الرأي

السقوط في امتحان الممارسة الديمقراطية

تحولات
محمد أحمد الفيلابي
التشريعي وقته معلوم ومهامه محددة ما يقتضي التوافق لا التناحر والتحزُّب والاستقواء بالمحاور
في حواري مع الأستاذ جاد الله الرضي المنشور في مكان آخر من هذا العدد، وعدد أمس الأول، ذكر لي الكثير من الحكايات التي لم تُضمّن في ما نُشر، ذلك ليقيني الراسخ أن الكلمات المكتوبة لن تستطيع توصيل تلك الأحاسيس ونبرة الأسى المشوبة بالحنق على ما يجري الآن. منها حكاية توافق أعيان المسيرية في العام (1955)، على إسقاط ناظرهم (بابو نمر)، وترشيح ناظر دينكا نقوك (دينق مجوك) لرئاسة مجلس تشريعي أبيي، الأمر الذي لم يثر غضب الناظر، إذ لم يدر بخلده ورفيقه من الطرف الثاني أنه سيأتي يوم يختلف فيه أبناء المسيرية مع إخوانهم من دينكا نقوك، حد أن لا يسلم أحدهم على الآخر. وتم الأمر بفعل فاعل سياسي لم يكن يهمه سوى أن يسود. وتُظهر الشهادات والتحليلات التي تترى هذه الأيام حول تلك الفترة الكالحة، وما فعلته الإنقاذ (المسنوحة) حسب تعبير الصديق د. مرتضى الغالي، لم يفعله المستعمر بين أبناء الشعب الواحد، بل أكثر.
مضى يوم 25 فبراير، ولم يُعلن عن قيام مجلس تشريعي حكومة الثورة الانتقالية. وتساءل المواطن العادي.. هل ثاب أهل الشأن إلى رشدهم وأعادوا النظر في نتيجة محاصصاتهم المحبطة؟ هل خجل شريك المدنيين وسحب عصاه المرفوعة في وجه من آل إليهم أمر تسمية من سيجلسون على الـ(300 مقعد) تنازلاً عن حصة لا حق له فيها، ولا يجوز له في الأصل التفكير في أن ينال مقعداً واحداً يمنحه لمن يمثله من المدنيين من فصيلة (حاج الرزيق) أولئك الذين أدمنوا الفشل السياسي، و(استحلوا) التمسُّح في جوخ السلطة، ولعق أحذية العسكر، والخروج على الناس بوصفهم قادة قبليين، أو من الفاعلين السياسيين الذي وضعوا بينهم وبين مرآة الخجل و(الاختشاء على الدم) شهادات أكاديمية، وشهادات خبرة ممهورة بخاتم أعداء الديمقراطية من العسكر، وعملاء المحاور الإقليميين.
ماذا كان سيحدث إن لم يكن مجلساً تشريعياً لوقت معلوم، ومهام محددة تقتضي التوافق أكثر، لا التناحر والتحزُّب والاستقواء بالمحاور؟
لماذا كل هذا الغلو والشطط؟ أين سماحة الإنسان السوداني وأصالته التي منحت دينق مجوك رئاسة تشريعي أبيي، بمباركة أعيان المسيرية؟ أين منا تلك الدرجات العُلا من قبول الآخر، والاحترام والتمازج، والمقدرة على إدارة التنوُّع (بالفطرة)؟
لماذا هذا الإصرار على الاستئثار بكراسي السلطة ممن لم تعادل أسهمهم في إسقاط الإنقاذ أسهم الآخرين من المتباعدين والمقصيين، وأولئك الذين تحاول القلة السيطرة عليهم، والاستقواء بهم، أو إبعادهم بذات نهج الإنقاذ ليخلو لهم وجه الشعب؟ ألم يكن من هؤلاء من كان يكيد للثورة والثوّار؟ ومن ظل يستجلي الأمر من نافذة قصره أو فندقه متأهباً للتنكّر للأمر في حالة فشله، أو الانقضاض عليه في حال نجاحه؟ ومن هؤلاء من يمسك الآن بعدد من الخيوط متناسياً أن هناك من الأمور ما لن ينساه المواطن العادي، لأن ذاكرة الشعوب ليس كذاكرة ممارسي السياسة يعدون بالأمر اليوم وينسونه في الغد، إن لم يكن قبله.
لن نتعافى سياسياً دون أن تكون لدينا ديمقراطية حقيقية، وهذه لن تكون إلا بارتفاع وعي المواطن، وخلو الممارسة من أهواء البعض، مع تفعيل حقيقي لقيم العمل الديمقراطي.. ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هنا.. كيف يتسنى لقوى الحرية والتغيير العمل في ظل إعلان انسلاخ بعض المكونات الأساسية، وتباعد مكونات أخرى، واستمرار بقاء بعضها مع ما يبديه أعضاؤها من تذمّر جراء انفراد قلة باتخاذ القرار.
ما الديمقراطية إن لم تحقق شعارات الثورة، وتنزل على أرض الواقع مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، والأمن الشخصي والاجتماعي والاقتصادي؟ وكيف بها تكون دون ترسيخ لقيم الصدق والأمانة والتعايش السلمي، ودون مشاركة الشعب في اتخاذ القرار؟ كيف نتحدث عن الديمقراطية ونحن لا نحترم المال العام، ولايبدو أن هدف المحافظة عليه يشغل بال من يسعون للسلطة؟
من مبادئ الديمقراطية احترام حقوق الإنسان، والفصل بين السلطات، ومحاربة الشطط في استعمال السلطات. ولأن الديمقراطية تقوم على توافر مؤسسات محكمة البناء تضطلع بمهامهـا علـى نحـو يرضي الجميع، بجانب توافر مجموعة من المعايير والقواعد، تشغلنا هذه الأيام نداءات استكمال هياكل السلطة الانتقالية بعد أكثر من عام من تسلم السلطة الانتقالية لمهامها، وعلى رأسها المجلس التشريعي (صوت الشعب).
نعي تماماً، ونتشارك الوعي مع نسبة لا يستهان بها من شعبنا أن الديمقراطية تتوقـف علـى إرادة المجتمع المـدرك تماماً لحقوقه وواجباته، هذه المعادلة التي يتم نسيانها في ظل الصراع الكبير على كراسي السلطة، ويؤشر ما نراه اليوم من تنافس محموم على كراسي المجلس التشريعي الانتقالي على ذلك. لكأن الأمر لا يمثل فرصة للتمرين على ممارسة الديمقراطية، وفرصة كبرى للمؤسسات التي يجب أن تكون ديمقراطية لتقوم بدورها في تخفيـف حـدة التـوتر، والحفاظ علـى التـوازن بـين التنـوّع والتوحّـد، وبـين الفـردي والجمـاعي وذلـك مـن أجـل دعـم الترابط والتضامن على الصعيد الاجتماعي.
الديمقراطية يا سادتي تؤدي الى الإستقرار السياسي، لا إلى بعثرة الجهود وتشتيت الخلوق و(فرزعة الكيمان). وهي عامل رئيس في تقليل مستوى الفساد، لا ترسيخه من خلال (التكويش) على السلطة والموارد. وهي في البلدان الراسخة ديمقراطياً تعد عاملاً مهماً في تقليل نسبة الفقر، فالدول التي تتمتع بالديمقراطية الكاملة تكون مزدهرة اقتصادياً.
ألا نستحق الاستقرار الإقتصادي، ومن قبله السياسي يا هؤلاء؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى