حوارات

الروائي السوداني عماد البليك: أكتب لكي أفهم الحياة ولكي أعيشها

هذا حوار طال انتظاره على الأقل بالنسبة لي كمحاور، فقد هيأ لنا العالم السبراني مائدة نلتقي فيها مع الروائي (عماد البليك)، وعماد الدين عبد الله محمد البليك درس مراحله الأولى في بربر بنهر النيل ثم التحق بجامعة الخرطوم كلية الهندسية وتخرج في قسم المعمار، يقيم حالياً في مسقط بسلطنة عمان، متزوج وأب لطفلين، تفرغ للعمل بالمجال الصحفي والكتابة، يكتب بمواقع وصحف عربية، ويعمل بصحيفة (عمان اليوم). كما يكتب زاوية راتبة أسبوعياً بملف الصحافة الثقافي. هجر الهندسة إلى الأدب، وهو كاتب غزير الإنتاج، فقد أصدر عدداً من الروايات منها (دنيا عدي، الأنهار العكرة، وحش القلزم، دماء في الخرطوم، شاورما)، بالإضافة لرواية (ماما ميركل) التي ناقشت الهجرة غير الشرعية لأوروبا وموت آلاف المهاجرين، ورواية (الإمام الغجري)، و(قارسيلا) التي ترشحت للبوكر من قبل الناشر (مومنت) في لندن، ثم روايته الأخيرة المشمس الهندي.
أصدر البليك مجموعة قصصية بعنوان (الهمبول) وله مقالات في الفلسفة عن العقل السوداني. وجاء حوارنا حول أشتات متفرقة عن الأدب والثقافة والفلسفة فإلى مضابط الحوار:
حاوره: أحمد يعقوب
كيف يعرف عماد البليك أناه؟
من الصعب على الإنسان أيَّا كان تعريف ذاته، فتلك مهمة وسؤال صعب، حيث أن الذات الإنسانية من أعقد المسائل التي يمكن الولوج إلى عمقها، ولهذا فإن التاريخ البشري يندفع دائماً نحو تعميق هذا السؤال بدلًا من الإجابة عنه، لكني ببساطة يمكن أن أقول إني إنسان يبحث عن معنىً لهذه الحياة من خلال ممارستها والعيش فيها، أحاول أن أصنع شيئًا له معنى وقد يترك أثرًا إيجابيًا لدى الآخرين، من خلال ما أكتبه وما أفكر فيه وأتكلم به. باعتقادي أن الأنا عندي هي مزيج من الاحتكاك بالوجود لسبر غوره واكتناه معناه.
يقول نيتشه، إن المعنى الحقيقي للحياة أشد شناعة من أن نتأقلم معه، ولهذا السبب نحتاج إلى الأوهام التي تمدنا بالعزاء كي نستمر.. وان ما ندعوه حياة هو محضّ خيال لازم وضروري ومن دون ذلك المزيج الهائل من الخيال، سيكون الواقع في تباطؤ تدريجي إلى أن يتوقف.
هل الكتابة بالنسبة إليك اجتراح ومغايرة لفهم هذه الحياة؟
الخيال هو جوهر الوجود، دونه تتوقف الحياة ولابد لنا أن نعيد سيرة الإنسان في العالم لنفهم أنه لولا التخيل الهائل في التجربة الوجودية لما وصلنا إلى ما نحن عليه من تطور في هذا الكوكب اليوم. والكتابة هي شكل من أشكال الخيال الذي لاشك يتماس مع الواقع والمعيش، وأنا أكتب لكي أفهم الحياة ولكي أعيشها، وأحاول أن أكون ذلك الكائن الذي له دور ومعنى كما قلتُ في السؤال السابق. لكن سنظل مهما نفعل، نحن البشر، أسرى أوهامنا لن نتحرر منها مطلقًا، فلولا الوهم لما كان الوجود والفلسفة والعلم.
إن التاريخ في باطنه هو النظر والتحقيق وتعليل الكائنات ومبادئها، والعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها، كيف تتعامل مع التاريخ كروائي؟
التاريخ عندي هو وجهة نظر متغيرة كل يراها من زاويته المناسبة أو التي تتقاطع مع تخييله ومعرفته، لا يوجد شيء اسمه التاريخ بالمعنى الحرفي والدقيق إلا داخل هذه التقاطعات في سبيل تشكيل رؤية تخص الذات وفي إطار زمني محدد. لهذا فإن التعليل مستمر والوقائع متغيرة بحسب التكييف الحاصل في كل مرحلة وداخل كل تصور ذهني. في الرواية، التاريخ عندي هو محاولة الإجابة عن سؤالي الشخصي، من خلال موقعي في العالم وفي الزمان والمكان المحددين، من أنا؟ وابن أي عصر؟ وأي شيء أنشده؟ تلك الأسئلة لا يمكن فصلها بأية حال من الأحوال، من صلب تصوري للتاريخ، فنحن في خلاصتنا كبشر، نحن هو التاريخ نحمله ونمشي به، ونتنفسه. ليس لكائن أن يتحرر من ذلك، لهذا فالتاريخ عندي هو سردية الذات وتصوراتها للعالم من منظور الآن، وحيث يمكن أن تتلاشى الأزمنة وتتداخل ويصعب الفصل بين الماضي واليوم والغد.
كيف تقرأ الحياة الثقافية في السودان؟
السودان يكتنز بالمعرفة الخام، والتراث المهول، لاسيما على المستوى الشعبي، وعندما نتكلم عن “خام” أي ما ينتظر الحفريات وإعادة التدوير والتفكير فيه، فالثقافة السودانية لم تصل إلى مرحلة الإنتاج الفاعل والمستقبلي، لازالت تعيش في طور التعامل مع هذا “الخام”. بهذا فالمطلوب للحياة السودانية الثقافية لكي تنهض أن تنفض عنها الكثير من البلل والعطن وأن تسير نحو الرؤية والمعنى والتشكيل. المواجهة مع الذات ضرورية لأجل المستقبل ولأجل البناء الحضاري، لكي نكون مساهمين بفعل في التصورات الإنسانية الأكثر حداثة، وبزاوية أخرى سوف نجد حتى أشكال الاستهلاك الثقافي عندنا عمياء، ليس لها من أبجديات فاعلة وحضور مؤثر.
مارس الرقيب منع النصوص وإعدامها بما فيها تلك التي ليست في حاجة للمنع، أهو عقل إنشطاري استبدادي؟ أم أن السلطة تريد للمثقفين أن يبشروا بأيديولوجيتها؟
الموضوع أكثر تعقيدًا من تصور لحظي يقوم على ردة فعل في القراءة السياسية الراهنة أو مفهوم كراهية الأنظمة الاستبدادية، إنه يتعلق بإشكاليات عميقة في صلب المجتمع وفي جوهر الأنساق الأخلاقية والتقاليد، نحن ما زلنا مجتمعات “دون ثقافية”، لم نصل للتحضر والذكاء المتمدن، ولم نحاور أنفسنا لكي نكسبها، إننا نمارس القطيعة لأجل القطيعة والمصادرة لأجل المصادرة، نريد أن نشبع النفوس المثقلة بالكراهية والعبث والجنون اللحظي، ليس لدينا استراتيجية للحياة والمعنى أو الحضور، والسياسة عندنا مثل أنماط العيش البدائية في المجتمع لم تتطور، والكائن البشري/ لا الإنساني في بلداننا يقتات على الكفاف، وليس الكفاف بمعنى الزهد إنما العجز.
قلت في إحدى مقالاتك عن العقل السوداني (فانشطار الذات هو دليل على أنها ترى نفسها متحدة غير قابلة للتجزئة، بخلاف ما يسود من معنى أن المنشطر هو كائن مختل) كيف تصف الوعي الجمعي السوداني؟
القضية تتعلق بالمفاهيم، وللأسف فكثير منها “مختل”، وما لم تؤسس للمفهوم السليم لن تستطيع أن تتقدم أية خطوة للأمام، فخلل المفاهيم سمة سائدة حتى لدى شريحة المثقفين، الذين يعانون من التيه المعرفي بسبب غياب الأرضيات التي يتحركون منها لإنتاج الفعل الثقافي. وهذا لا يمكن فصله عن مجمل الفشل العام في مكاينزميات الدولة وقدرتها على الإنتاج الاقتصادي والثقافي والمعرفي وغيره. من هنا فـ “الوعي الجمعي السوداني” – كشيء مجازي- يقوم على تسطيح المفاهيم وهذا لا يتم بإرادة إنما بتقليد مستمر من التبعية والمعايشة للمعاد، دون أن يكون لدى الذوات الانتباه بأن ثمة خطر يحدق بالجميع وأنه يجب القيام بفعل إيجابي لأجل القفز لتحاشي النار. لا أحد يهتم، لأن فعل الاهتمام يأتي من المعرفة، وهي غير موجودة بالمعنى الذي يجعلها ذات أثر وفاعلية.
هل يمكننا القول إن هنالك عقلًا سودانيًا خالصًا نستطيع دراسته كمادة؟ أم مجموعة من الجزئيات هنا وهناك والتي لم تتبلور في بوتقة واحدة بوعي جمعي؟
هذا العقل الخالص ليس له من وجود حقيقي، هناك نثارات من التقاليد والأفكار والمتوارثات التي تحاول أن تشكل هذا العقل، وهو لن يكون مطلقًا، ويجب ألا نضيع الوقت في البحث عن هذا التكوين المجهول والغيبي. فالبحث عن العقل الجمعي سيصبح أسطورة تشكل امتدادًا للأساطير المتوارثة، في المقابل فإن المطلوب هو بناء الوعي الخلّاق للدولة والإنسان من خلال العقد الاجتماعي الحديث وإعادة بناء أنظمة التعليم والمعرفة والتمدن وحقوق الإنسان. لكن تكلمنا “العقل الجمعي” مجازًا فإن الهدف سوف يكون إجرائي وبحثي، بهدف التحفيز المعرفي الذي يفيد في تفسير مشكل الراهن وتلمس المستقبل، بحيث يتحول تصور هذا الشيء لما يشبه ما تقوم به الفنون الأدبية والرواية مثلًا، وليس القبض على الفكرة كمسألة دامغة وحقيقة نهائية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى