن صديق اليوم عدو الغد، يمكن أن يصبح خصم اليوم حليف الغد. لهذا السبب، قد يكون أعضاء النخب السياسية والعسكرية ودودين أو أصدقاء خارج ساحة التنافس.
تنشأ بعض أعمال العنف التي شهدتها الأسواق السياسية- مثل التجنيد القسري للشباب والأطفال، واستهلاك المقاتلين في الصراعات والحروب واختطاف واغتصاب النساء والفتيات- من الاستغلال التجاري للأشخاص من غير أعضاء النخبة السياسية.
تاريخياً؛ ارتبطت الدورات الرئيسية للحروب واسعة النطاق أو الانتهاكات الجماعية بعملية بناء الدولة أو الثورة، وليس بالأسواق السياسية. إن مستويات العنف، التي أسماها إريك هوبسباوم “عصر التطرف”، من الحرب العالمية الأولى إلى الحرب الباردة؛ هي أعلى من تلك التي شهدتها اليوم جميع أنظمة السوق السياسية تقريباً. في كثير من الأحيان، كان بناء الدولة والعنف الثوري أو المعادي للثورة يتِّبع منطق إبادة الأعداء وتطهير الحركات الجماهيرية. ووفقاً لمنطق السوق السياسي، يعتبر العنف في الأساس وسيلة للمساومة؛ ولكنه عملة لا تعرف قيمتها الحقيقية حتى يتم صرفها. وغالباً ما تنشأ حالات العنف المتطرفة في الأسواق السياسية بسبب أخطاء القادة السياسيين. ويتم الكشف عن الأخطاء عندما يؤدي العنف الواسع إلى التصعيد والرد والانتقام إضافة لنتائج سلبية غير متوقعة في الغالب.
إن القضاء على العنف في السوق السياسي أمر في غاية الصعوبة. ذلك أن اتفاقيات السلام والمعاهدات الأمنية لا تضع حداً للعنف بل تعيد تشكيلة بحيث يتم تحويله ليصبح عنفاً ضد المستبعدين من الاتفاقات. إضافة لذلك، سيكون للقادة السياسيين حوافز لاستخدام العنف للمطالبة بحصة أفضل.
هل يمكن للسوق السياسي تحقيق الاستقرار أو بناء الدولة؟
يمكن أن تكون الأسواق السياسية على درجة عالية من عدم الاستقرار. وهنالك عدد من الأسباب تقف وراء ذلك. ففي سوق ضعيفة التنظيم، يمكن للداخلين الجدد بالأموال أو السلاح تقديم مطالبات من شأنها زعزعة استقرار العلاقات القائمة. وفي سوق شديدة التنظيم، يمكن أيضا أن يؤدي الانتقال من سيطرة زعيم سياسي واحد لآخر إلى زعزعة الاستقرار بشكل كبير.
كما يمكن أن يواجه الحكام أزمة وصعوبات في حال كانت ميزانياتهم السياسية غير كافية، إما بسبب نفاد أموالهم، أو لارتفاع سعر الولاء إلى درجة لا يستطيعون تحملها. كما يمكن أن يرتفع سعر الولاء بواسطة مزايدين خارجيين جدد (مثل حكومات مجاورة، أو راعي دولي) يدخلون حلبة التنافس.
يمكن أيضاً أن يتحول السوق السياسي القائم على ريع عائدات النفط أو العون الأجنبي مثلا إلى نظام سياسي مركزي عالي التنظيم في حال وفرة هذه الأموال، كما يمكن أن يصاب بالشلل في حال انقطاع تلك الأموال.
كما يمكن أن يحدث الاستقرار إذا اتحد الممولون السياسيون وعملوا بشكلٍ جماعي؛ فمثلاً، إذا كان النظام السياسي يعتمد على رجال أعمال في توفير الأموال، وقام هؤلاء بإنشاء كارتل أو اتحاد وأصروا على مجموعة من القواعد فمن المحتمل أن يكون باستطاعتهم الضغط على السياسيين لفرض تلك القواعد.
كما يمكن لاتفاقيات السلام أن توفر حصة ثابتة من العوائد شريطة ثبات ظروف السوق القائمة. وفي حال تغيّر القيمة السوقية للموقّعين على اتفاقية ما، سيكون هناك حافز قوي لإعادة التفاوض على الصفقة. علاوة على ذلك، تستبعد معظم اتفاقيات السلام بعض الأطراف الفاعلة، الأمر الذي يُجرّد هذه الاتفاقيات من القدرة على الصمود إلا في حال قبول الأطراف المستبعدة بوضعها أو في حال تم قمعها.
في ظل الضغوط السياسية التنافسية المدعومة بالمال فإنه من غير المحتمل أن تقود التحولات من الحكم الاستبدادي إلى ديمقراطية مؤسسية. بل من المرجح أن تؤدي إلى سوق غير منظم يشوبه العنف السياسي. وفي ظل نظام أبوي تسلطي لدولة منهارة تصبح الزبائنية المنظمة مزاداً غير مقنن للولاءات.
إن وجود مؤسسة فاعلة في إطار نظام سوق سياسي ينتج عادة عن ظروف السوق السياسية التي تحمي تلك المؤسسة. عادة ما يحدث هذا عندما يكون هناك راعٍ في موقع مميز يسعى لأي سبب من الأسباب (كالمعتقد الشخصي أو حسن النية أو الطموح السياسي الذي ينطوي على سمعة النزاهة التكنوقراطية) إلى تعزيز المنافع العامة بدلاً من الامتياز الفئوي. لكن استمرار هذا الترتيب سيكون رهناً باستمرار تلك الظروف. فعند نقل الراعي أو الفرد إلى وظيفة أخرى أو في حال فقدانه لنفوذه فسوف تنفجر فقاعة النزاهة هذه.
كيف ترتبط السوق السياسية بالفساد والسرقة واقتصاديات الحروب؟
يرتبط السوق السياسي ارتباطاً وثيقاً بالفساد النظامي، والاستيلاء على موارد الدولة من قبل التكتلات الإجرامية والحكم الكليبتوقراطي، وبالنهب، وأمراء واقتصاديات الحروب. ففي ظل نظام مؤسسي، يسهّل الفساد اختراق السوق السياسية. بيد أن تحليل السوق السياسي يركز على ميزات مختلفة ويستلزم وصفات سياسية مختلفة.
يتداخل الفساد مع التمويل السياسي. لكنها ظواهر متمايزة. فمعظم مصادر التمويل للميزانيات السياسية مشروعة (مثل عوائد النفط، التعاون الأمني، التبرعات التجارية) بينما يكون جُل الإنفاق السياسي إما إنفاقاً قانونياً أو إعادة تدوير للتمويل غير المشروع لمكافآت المحسوبية. يسلط تحليل التمويل السياسي الضوء على طبيعة الفساد في بلد ما وما الذي يمكن فعله للتعامل مع ذلك الوضع.
التعريف الشائع لنظام الحكم الكليبتوقراطي؛ هو حكم اللصوص. يُمكن تعريف السوق السياسي بأنه استخدام لآليات السوق للعرض والطلب في عمل أجهزة السلطة العامة، التي تُمكّن من النهب.
فالدافع لمخربي الاقتصاد؛ هو الجشع وحده إذ يقومون باستخدام المناصب السياسية فقط للثراء الشخصي. يسعى رواد الأعمال السياسيون لتحقيق أهداف سياسية، ضمن نظام يفرض عليهم الاختيار بين التنافس في سوق سياسية أو الفشل. عليه، فإن هدفهم هو السلطة و”ربحهم” هو ميزانيتهم السياسية، والتي عادة ما يتم إعادة استثمارها في مشروعهم السياسي وفي مكافآت المحسوبية بشكل خاص. يمكنهم أيضاً تجميع الثروة الخاصة التي قد تكون في بعض الحالات هي دافعهم الأساسي لدخول السياسة. لكن إطار السوق السياسي يسمح لنا بفهم السبب الذي يجعل السياسي، الذي لديه أجندة لتعزيز الصالح العام أو الدفاع عن المجتمع أو لديه هدف أيديولوجي، ينتهي به المطاف بالعمل كرائد اعمال سياسي أو السقوط على قارعة الطريق.
التعريف التقليدي لاقتصاد الحرب هو اقتصاد مخطط مركزياً ومكرّس للإنتاج من أجل المجهود الحربي. في عصر “الحروب الجديدة” تم توسيع هذا التعريف ليشمل القيام بالأعمال العدائية بطريقة تثري المتحاربين الرئيسيين من خلال التواطؤ، مثلا، بين الأطراف المتحاربة ودمج وجمع الفصائل السياسية والعصابات الإجرامية. هذا النوع الثاني من اقتصاد الحرب هو شكل من أشكال السوق السياسي. لكن بعض (وليس كل) الأسواق السياسية في زمن الحرب هي اقتصادات حرب بالمعنى الدقيق تعمل من أجل الإثراء الشخصي للمقاتلين. ويمكن أن ينهار السوق السياسي إذا تمت إدارته بشكل خاطئ، بحيث يقود إلى حرب ومن ثم إفلاس الاقتصاد وإفقار المتحاربين.
إلى حد ما، تَكْمُن أهمية هذه الفروق في حقيقة أن الأدوات التقنية للتعامل مع الفساد لن تؤدي إلى تفكيك السوق السياسية نفسها. إن التشديد والتضييق على الفساد أو التدفقات المالية غير المشروعة أو العصابات أو استغلال الحرب، باستخدام أدوات مثل العقوبات أو المحاكمات، قد يؤدي إلى إلقاء القبض على المجرمين، ولكنه سيعيد تشكيل السوق بدلاً من تغييره. في الواقع، هناك خطر من أن تؤدي حملة التشديد الانتقائية إلى زعزعة استقرار السوق السياسية ودفعه للعنف.
الآثار المترتبة للسياسة:
إن إطار السوق السياسي لا يطرح نموذجاً سياسياً أو برامجياً بسيطاً، بل يولّد مجموعة مختلفة من الأدوات التحليلية والقياسية لفهم حالة معينة، أو تدخل معين، الأمر الذي يُمكّن واضعي السياسات من مراجعة وفحص السيناريوهات المحتملة وتأثيرات إجراءات وتدابير السياسة.
* برنامج أبحاث العدالة والأمن هو مجموعة بحثية دولية تقدم أدلة أساسية حول مجموعات السلطة العامة التي تحكم الحياة اليومية للناس في السياقات الهشة والمتأثرة بالصراعات. يهدف البرنامج إلى فهم كيفية تشكيل السلطة العامة وكيف تهيئ الوصول إلى العدالة والأمن. ومن خلال العمل الميداني المجتمعي الصارم، بصفة رئيسية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، وشمال أوغندا، يستكشف برنامج أبحاث العدالة والأمن ثلاثة منطلقات للحكم:
السوق السياسي: سياسة المعاملات حيث يتم تبادل الولاءات والخدمات السياسية للحصول على مكافأة مادية.
الشعبوية المعنوية: الدور الاجتماعي والسياسي الذي تلعبه الهويات والقيم الحصرية في تعبئة المشاعر الطائفية لدعم المشاريع السياسية.
التبادلية العامة: الخطاب وممارسة الحياة العامة على أساس القواعد والمعايير التي تجسد قيم احترام الأشخاص.
* “أليكس دي وال” هو مدير تنفيذي لمؤسسة السلام العالمي، مدرسة فليتشر، جامعة تافتس. آخر ما كتب، كتابه “السياسة الحقيقية للقرن الإفريقي: المال والحرب ونشاط أعمال السلطة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى