الرأي

الرهان الديمقراطي بين أحزاب التاريخ وأحزاب الجغرافيا  


للحالة السودانية خصوصيتها في كل مراحل تطورها السياسي سواء في دورتها القلقة بين انقلاب وانتفاضة وديمقراطية قصيرة أو في شكل ثنائية تكويناتها السياسية بين يمين ويسار أو بين أمة واتحادي أو بين ختمية وأنصار. ورغم أن دورات الحكم الشمولي كانت هي الأطول عمرا منذ استقلال السودان مقابل فترات ديمقراطية قصيرة متقطعة إلا أن ما يمكن أن يطلق عليها الأحزاب التاريخية الوطنية المتمثلة في حزب الأمة والحزب الاتحادي وبدرجة أقل جماهيرية الإسلاميين واليساريين تظل هي الأحزاب الراسخة شعبيا وجماهيريا والأكثر خبرة سياسية وتأثيرا على الشارع ومبعث اطمئنان له مع ملاحظة أن الأحزاب الراديكالية يمينا ويسارا تبقى الأقل حظا بمقياس الاختيار الشعبي الحر والأوفر حظا بمقياس المغامرة السياسية المتعجلة لضعف إحساسها بالتأييد الشعبي عبر الاختيار الحر.  
كل الديمقراطيات الناجحة والمستقرة قادتها أحزاب تاريخية ولاتزال ففي أميركا ظل الحزبان الجمهوري والديمقراطي يتبادلان السلطة عبر التأييد الشعبي الحر منذ الاستقلال وفي بريطانيا ظل الحزبان الرئيسيان المحافظين والعمال من لهما القرار النهائي منذ عقود وكذا الحال في ألمانيا وفرنسا ومعظم الدول الغربية.  
لم يرمِ أحد هذه الأحزاب بأنها قد تجاوزها التاريخ ويجب إلغاؤها كما هوالحال عندنا أو أن ثمة قوى جديدة هي البديل.
ورغم هذه الادعاءات التي يطلقها البعض إلا أن جميع الدورات الانتخابية التي أعقبت أنظمة شمولية استطاعت فيها هذه الأحزاب التاريخية تأكيد حضورها الجماهيري ونيلها ثقة الغالبية.
الآن وبعد زوال النظام المباد وتطلع السودانيين إلى تحقيق السلام والعدل والحرية والتحول الديمقراطي الكامل عبر انتخابات حرة نزيهة رغم صعوبة المشهد وتعقيداته يتكرر المشهد الانتخابي المرتقب بلاعبين جدد، هذه المرة بأحزاب تنتمي إلى الجغرافيا الجهوية أو قوى سياسية تنطلق من برامج وتوجهات مناطقية سواء حركات دارفور التي نشأت تحت شعارات معينة لحل مشكلات إقليم دارفور السياسية والاقتصادية أو مثيلاتها في جبال النوبة أو النيل الأزرق أو الشرق وحتى بعض الحركات الصغيرة والمسارات الجغرافية جميعها قوى وأحزاب تنطلق من الجغرافيا وليس لها تاريخ أو جذور سياسية بل نشأت كظواهر سياسية أنتجتها ممارسات النظام المباد الذي زال وانتهى. وهي أحزاب وقوى ستجد نفسها اليوم أمام تحدي تجديد خطابها السياسي وبرامجها لتجاوز البعد المناطقي إلى البعد القومي ومن الشعارات إلى البرامج والخطط ومن المحلية إلى القومية وهي المعاني التي مثلتها بجدارة أحزاب التاريخ التي حققت ذاتها السياسية من خلال معارك الاستقلال الوطني ضد الاحتلال أو معارك الديمقراطية في مواجهة الشمولية المتعاقبة. فضلا عن أنها تضم في جنباتها كل مكونات الشعب السوداني الاجتماعية والسكانية والجغرافية والقبلية من مختلف أجزاء السودان تحت شعارات القومية السودانية.  
ويظل الأمل معقودا على استكمال مسيرة السلام الحالية في الاتجاه الصحيح والشامل ليكتمل تطور الحركات والمجموعات المسلحةً في اتجاه تحولها إلى أحزاب قومية ذات برامجً قومية شاملة بعد أن تتحرر تماما من صفة مسلحة لتكتمل مدنيتها ويكتمل دورها الحضاري.
قد تحتاج هذه العملية إلى وقت وهو مطلب طبيعي في مسيرة التطور بشرط توفر الإيمان بالديمقراطية والتمسك بثقافتها في الممارسة السياسية ليستقيم البناء الديمقراطي لصالح المستقبل السياسي للسودان.  
ووفقا للمعطيات السياسية والفرز السياسي الذي يجري حاليا فإن خارطة التحالفات المتوقعة ستشهد حراكا كبيرا في مواجهة هذه الحقائق السياسية على الأرض حيث يتوقع أن يتطور تحالف الجبهة الثورية ليضم كافة المجموعات الصغيرة المناطقية التي تتطلع إلى أدوار سياسية. كما يتوقع أن يتطور مكون الحركة الشعبية بقيادة الحلو ليضم إلى جانب الحزب الشيوعي المجموعات العلمانية والراديكالية الصغيرة إلى جانب مجموعات أخرى منشقة عن أحزابها.  
أما حزب الأمة القومي فيتوقع أن يدعم تحالفا يضم عددا من القوى المدنية إلى جانب بعض قطاعات والاتحاديين وربما المؤتمر السوداني وقطاعات ساهمت في الثورة فضلا عن توحيد صفوفه القطاعية من خلال تعبئة واسعة. وسيكون الحزب الاتحادي الأصل الأقرب إلى التحالف مع الأمة القومي رغم اتفاقاته مع بعض الحركات.  
هي إذن مجرد توقعات لما سيؤول إليه الحال في ضوء المعطيات الحالية في حال سارت الأمور بنفس الإيقاع دون مفاجآت قد تقطع الطريق على مطلب التحول الديمقراطي.  
وأياً كانت تلك التوقعات تظل الأحزاب التاريخية الكبرى رغم محاولات الاستهداف التي تعرضت لها عبر كل الشموليات، تظل هي الأكثر رسوخا في الشارع السوداني وفي العقل السياسي السوداني رغم بريق الشعارات من المجموعات الرافضة لحقائق التاريخ والواقع رغم محاولات التغييب أو القتل المعنوي التي كشفت عنها بعض التصريحات هنا وهناك.  
ويبقى أخيرا آخر الاحتمالات في إطار هذه التوقعات أن ينشأ حلف شراكة بين مجموعات الحركات المسلحة مجتمعة والعسكريين لبناء واقع جديد يقطع الطريق أمام التحول الديمقراطي تحت شعار التفويض ويحول دور الأحزاب وقوى الثورة إلى دور هامشي بمباركة إقليمية غير متحمسة للتحول الديمقراطي في السودان وتقاضي دولي مصالحي لتحقيق المصالح المشتركة لهذه القوى مجتمعة وإنتاج نظام هجين جديد يلبي مصالح الدول الإقليمية خارجيا ويعطي المكون العسكري فرصة الاستمرار في الحكم بدعم من مجموعة الحركات المسلحة المشاركة معه وهو احتمال لن يكون سهلا أو سلسا في ظل ثورة لا تزال كامنة في شوارع المدن.
ويظل الأمل قائما في تجاوز الفترة الانتقالية بتحقيق سلام شامل وعادل وعودة للحكم المدني الكامل عبر بوابة الشرعية الانتخابية رغم التحديات والمؤامرات الإقليمية والدولية التي لا تريد للسودان أن يتطور ديمقراطيا وتنمويا ليكون رائدا وماردا أفريقيا في قلب قارته. 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى