الرأي

السلام البارد.. أخطاء وخطايا

فتحي الضَّو
‎سألت نفسي وربما تساءل الكثيرون مثلي: لماذا تبدو (اتفاقية جوبا للسلام) باردة كجثة هامدة ماتت قبل أن تُولد أو بالأحرى قبل أن تُطبَّق عملياً؟ بصورة أخرى لماذا يبدو الانفعال الشعبي بها ضئيلاً، لا سيَّما في مناطق النزاعات والحروب؟ بدليل أنه لو قُدر لك أن تستفتي رهطاً من الناس حول نصوصها، لما وجدت من يُعطيك إجابة شافية. بل أصدقكم القول إنني قرأتها على عجل من باب الإحاطة بالشيء ولا الجهل به. فقد علمتنا تجاربنا المريرة أن النصوص مكانها الأضابير، ولا يساورني أدنى شك في أن هذه التي نحن بصددها قد طويت صفحاتها قبل أن يجف حبرها. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه ببساطة: لماذا يا ترى يحدث ذلك؟ في تقديري الإجابة ترجحها عشر أخطاء وخطايا صاحبت الاتفاقية من المهد إلى اللحد!
‎أولاً: دعونا نبدأ بالخواتيم، من يا ترى العبقري الذي اقترح أن يكون يوم الأحد (أمس) عُطلة رسمية لاستقبال صُناع السلام؟ ألم يخطر بباله أن تلك من الظواهر المؤذية التي أرهقتنا بها الأنظمة الديكتاتورية؟ ألا يعلم أن النظام البائد كان أكثرهم باعاً في تحشيد وتضليل وتجهيل الناس بمثل هذه الهرطقات؟ كيف يستقيم ذلك في بلدٍ ضَعَفَ الإنتاجية فيه يمثل العقبة الكؤود في إدارة موارد الدولة الضخمة والمتنوعة؟ وإذا ما كانت الثورة التي ملأت سيرتها الآفاق هي ثورة وعي وتنوير وقيم جميلة، فلماذا إذن يؤلموننا بالذي اعتقدنا أننا تخلصنا منه ضربة لازب؟
‎ثانياً: ومن يا ترى العبقري الآخر الذي ظنَّ أنه يزفُ البشارة للشعب السوداني متفاخراً بتكوين لجنة لوضع الترتيبات اللائقة لاستقبال الفاتحين الجُدد؟ ويذيع لوسائط الإعلام – دون وازع أخلاقي – بأن دولة (ود أب زهانة) خصصت ميزانية مبدئية قدرها ثلاثمائة ألف دولار لهذا العمل العاطل؟ كيف لا يكون السلام بارداً وجثةً هامدةً ما دام يحدث ذلك في وطنٍ تتراكم فيه الأزمات طبقاً عن طبق، وقد عزَّ فيها الغذاء والدواء والكتاب!
‎ثالثاً: لماذا أصلاً تحشيد الناس؟ كلنا يعلم أن النظام البائد كان يفعل ذلك بغرض الحصول على شرعية زائفة خادع بها نفسه طيلة عقود التيه والضلال. كما وأنه من كثرة ولع زبانيته بهذه الظاهرة أصبح لديها سماسرة يقومون بكل شيء، تعطيل الناس من أعمالهم، صرف الطلاب من مدارسهم، تحضير وسائل المواصلات، جلب مكبرات الصوت، توفير قوارير المياه، كتابة اللافتات وحتى اختيار شعاراتها التي تبهر العيون، ومقابل ذلك يجنون الأموال الطائلة. فهل يريدون بهذا الفعل المشابه بث الروح في الاتفاقية وإخراجها من غرفة الإنعاش؟ أم أن هناك قولاً أُنزل من السماء على أساطين الزمان الأغبر ويريدون أن يعلموننا جدوى السلام ونبذ الحرب وحب الوطن؟
‎رابعاً: شاهدنا قبل أيام معدودات احتفالاً في ميدان الساحة الخضراء، والتي أصبح اسمها (ميدان الحرية) ربما لتلبية رغائب المتحدثين، والذين رأيناهم وقد اعتلوا المنبر واحداً تلو الآخر، ثمَّ انتفخت أوداجهم ورددوا علينا ذات الكلمات الجوفاء التي تتبخر في الهواء بمجرد انفضاض السامر. لا أدري لماذا تراءى لي حينها طيف المشير المخلوع وزبانيته وهم يهرطقون بذات العبارات الممجوجة. مع ذلك لم أكن أظن أن تلك كانت مجرد (بروفة) لمسرحية أخرى قادمة بكامل أبطالها. من يا ترى يقول لهؤلاء إن الثورة التي نعيش في كنفها أعظم من أن تُبتذل بمثل هذه الممارسات القميئة؟ من يخبرهم بأن الوعي الجماهيري تجاوز مرحلة (الفانوس حرق القطية) بعدة سنوات ضوئية؟
‎خامساً: ونحن نبحث عن الأسباب التي أدت إلى خمول ولا مبالاة الناس بالاتفاقية، لابد أن نستذكر عقبتي الزمان والمكان. فقد كان لتطاول أمد الاتفاق – مع علاته – مبعثاً لاستدعاء السأم والملل في النفوس، وكادت أن تنطفئ جذوة الثورة فيها، خاصة وقد حددت الوثيقة الدستورية ضرورة إنجاز السلام في غضون ستة أشهر، فإذا به يتمدد لنحو عام أو يزيد. أما بالنسبة للمكان فقد أصاب الإحباط الناس الذين كانوا يعتقدون أن الخرطوم هي المكان الأنسب بعد ما سقط (هُبل) الإنقاذ. وهو السقوط الذي كان يحتم إسقاط عاملي الزمان والمكان احتراماً للثورة وشهدائها، لا الالتفاف الماكر حولهما!
‎سادساً: حتى بعد أن تجاوز الناس عن مرارات الزمان والمكان، تمخض الجبل فولد فأراً، إذ جاءت (مخرجات) الاتفاقية بذلك البؤس الذي مايز بين الكاظمين الصبر والثورة وبين المتهافتين على مناصب الوجاهة. وتأكد أنه لا يرقى لمستوى التضحيات التي بُذلت ولا التنازلات التي غض الناس الطرف عنها، ولم يكن غريباً أن تتقاطر السخرية من العدو والصديق. فهل يستطيع كائن من كان أن يقنع الشعور الجمعي بعدم تضاؤل التجرد الوطني حيال المحاصصات البئيسة؟ وإلا فماذا يعني زيادة أعضاء مجلس السيادة ليكونوا 14 عضواً في حين أن جُل القدامى عاطلون عن العمل؟
‎سابعاً: لعل الأكثر كارثية فيما تمخض عنه الاتفاق انتهاكه الوثيقة الدستورية في أكثر من بند، أخطرها تغليب كفته في حال تضادت نصوص البنود مع الوثيقة. أي أصبحت للاتفاقية اليد العُليا وللوثيقة اليد السُفلى، علماً بأن الأولى قام بها نفر يمثلون حركات فرضت شرعيتها بقوة السلاح، في حين الثانية تواضعت عليها كل القوى السياسية والمهنية، بل شاركت فيها الحركات نفسها، بالتالي أصبحت تمثل إجماع الأمة السودانية، غض النظر عن نقائصها التي ظهرت فيما بعد، كما لا يجرمنها شنآن قوم انتهكوها سلفاً!
‎ثامناً: هذا البند قد يراه بعض الناس ليس بذي بال، ولكن لا يستطيع أحد أن ينفي تأثيره على مجريات الواقع. فثمة خطأ منهجي في تعريف الكيانات بمسمياتها الصحيحة، وقد أدى ذلك لتعتيم الرؤية بحيث أصبح القزم مارداً. إذ يقولون الآن (الحركات المسلحة) والأصح أن يقال (الحركات التي كانت مسلحة) إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج. فالأولى تنطوي على تضليل لا يعبر عن الواقع. بينما الثانية هي الأصوب باعتبار ما كان، وكذلك واضعين في الحسبان أن النظام الذي أشعل حروبها وأيقظ ضغائنها قد ذهب إلى مزبلة التاريخ. ذلك يعني أن ما سُمي تفاوضاً كان خطلاً، والأصح أن يقال حواراً لدرء آثار الحرب وكنس مخلفاتها، ومع ذلك هذا مكانه المؤتمر الدستوري أو ورش عمل على نمط ما قامت به الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز آدم الحلو وإن لم تبلغ مراميها!
‎تاسعاً: على الرغم من كثرة العباقرة الذين أوردونا موارد التهلُكة، ليت الذي اقترح ما سُمي (المسارات) يُعلن عن نفسه حتى يُكرم كبطل قومي أيقظ الفتنة الحمقاء من سُباتها العميق. واقع الأمر أن تلك البدعة جديرة بأن تطلق عليها (ضلالات) وليس مسارات. ومهما كان التبرير فلن يستطيع مبتدعها أن يسقط الدوافع الخاصة مراعاةً لفئةٍ أدمنت حياة الدعة والخمول والكسل الذهني!
‎عاشراً: هذه أحق بأن يطلق عليها عاشرة الأثافي، فقد فوجئ الرأي العام بزيارة وفد (الحركات) لدولة تشاد، ومنها اتجه الوفد الميمون نحو دولة الإمارات العربية، بينما الناس في ذهول جراء تفسير هذه الخطوة التي لم تراع الجوانب النفسية ناهيك عن الأبعاد الوطنية. إذ أن كثيراً من المراقبين لم يستطع أن يخفي تفسيراته التي ذهبت في اتجاه يصعُب دحضه. عجبت لمن يقول إنها من أجل تقديم الشكر والعرفان للدولتين على مواقفهما إلى جانب الشعب السوداني، كأنما بذلك يوحون بدورٍ لهما في سقوط النظام البائد كما يُشيّع قصار النظر. وهو افتراض مخاتل يجرح الكبرياء السوداني في مقتل. ويمكن بذلك الفهم الأعور أن نقول إن الولايات المتحدة الأمريكية ساهمت في إسقاط النظام بالعقوبات التي فرضتها عليه، ويمكن القول إن إرتيريا لعبت دوراً كذلك بدعمها التجمع الوطني الديمقراطي لمدة عشر سنوات. فلماذا إذن لم يتوجهوا نحو أسمرا وواشنطن؟ أما أنجمينا فعلى العكس تماماً، فقد كانت داعمة لنظام الأبالسة حتى سقوطه، مما ينفي الخزعبلات التي جاءت في بيان المدعوين؟ وكيف رأت البوصلة هؤلاء وأسقطت أولوية زيارة الذين يقبعون في معسكرات الذل والهوان؟ ناهيك عن كل الشعب السوداني الذين هم في العذاب المهين يرزحون!
‎يا سادتي أخشى أن يكون اتفاق جوبا بمثابة (القندول الشنقل الريكة) كما يقول المثل الشعبي السائد!
‎آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى